بمناسبة حديثنا عن ‘ليون’، فقد وصلني نبأ صادم عشية مجيئي إلى هذا المكان.
“نبأ صادم؟ وما عساها تكون؟”
بمجرد أن أفلتت تلك الكلمة من لسان أحدهم بغتة، استحالت أنظار الجميع، بل وأعصابي أنا كذلك، مشدودة نحو مطلق الحديث.
“لقد كان نجماً في اجتهاده ولطفه مع الجميع، ولهذا كنا نكن له الود. ورغم استغرابنا لغيابه المتواصل لبضعة أيام، فالـيوم بات مؤكداً أنه لن يعود إلى الظهور مطلقاً.”
‘لن يعود للظهور؟’ أصغيت بكل جوارحي، متسائلة عن كنه ذلك القول، فإذا بي ألتقط خبراً لم يكن في الحسبان.
“يُقال إنه آثر الانسحاب والاستقالة في صمت دون علم لأحد، ويبدو أن قرار الاستقالة قد مضى عليه بعض الوقت. كان الجميع يتكتّمون على الأمر، لكنهم بدأوا بالفعل في التنقيب عن مستخدم جديد شيئاً فشيئاً.”
تسمّر الجميع وكتموا أنفاسهم دهشة عند سماع لفظ “الاستقالة”. ولم أكن بمعزل عن هذا الارتباك.
“لماذا هذه المفاجأة؟ ما الذي دفعه للاستقالة بعد مسيرة ناجحة؟”
“والله لا أعلم خفايا الأمر، لقد اطلعت على هذه القصة بجهد.”
حيث أنه أصر على جهله بالحقيقة رغم تلّهب المحيطين، فإن الأمر يبدو حقيقة لا مراء فيها.
“هذا مجرد ظن يعتَريني، ولكن أليس من شأن شخص بذل هذا الكم من الجهد في عمله أن يغادر فجأة إلا لسبب خاص، كأن تكون قد حلت بعائلته مصيبة أو نحو ذلك؟”
اغتمّوا كثيراً وهم ينوحون على رحيله الخفي دون أي بيان أو وداع طوال سنوات خدمته.
‘أحقاً استقال؟’
على خلاف الآخرين، يبدو أن عاطفة أخرى غلبت على حزني.
‘لقد أكد لي أنه سيبقى هنا طويلاً حين سألته.’
عندما استفصرت منه عن مدى استعداده لمغادرة هذا القصر رفقتي، جزم برفضه القاطع. ولهذا، اندثرت عزيمتي على إقناعه تلقائياً.
فقد بدا لي أنه قد عزم أمره على مواصلة العيش الرغيد في هذا الصرح العجيب، متمسكاً بكل قاعدة، إلى درجة غدت معها الكلمات الطيبة بلا جدوى.
‘رغم أن ابتعاده دون توجيه سلام يؤرق ضميري، إلا أنني على ثقة بأن ليون بخير.’
ما بعث القلق في نفسي كان في مواضع أخرى.
هل اتبع الإجراءات السليمة للاستقالة في هذا القصر الغريب، وما هو الباعث الأصلي الذي اضطرّه للرحيل؟ كل هذه الأمور أثارت توقي للمعرفة.
“مهما تعددت الأسباب، فإنه كان خير إنسان بلا شك، فلين لنا سوى تمني العيش الرغيد له.”
توافق الجميع على هذا الرأي وهم منشغلون بأعمال التنظيف.
‘حقاً، لن نلتقي به ثانية.’
كم كنت أوَد أن أسأله عن سبب تحوّل قلبه المفاجئ، لكنه رجل انقطعت سبل اللقاء به.
لا شك أن هذا الفراق المباغت يصعب إخفاء الحزن عليه، لكن ما عسانا نصنع؟
فاللقاء مقرون بالفراق، ولم يبق لي إلا أن أتضامن معهم في الدعاء لـ ‘ليون’ أن يستريح من شقاء هذا القصر الغريب، ويظفر ببيئة عمل أجود وبأناس أخيار.
“لنطوِ صفحة الحديث الكئيب هنا، وما رأيكم أن نتطرق لحديث آخر؟ لنتحدث عن الضيف الذي وصل اليوم. كما يليق بولد دوق، فقد وصل على متن مركبة أكثر روعة. إنها أول مرة في حياتي أشاهد فيها مركبة تخلُب الأبصار إلى هذا الحد.”
