عشرُ ليالٍ! لم يَكُن الأمر مجرد أسبوعٍ كما ظننت، بل عشرُ ليالٍ كاملة. دبَّ في نفسي شعورٌ بالوَهَن عند إدراكي أن وطأة هذا الوضع القَاصف ستستمر لأيامٍ معدودة أخرى.
’هذا يعني أني مضطرٌّ لمواصلة مراقبة هذا المشهد الخانق دون انقطاع.’
بلا شكّ، سيلزم ذلك الرجل جناح الضيف في الطابق الرابع لكونه وافدًا، بيد أن قيود البقاء لا تحجبه عن ارتياد أي ركنٍ من أركان هذا الصرح الشامخ.
وبهذا، ستكون المواجهات المتكررة حتمًا بينه وبين السيدة ‘جولِيِيت’، التي لا تجرؤ على خطو خطوةٍ واحدة خارج القصر، وسيتفاقم التناحر والتجهم بينهما كما هو دأبُهما الآن.
”كما يبدو لكِ، ‘إيفنِيا’ لم تعد مقيمةً في هذا الربع، ومع ذلك، لا يضاهيه مكانٌ في استجلاب ذكرياتي مع من كانت خطيبتي في سابق العهد.”
أدلى بذلك كأنه يحمل منطقًا قويمًا، ولكن حين أصغت السيدة ‘جولِيِيت’ للرواية، لم يبدُ عليها أي سرور. ربما لأنها أدركت أن بقائه الممتد في هذا القصر لم يكن مرتبطًا بها على الإطلاق.
”غير أني لن أكتفي بلباس الضيف الساذج فحسب. إن أذنتِ لي بالمكوث لعشر ليالٍ، فلي هديةٌ جلبتها معِي لكِ.”
هدية؟ تصرّف كما لو أن السماح بها لم يكن ليكون مجانًا، وأشار بيده إشارة تُفصح عن ما جلب.
عند ذكر “الهدية”، انقلب حال السيدة ‘جولِيِيت’ إلى وداعةٍ وتحَبُّب، كما لو أنها لم تبدُ مطلقًا موقفًا مشوبًا بالتذمر، وكان ذلك التحول فوريًا.
”صرح ‘جولِيِيت’ لا يختار ضيوفه اعتباطًا، فلا تُعْنَي بذلك. لك أن تمكث ما شئت، ثلاثة أيام كانت أم أسبوعًا أم عشر ليالٍ أم شهرًا!”
كان انعطافًا سلسًا كتقليب الكف، ولعل السيدة ‘جولِيِيت’ استشرفت شيئًا جليلاً بمقدار عظمة ما يحويه جناح النفائس السحرية، لكون الهدية آتيةً من ساحرٍ عظيم.
’إذا كان ذلك الرجل هو المعني، فهذا ليس بمستبعد.’
أومأت موافقةً في سريرة نفسي.
”تَبْسُطُ ‘جولِيِيت’ وكل من في هذا القصر أكفَّ الترحيب بالضيف.”
عند اطلاع الرجل على هيئة السيدة ‘جولِيِيت’ وهي على أهبة احتضانه بذراعين مفتوحتين، ارتسم على شفتيه قوس من السرور.
”حسنٌ، إذن، هل نقضي عشر ليالٍ أخرى في هذا القصر، متظاهرين بالخضوع لإلحاحك؟”
”ليكن ذلك.”
هَلْ كان لابتسامة السيدة ‘جولِيِيت’ – التي لم تَرُعْها شائبة – الفضل في ذلك؟
لقد بدا أن هذا المطلب قد استجيب بسلاسة، ولم يعد أحد في المجلس يثير خلافًا.
”سأُوعز بإرسال الهدية التي اصطحبتها إلى جناحكِ. تفقديها على راحتكِ.”
”لا ضير في إهدائها، لم تكن هناك حاجة، ولكن لن أستطع صد هذا الجود، لذا سأتلقاها بنفسٍ منشَرِحة.”
كشفت السيدة ‘جولِيِيت’ عن صريح مبتغاها، وكانت عيناه متوقدتان بالبهجة.
”أجل، وفي جعبتي أمرٌ آخر.”
لم تكن قصة الرجل قد اكتملت بعد.
”لدي اقتراحٌ ثانٍ.”
عند ذكر “الاقتراح”، انصبّت أنظاري وأنظار السيدة ‘جولِيِيت’ على ذلك الرجل بسرعة متناهية.
”إن كان لي أن أقيم في القصر عشر ليالٍ، فلا بد لي من خادم، على أنني لا أضع ثقتي في أيٍّ واحد.”
تسرب إلى نفسي نذير شؤمٍ غامض.
”لذا، أرجو منكِ أن تُلْحقي بي مؤقتًا شخصًا أرغب فيه.”
بدا كطلب استئثارٍ به دون غيره.
