حتى تلك الانسة التي عرفت بجمـوح طبعها واعراضها عن سماع قول الناس، لمست في تلك الكلمة لسعة المهانة والخزي
“اعيد تاكيد موقفي، ليس في خاطري حضور الحفل الراقص المنتظر، ولا يتسرب الى نفسي سعي لاقتناء شريك. لذا، فان اطالة الحديث في هذا الشان لن تجني سوى تعكير الصفو واحتدام المواجهة؛ فلنتوقف عند هذا المطاف”
ظلت الانسة جولييت تقلب شفتيها وهي متوردة الوجه، وقد غلبها الغيظ والعجز عن الرد، اذ كان كل ما نطق به صراحا لا يدحض
‘بيد ان التمادي في الالحاح لن يثمر نظرة حسنة’
فالاصرار والتشبث لن يجلبا سوى تقريع اشد، وما كان ليسمع منه حديثا عذبا ابدا
“لنرجئ الخوض في هذا الامر الى موعد اخر. يبدو ان حمية جولييت قد اشتاطت قليلا”
جرعت الانسة جولييت ما بقي في الكوب من شاي كاد يبرد، وانزلت فنجان الشاي بصوت ينم عن الضجر
“ربما اذا التقينا مرة اخرى في وقت اسعد واروَق، استطعنا التوصل الى خلاصة ابهى”
ثم ختمت بموعد ترجوه، متيقنة انها قادرة في اي حين على لي عنق رايه
“حسنا، اذا ساعتبر ان التفاهم قد ساد، وارى لزاما علي ان انهض واغادر موقعي”
“…بهذه العجلة؟”
سواء استفهمت الانسة جولييت ام لم تفعل، كان الرجل قد شرع في القيام من مجلسه، وكان كلامها لم يعد يستحق منه التفاتة
“هل بقي لديك من حديث تجدر مشارته اياي؟”
لقد كان في وسعها التمسك به قبل قليل مدعية اهمية الامر، اما الان، فلن يكون هناك ما يساق من قول
“لا، في الحقيقة تبين لي انه لا شيء”
لم تستطع الانسة جولييت التي استعادت رباطة جاشها كبح خطواته، وكانها ايقنت خلو جعبتها من حجة تلزمه
“سنتجدد لقاؤنا في قادم الايام”
ارتسم على محيا الرجل ابتسامة مضيئة، كان جو الكابة لم يعرف غرفة الاستقبال. لقد كان يضمر كرها شديدا لتواجده في نفس مكان الانسة جولييت
“…تمهل لحظة!”
كان هذا عندما دنا الرجل من باب غرفة الاستقبال متخطيا اياي، فنادته الانسة جولييت على عجل ونبرة ملحة، وكان امرا طارئا قد وقع في ذهنها متاخرا
اطلق الرجل زفيرا خافتا يدل على نفاد الصبر بوضوح لمن يراه، ثم استدار
“لقد سالتني استعارة ذلك الوليد، اليس كذلك؟ بامكاني تلبية ذلك المطلب، ولكن لا ارتئي ان يكون ارساله في الوقت الراهن”
“الا ترى ان هذا امر بديهي؟ وفقا لما تفضلت به، فان هذا الوليد مزمع ان يلحق بك ممثلا عن كافة الخدم. وهذا يعني ان سمعة عشيرتنا مرهونة بسلوك واحد منه”
يبدو انه لم تكن للانسة جولييت نية في الحاق خادم اخر غيري بذلك الرجل
‘كنت اتوقع ان يرافقه اثنان على الاقل لخدمته’
لكن بالرجوع الى بيان الانسة جولييت، لا يلوح في الافق ان ذلك سيحدث
“بما انه اول فتى يشرف بخدمة ضيف منذ استخدامه في هذا المنزل، ساعمل على تربيته وتعليمه تعليما سليما قبل ارساله”
جعلتني كلمة ‘التعليم’ ارتعش رجفة غير ارادية. فبتذكر سجل الانسة جولييت السابق، كان من المحتمل ان تمارس القسوة البدنية بذريعة التاديب
‘بما انني لفت النظر اكثر من الانسة جولييت، لا احسب انني سانجو من الموقف سليما’
وفيما كنت اغوص في تلك الافكار، تدفق الشؤم علي كموجة عارمة
“ليكن ما تشائين”
رسم الرجل ابتسامة عابسة، وكانه لا يملك حيلة في هذا الجزء تحديدا
“جولييت لم تعد تعرف مقدار سعادتها لسلاسة هذا الحوار. سارسِل هذا الوليد الى غرفتك لاحقا كما اتفقنا”
اومت الانسة جولييت للرجل بمغادرة المكان، وقد بان على محياها شيء من الارتياح
غادر الرجل بخطوات مضطربة، كمن يطرد طردا من حضرة الاستقبال
صوت صرير ممتد. ثم دوي ارتطام!