تحوّل محور الحديث مجدداً إلى ‘كيليان’، الذي زار القصر اليوم.
‘مركبة تُخلُب الأبصار…’
إذا كان شخص ممن درج على رؤية مركبات عائلة الماركيز، بحكم عمله في قصرهم، ينطق بهذا القول، فلا ريب أنها تتسم بالفخامة حقاً.
‘لا بد أنها تلك الواقفة هناك.’
انسابت نظراتي دون وعي نحو المركبة التي تلوح خلف النافذة.
كانت تلك المركبة متألقة، براقة، تشد العين حتى من بعيد، وبدى قدرها يعادل ثمن عدة متاجر في شوارع العاصمة الصاخبة.
‘ولكن لا يجب أن ننسى أنها مركبة مخصصة للزيارات العابرة، فلا شك أنها تتخلف في بعض الجوانب عن المركبة التي يعتاد استخدامها يومياً.’
بمعنى آخر، مهما بدت باهرة في أعين الآخرين، فلم يُظهر مالكها الحقيقي أي إعجاب يُذكر بها.
…ولكن كيف لي أن أعلم كل هذا؟
‘إنه رجل أراه لأول مرة اليوم.’
لقد ومضت في ذهني بعض الذكريات الغريبة في أحايين سابقة، لكن هذه كانت من طبيعة مختلفة.
بدا هذا الأمر شبيهاً بتلك الحالة التي انبثقت فيها الفكرة فجأة بينما كنت أتَنقّل بالمركبة لأهلك الدمية التي تأبى الرحيل.
“آه، ها هي ذي!”
وفي لحظة كنت فيها على وشك العودة إلى العمل، معتقدة أن تلك الفكرة الطارئة لا تمت للواقع بصلة، إذا بأحدهم يقترب مني بصوت مرتفع.
“لقد بحثت عنك طويلاً يا ‘إيفون’.”
كانت إحدى اللواتي تعاونت معهن في العمل عدة مرات، وتكن لي الود.
“هل من أمر ما؟”
بما أنها دعوتني بينما كنت أنظف، ساورني القلق من أن يُلقى علي مزيد من المهام. فلم يكن مستغرباً أن تُسند إلي أعمالاً لا تكفي لها جهود ثلاثة أشخاص في يوم يشهد وفود ضيف.
“الآنسة ‘جولييت’ تطلب وجودك.”
“أنا؟”
سألتها بنبرة مملوءة بالاستغراب.
‘لم تطلبني منذ حين، فلماذا تنده لي فجأة؟’
في تلك اللحظة، راحت ذاكرتي تنبش على عجل عن أي هفوة قد أكون ارتكبتها دون وعي. لكن لم أجد في الحديث القريب ما يعكّر صفو الآنسة جولييت.
“نعم، إنها ترغب فيكِ. سمعت أنها توجّهت مع الضيف إلى غرفة الاستقبال، وترغب في أن تتولّى خدمتها.”
يا له من قدر أن أقوم بخدمة الآنسة جولييت في يوم كهذا!
بما أنهم سيحرصون على إكرام الضيف الذي تجرأ على زيارة هذا القصر الذي يتحاشاه الجميع، خفت من وخامة العقاب الذي قد يلحقني إن ارتكبت أدنى خطأ أمامها.
‘يجب علي الحذر، فمشاعر الآنسة جولييت اليوم ستكون في أقصى درجات الحساسية.’
بما أنه يُقال إنها اجتهدت في اختيار ملابسها لاستقبال الضيف، فلا ريب أنها ستجهدني إجهاداً شديداً منذ اللحظة الأولى لتقديم الشاي.
‘ربما، وكما حدث سابقاً، قد تتخذ من درجة حرارة الشاي أو لون الفنجان ذريعة للعقاب.’
كل ما أرجه هو أن أكون قادرة على مجاراة تقلبات مزاجها الفورية.
“لقد تم تجهيز الشاي والحلوى التي يجب أن تحمليها، لذا يمكنك التوجه إلى غرفة الاستقبال مباشرة.”
ربّتت على ظهري كما لو كانت تبث فيّ الطمأنينة.
ولكن لم يكن في ذلك أي مواساة. ألم يكن أهل البيت من حولي ينظرون إلي بعين الشفقة، كمن يتخيل المصير الذي سألاقيه؟
“لا تقلقي. لن تعترضك مشكلة ما لم تقومي بفعل يُكدر الآنسة جولييت. أمم. بمعنى آخر، الأفعال التي… قد تكون كذلك.”