”…هل هو شخصٌ معروفٌ لـ ‘جولِيِيت’ أيضًا؟”
بدا ذلك أهم للسيّدة ‘جولِيِيت’ من مجرد مسألة إرسال خادم.
أجاب الرجل الذي وصلتهُ مسألة سؤاله دون أي تردد:
”قد يُقال إنه كذلك، وقد يُقال إنه ليس كذلك. كما ترين، زيارتي لهذا القصر لم تحدث منذ سنوات عديدة، فلا علم لي بكنه العلاقة بين سيدة المنزل وموظفيها.”
وبعبارة أَبين، كان يعني: ‘ليس بإمكان السيدة ‘جولِيِيت’ الإلمام بجميع الموظفين.’
”لا يغيب عن ‘جولِيِيت’ أي موظف، والجميع على وفاقٍ معها، فلا ضير إذن.”
’جولِيِيت على وفاقٍ مع الجميع؟’ انعقد لساني، فهذا التعبير يحمل جفاءً كبيرًا.
’بل هي أقرب للتباعد عن الجميع.’
يلتزم الجميع الصمت، ولكن لا بد أن عددًا غفيرًا قد حمل الضغينة على السيدة ‘جولِيِيت’ مثلي.
حتى إن لم يكن الأمر كذلك، فقد كثرت المواقف التي نعاتب فيها في كل مرة نستدعى، وطغت ساعات التأنيب على غيرها، لذا بات من العسير العثور على من يكنّ حبًا للسيدة ‘جولِيِيت’.
”إذن بادِر بالقول، من هو من بين من تعرفهم ‘جولِيِيت’!”
عندما دفعتها السيدة ‘جولِيِيت’ بإلحاح، ترشّف الرجل قدح شايه على مهل، ثم أنزل الفنجان مُجيبًا:
”الشخص الذي ولج التوّ.”
لماذا لا يُخالِفني شعور الشؤم طريقه أبدًا؟
”أرى أن من يقف متأهبًا هناك هو الأمثل.”
لم تكن تلك أبدًا بشرى.
”أعزم على اصطحاب ذلك الشخص معي لعشر ليالٍ.”
ألا يصل إلى مسامعكم صوت تصدّع كل هدوء؟
حتى قبل وُفودي لغرفة الاستقبال، كنت قد استمعت بتفانٍ إلى الرسول الذي جاء لاستدعائي، مؤكدًا عليّ عدم لفت الانتباه أكثر من السيدة ‘جولِيِيت’، ولكن كل ذلك ذهب هباءً.
لقد وقعت عين الرجل عليّ بالفعل، وتمت مناداتي أمام السيدة ‘جولِيِيت’.
’كيف لي أن أدبر أمر هذا الوقع؟’
انحدرت قطرات عرقٍ باردة على جبيني.
لقد كنت في وضعٍ يستدعي طاعة أوامر الأعالي في كل حين، وبدا لي أني سأتلّقى الضربات بين هذين الشخصين مرةً أخرى.
”كيف الحال؟ ألا تجدين غضاضةً؟”
أردت أن أجيب ذلك الرجل بدلًا من السيدة ‘جولِيِيت’:
’لا، بل هناك كثير من الغضاضة. كيف تسأل عن عواقب فعلك وأنت لا تعرف مصيري بعد ارتحالك من القصر؟’
’ربما لا ينتهي الأمر عند التوبيخ والعتاب.’
هي تمقُتني بعنفٍ لزعمها أني أشبه شخصًا ما، وإذا أضفنا هذا الوضع، فلا علم لي بما سألقاه، ولا أرغب حتى في تصوّر ذلك.
”تعرف ‘جولِيِيت’ هذا الغلام، غير أن هناك أكثر من متمرس بين من عملوا في هذا القصر لأمدٍ أطول. لماذا لم تختَر أولئك الأكافئ؟”
رد الرجل بلطفٍ على سؤالها الذي نضحَ بالتّهكّم:
”لقد اتبعت ما أملاه عليّ فؤادي لا غير.”
كانت كلمته الأولى وشياً بعاطفةٍ خفية.
”سواء كان الشخص متمرسًا أم لا، فلستُ بمقيم في هذا القصر مدى دهري، لذا يكفي أن يتصرّف بما لا يكدّر الرؤية لعشرة أيام، وهذا ما يُجيدُه كل مقيم في هذا الصرح، أليس كذلك؟”
يقول ببلاغة: ‘كيف يمكن لأي أحد أن يصمد في هذا القصر إذا لم يكن قادرًا على فعل هذا القدر!’
”غير أنه، هل يمسك بي سببٌ مقنع لعدم اصطفائي لذلك الغلام؟”
كان موقفه يعكس استعداده للرجوع عن كلامه إذا وُجد سببٌ وجيه.
”…حاشا أن يكون ذلك. ‘جولِيِيت’ سألت من باب الفضول فقط.”
حاولت السيدة ‘جولِيِيت’ أن تتجمل في عينيه، فعدّلت تعابيرها وهزّت كتفها مجيزة له أن يفعل ما يشاء.