في نهاية الامر، بعد ان غادر الرجل غرفة الاستقبال، لم يبق سوى انا والانسة جولييت
‘ماذا يعتمل في خلدها بالتحديد؟’
لم ارفع راسي كليا، بل املته قليلا ناظرة الى بلاط الارض
لم يكن هناك ملاذ افضل من هذا لاستغرق في عمق الفكر، وخشية ان تلتقي عيناي بعيني الانسة جولييت اذا رفعت راسي
فبما ان مزاج الانسة جولييت متكدر، كان الممكن ان تتخذ مجرد النظرة ذريعة للوم
‘لن يدوم لي صمت مريح’
لسوء الحظ، لم يطل ذلك الصمت
“…ايفنيا. ايفنيا. ايفنيا المقيتة التي لا تفارق البال!”
عندما رفعت راسي بلطف، صرخت الانسة جولييت صرخة مدوية وهي تجرف شعرها بعنف
كانت نبرتها عالية للغاية، حتى لو مر خادم خارج الغرفة لتسمر في مكانه فزعا
“الى متى ستتعلق بتلك المراة التي لا ضمان لبقائها على قيد الحياة! وجولييت التي تتسم بالكمال المطلق تقف شاهدة امام عينيك!”
افترض ان هذا هو القول الذي تمنت ان تسمعه للرجل الذي كان يشهد واقفا امامها منذ حين
“لماذا تعزف عن جولييت هكذا؟ هل نفسك متيقنة من عودة تلك المراة؟”
بدأت الانسة جولييت تقضم شفتيها بعزم، ثم عضت على اصابعها، كاشفة عما يعتمل في سريرتها
لقد كان القلق ينهشها، وبقدره كان البغض لتلك المراة
وادراكا مني لذلك، عقدت العزم على البقاء ساكنة كالميت، حتى تسترد الانسة جولييت وزانتها
لحسن الحظ، لم تلتفت الانسة جولييت الى وجودي، اذ كانت في شغل شاغل بتذكر شخصية ‘ايفنيا’. ظلت تردد الكلام في سرها
“…ماذا سيكون المصير ان عادت تلك المراة حقا؟”
تمتمت بصوت مرتعش، كانها تفترض اسوا العواقب، تاركة اياي في الزاوية مهمَلة
“جولييت لم تغتصب مكان تلك المراة. بل تلك المراة هي التي افلتت من يديها موقعها بجهالة”
بان على الانسة جولييت انها قد فقدت سكينتها. وما من سبيل للتفكير بغير ذلك؛ اذ كانت لا تستطيع اخفاء اهتزاز صوتها ويديها، وارتعاش مقلتيها
كانت تبدو شديدة التوتر، وفي الوقت ذاته غارقة في بحور القلق
“جولييت تكره تلك المراة كرها جما. تكره ان توصف بالتفوق عليها امام الناس، وتكره عدم اظهارها لاي اخفاق قط”
استرسلت الانسة جولييت في التمتمة دون انقطاع
“لكن تلك المراة قد اضمحلت! اذا غابت تلك المراة، اليس لزاما ان تتوقف المقارنة بيني وبينها الان! فلماذا يستمر الجميع في التفتيش عنها فحسب، بينما جولييت راسخة في موقعها هذا؟”
عند الاستماع الهادئ لها، وملازمتي لمكاني، يبدو ان الامر لا يقتصر على الكره، بل يتجاوز الى الشعور بالدونية
“اترى، تلك المراة، بما انه لم يعثر على جثمانها، هل هي على قيد الحياة حقا؟”
وكانها وصلت الى قرار لا فصل فيه، حنت الانسة جولييت جسدها كالقوس، وبدأت تقبض على شعر راسها بيديها بشدة