لم تكمّل جملتها كما لو كانت على وشك إعطائي مثالاً، لكنّي كنت أدرك جيداً دون سماع.
“إنها كثيرة لا شك. كثيرة، ولكن الأهم من ذلك كله هو: ألا تقومي بتصرف يلفت النظر أكثر من الآنسة جولييت أمام الضيف.”
هزّت سبّابتها أمام عيني مؤكدة على القول.
“سيكون من الأفضل أن تعتبري الآنسة جولييت بطلة العالم اليوم، وتباشري خدمتك على هذا الأساس.”
إن كان الأمر كذلك، فإنني أمتلك الجرأة للحفاظ على ذلك.
فأنا لا أطمح لحياة ملفتة للأنظار، وبالأحرى، لا أرغب مطلقاً في البروز أمام الآنسة جولييت.
أومأت برأسي في تسليم، وتبعت خطواتها.
‘حسناً. هيا للدخول.’
حملت ما تهيأ وأخذت نفساً عميقاً واحداً أمام باب غرفة الاستقبال.
حيث أن الأشخاص الذين أجد صعوبة في مجابهتهم قد اجتمعوا في هذا المكان بالتحديد، كان من الضروري التهيؤ النفسي قبل الدخول إلى الداخل.
طرْقٌ… طرْقٌ…
لم أَكد أسترد هدوئي، حتى طرقت باب غرفة الاستقبال، إذ لا يجوز لي المزيد من التباطؤ.
“لقد وصلت لتقديم الخدمة، أيتها الآنسة جولييت.”
بمجرد أن أوجزت غرضي، سمعت صوتاً بهيجاً من الداخل يأذن لي بالمضي قدماً.
وعلى الفور، دخلت متجاوزة شعور القلق، وأنا أضغط على المقبض بسهولة، فأبصرت الشخصين وهما جالسان متقابلان.
على اليسار كانت الآنسة جولييت في أبهى زينتها، وفي الجانب المقابل كان ذاك الرجل الذي التقيته صدفة هذا الصباح.
‘هل كانت هناك حادثة ما قبل وصولي؟’
رغم تقارب سنّهما الذي يوحي بوجود أرضية مشتركة بينهما، إلا أن جو الأنس والمودة كان غائباً.
كانت الآنسة جولييت تبتسم ببراعة كالرّمح، في حين كانت ملامح الرجل المسمّى ‘كيليان’ قاتمة كمَن يواجه حتفه، مثل الدرع.
“ضعِ ما جئت به، وانسحبي للوقوف عند ذلك الجدار.”
“أمركِ، يا آنسة.”
رَمَقَتْني الآنسة جولييت بنظرة عابرة، ثم حوّلت بصرها إلى ذلك الرجل مجدداً.
رأيت ذلك، ورأيت أن الخير في الصمت، فلم أفعل سوى وضع الشاي والحلوى وانتقلت إلى موقفي في الزاوية القصية بهدوء.
“لو أنك بادرت بإخبارنا مسبقاً بدل الوفود المفاجئة، لكانت جولييت قد أعدّت لك استقبالاً عظيماً وانتظرتك بحفاوة، يا للخسارة.”
تحدثت الآنسة جولييت بصوت رقيق وهي تمحو وجودي من حسابها تماماً.
“لا أعتقد أنني كنت سأجد في ذلك ما يلبي تطلعاتي، حتى لو كنت قد أبَلغتكم سلفاً.”
ربما لأنها لم تنل الإجابة المنتظرة، ظهر على محيّاها تجهم عجّل غضبت فيه لحظة، ثم عادت لتبتسم في اتساع.
“لقد جئت فقط لأثبت موقفي بوضوح.”
“موقفك؟”
“لقد قدمت لأصرّح بأنني لا أنوي أبداً فسخ خطوبتي من ‘إيفينا’.”
عند سماع اسم ‘إيفينا’، عقدت الآنسة جولييت حاجبيها قليلاً، ولكن عند سماع ما تبع ذلك من الحديث، شدّت على شفتيها.
“وبما أنها زيارة طال انتظارها، فسأمكث هنا لفترة قبل أن أغادر.”
التعليقات لهذا الفصل " 66"