”إذن، من هذا اليوم، سأستعير ذلك الغلام لعشر ليالٍ.”
وفي المآل، تقرّر أن أقضي عشرة أيام بجوار ذلك الرجل دون أن أبدي أي مقاومة.
”لم يبقَ ما نتداوله، فلنسدل الستار على هذا الحديث عند هذا المنجز…”
”‘جولِيِيت’ لديها بقية من حديثٍ!”
قطعت السيدة ‘جولِيِيت’ كلامه، كما لو أنها ترغب في صده عن النهوض من مجلسه.
”هي قصة بالغة الأهمية.”
بدى أن كلمة “أهمية” جعلت الرجل يرسو في مكانه.
’لو أنني انسحبت من هذا المكان لكان خيرًا لي.’
ومع ذلك، على الرغم من أن السيدة ‘جولِيِيت’ وصفتها بالقصة الهامة، إلا أنها لم تأمر بانصرافي، كما لو أن سماعي لها لا يحدث فرقًا.
”ما هي القصة التي تدعوكِ لهذا العجل؟”
أومأ الرجل برأسه كما لو أنه يقول: ‘لنرَ ما عندكِ.’
”تلقت ‘جولِيِيت’ دعوةً لحفل الرقص الذي سيقيمه البلاط الإمبراطوري منذ حين قريب.”
نظفت السيدة ‘جولِيِيت’ حنجرتها وألقت قصتها بترددٍ وحذر:
”لقد اجتمعت فيه كل عائلةٍ ذات حسبٍ رفيع، ولا بد أنك نلت نصيبك من الدعوة كما حصل لـ ‘جولِيِيت’.”
عند ورود سيرة حفل الرقص، شعرت أن الأمر واقعي جدًا، بخلاف حال هذا القصر العجيب.
”إذا قصدتَ حفل رقص، فاللائق بك أن تُصحَب شريكًا، وبالطبع، لي من النسب الحسن ما يجعل الكثيرين يتمنون مرافقتي.”
لمست الطاولة بإصبعها السبابة وهي تدعوه للتفكير، ثم واصلت كلامها:
”بين الناس لغوٌ كثير عن خطيبتك، أَماتت أم فُقدت، ولكن الثابت هو أنها لم تعد بعدُ.”
بدى التجهم على وجهه، إشارة إلى أن الحديث عن خطيبته بهذه الطريقة لم يرضه.
”لذا، في حفل الرقص القادم، اختر ‘جولِيِيت’ شريكًا بدلًا من خطيبتك التي غاب أثرها.”
لا بد أن هذا هو منتهاى القول في هذه القصة.
”‘جولِيِيت’ لن تكون بتبديل خسيس. ‘جولِيِيت’ تستكمل الأوصاف جميعها، فالوفرة والمكانة والحسن كله لديها.”
بدت متفَيِّضة بالثقة.
”لا أرى في الشروط حيفًا على أيٍّ منا.
لذا، إذا لم تعقد نيتك على شخصٍ بعينه، فما رأيك في اصطفاءِ ‘جولِيِيت’ شريكًا والوُلوج معها؟”
بالطبع، كنت أنا من أصغى إلى هذه الأقوال كلها بتدقق، وكان الرجل يستمع إليها بتهاون.
”من المسلم به أن شروطك ليست سيئة، ولكن لا بد لي من الرفض.”
لم يعتريه أدنى تفكير.
”لأي سبب؟”
”يبدو أنكِ تجهلين أمرًا واحدًا، سأعلمك به: ليست لديَّ نية في حضور حفل الرقص هذا، على نحو ما كان دائمًا.”
هل كان لخلو وجهه من التعابير علّة؟ بدا أشد صرامة.
”إذن، لنقل على الأقل: أعد النظر في فسخ الخطوبة. لم يعد لهذه الرابطة مغزى، ولو أكرهت نفسك على الإبقاء عليها!”
سألته باستنكار كما لو كانت تقول: ‘كل الناس يُدركون هذه الحقيقة، وأنت وحدك لا تدركها؟’
فعندها شوه الرجل ملامحه دون حرص، كما لو أنه لم يعد يطيق الكتمان.
”سأعتبر هذا الحديث لم يُقل.”
بحزم، كما لو كان يحافظ على رمقٍ أخيرٍ من الكياسة.
”أقول هذا لأنني لا أستسيغه مهما رددت الفكر.
أليست ‘جولِيِيت’ أجدَر بك بمراحل من امرأة لا تُؤمن عودتها؟ ‘جولِيِيت’ أحق أن تكون شريكتك وخطيبتك!”
هذه المرة، بدا أن التجاهل كان عسيرًا، فتنهّد الرجل.
”بأي ميزانٍ تزنين نفسك أفضل وأنت لا تستطيعين مجاوزة ظفر قدمها؟”[زوز: اوباااااااااااااااااا!!!!!!!!!!!
التعليقات لهذا الفصل " 67"