“اذا لم تكن رحلت، اذا كانت تشاغل انفاسها… فهل هي ترصد جولييت من مكان ما؟”
القت نظراتها جانبا للتحقق، لكن لم يحدث شيء خارق للعادة. وهذه حقيقة بينها، اذ لم يكن في الغرفة سوانا
“يجب الا تكون على قيد الحياة. كان من المحتَّم ان تموت. فالجثث تستحق ان تلتهمها النار، اليس كذلك؟”
بعدئذ، نطقت بكلمات مخيفة بلا مبالاة
كانت مقلتاها تتلظيان بلهيب غضب، وكان موت الكائن البشري بات امرا محتوما، وكانها ترجوا موته العاجل لو كانت تقاوم الحياة
“لن يسمح لها بالبقاء حية ابدا. اذا بقيت، فستعود لسلب موقع جولييت”
كان صوتها يفيض باليقين، وكانها قد اطلعت على علم الغيب
انصت لشكوى الانسة جولييت الهمسة بهدوء، مترقبة فرصة مواتية للتدخل
‘بما انها توعدت بارسالي بعد التعليم، فلن تهملني هكذا’
لكن، كلما طال مكثي بجوارها وهي على تلك الحال المضطربة، لم يكن ليجلب لي نفعا. والاولوية ان اجد مخرجا من غرفة الاستقبال، فالضرب العاجل اهون
“انت هناك. هل تعتقدين انت ايضا ان جولييت ادنى مكانة من تلك المراة؟”
في تلك اللحظة، خاطبتني الانسة جولييت، وكانها بدأت اخيرا تستشعر وجودي
“لا. بل لا تنطقي. انا امقت ان تزعمي انني افضل، بينما يتطابق محياك مع محيا تلك المراة، فسيبدو ذلك نفاقا بغيضا”
لقد سلب مني حتى حقي في الاجابة
“انبئك، ان لم يصبح ذلك الرجل حصة لجولييت، فلن يتملكه اي احد سواها. فلذا، اياك ان يتسرب الى خيالك الطموح لشجرة لا تبلغينها”
لم يدر في خلدي رغبة في امتلاكه منذ البداية، لكن يبدو ان الانسة جولييت تمتلك قدرة واسعة على التخيل
“غادري الان. فوجهك الشبيه بوجه تلك المراة يثير اشمئزازي”
في اخر المطاف، خرجت من غرفة الاستقبال دون ان اتلقى اي تعليم، مكتفية بنصح واحد ختمت به حديثها
‘اترى ينبغي لي ان اكون ممتنة؟’
اطلقت زفيرا هادئا من الراحة، وانا انظر الى باب غرفة الاستقبال الموصَد بقوة خلف ظهري
لقد خشيت ان يصيبني لوم قاس لانني كنت اكثر لفتا للانظار من الانسة جولييت، لكن لم تقع تلك النازلة
“اسمعت الاخبار يا ايفون. اسندت اليك مهمة ذات شان، اليس كذلك؟”
بعد ذلك، التفت، ورايت الشخص الذي كان قد ابلغني بالذهاب الى غرفة الاستقبال
“يبدو انك لفتِ النظر الى الانسة جولييت خلافا لاشارتي، هل انت بخير؟”
على الرغم من انني كنت محاطة بشتى انواع التوجس، الا انني سلمت في النهاية. اومت براسي بسلاسة
“انا بخير”
بمجرد النطق بتلك الكلمة اليتمة، انفَرَجَت اساريرها وربتت على ظهري
“بما انه من غير المرجو ان تكون الانسة جولييت قد قدمت لك تعليما كافيا، سابادر الى ارشادك بدلا منها الى ما يجب فعله”
التعليقات لهذا الفصل " 68"