كلُّ ما ينعكس في المرآة هو الحقيقة
لا يمكن أن يكون لذاته
‘هذا لغو لا يستسيغه العقل’
لماذا؟ ما سر هذا؟ فلم يكن ذلك الشخص المنعكس في لجة المرآة سواي قطعًا
لنستحضر هيئة الوقوف أمام تلك المرآة التي هي من لوازم السحر أيضًا
لقد احتشد هناك خادم لم نألفه، وامرأة ورجل
كانت المرأة الغريبة هي إيفينا روزيفينا، وكان الرجل خطيبها
إلى هذه النقطة وحسب، لربما كان حديث الناس عن كونها يكشف عن قطعة من الماضي صائبًا لا خطأ فيه
‘هذا إن افترضنا أن تلك هي حالة إيفينا روزيفينا عينها عندما انتصبت أمامها’
لكن العلة الكامنة ترجع إلى كوني أنا، الشخص المغائر لها، من استبان ذلك الماضي
“قولك إن العجب اعترَاك من المرآة، يعني بلا شك أن بصرك قد وقع على شيء متجلٍ فيها، أليس كذلك؟”
تلك هي اللحظة التي كانت فيها علامات الاستفهام تتردد في جوف رأسي دون فتور
وضعت الآنسة جولييت ساعتها الجيبية على السطح ثم أسندت ذقنها بكفها وسألت
“فما الذي استطبعت رؤيته في ذلك المكان؟”
بمجرد ورود ذلك الاستفهام، ابيضت مساحة ذهني بأسرها
على الرغم من إقرارهم بأن المرآة لا تجسد إلا جوهر الحقيقة، إلا أنني لم أتمكن من سرد ما شهدته بحرفيته
لأن ما وقع عليه نظري كان يتعلق بالشخص الذي تكن له أشد الضغينة
‘كونه موضع كراهيتها هو معضلة بادية، لكن لو أفصحت عن الحقيقة كما هي، فربما تنهال علي بالأسئلة بهمّة لتكتشف سبب رؤيتي له بالذات’
إذا آل الأمر إلى ذلك، فربما تنال مني الوهن والإرهاق قبل بلوغ صميم الحقيقة
“لم يكن أمرًا جلال”
لم أجد مفرًا من صرف النظر بعبارة تناسب المقام
“لقد انعكست لي هيئة طفولتي كما حدث لك أيتها الآنسة
على الرغم من أنني قد نموت وازدَدْت طولًا هكذا، إلا أن صورتي في المرآة بدت غضة صغيرة جدًّا، وهذا ما بعث فيّ الاستغراب”
إذا عرضت حادثة مشابهة، ستبدي التعاطف وتكف عن السؤال
“يبدو أنك قد خضت تجربة تشابه تلك التي خاضتها جولييت؟ حسنًا
بالتأكيد، قد يفاجئني مرآة هيئتي في الصغر فجأة”
لحسن الطالع، عبرت الآنسة جولييت عن التعاطف كما تنبأت، ولم تواصل الاستفسار بإلحاح
“زعموا أنها قد تظهر المستقبل، إلا أن ذلك في الحقيقة أمر شاق، لذا فالآخرون كمثلنا لن يروا أكثر من مجرد صورهم وهم أطفال صغار”
أيقنت أن سائر الناس لن يختلفوا عنها قطعًا
وأضافت مستفهمة عما إذا كان الحديث عن كشف المستقبل مجرد مبالغة
“على كل حال، لقد نلت ما ترجينه، لذا بات بوسعك الذهاب الآن”
أشارت الآنسة جولييت بيدها بخفة
“جولييت قد اشترت زمانك، فلتنتهي لما تأمرك به
أليس من الأحسن أن تنصرفي مبكرًا؟”
لم يكن هذا الشرط بنظري سيئًا
على الرغم من أن تعبير ‘اشتريت زماني’ لم يرض نفسي تمامًا
ومع ذلك، حتى لو عدت إلى حجرتي الآن، وبين يديَّ بقية من وقت الدوام، فلن أستدعى لعمل آخر
“إذن، أستأذن بالانصراف أولًا”
لم يعترضني سبب للرفض، فاختَرْت الانصياع لقولها
بعد مضي بضعة أيام من ذلك الوقت
‘لم تعد تبادر بالنداء’
منذ ذلك اليوم، لم تستدعني الآنسة جولييت ولو لمرة واحدة
وكأنها قد نسَت كينونتي بأسرها
‘عدم استدعائي في الحقيقة أمر مستحسن’
فما إن يُطلب مني الحضور إلى جناح الآنسة جولييت، حتى أعاني من ضروب الإهانة
فلربما كان هذا المسلك خيرًا لي
بيد أن عدم بحثها عني لم يعني بتاتًا أنها قد عاودت الانزواء
‘لم يصلني نبأ لزومها الغرفة كما كانت في غابر الزمان’
قبل بروز الآنسة جولييت الأخرى، كانت تبدو كمَنْ لم تغادر الغرفة المتوَعِّرة خطوة واحدة
لكنها الآن تبدو حرة طليقة، تغدو إلى حيث تهوى وتفعل ما تشاء كما كانت في السالف
وهنا، ثمّة شخص آخر يسير إلى مطالبه ويفعل ما يهوى
“إيفون تبدو منهكة، آه، منهكة اليوم أيضًا
هل كان لديك غ، غمام من المهام لتنجيزيها؟”
ظهر إينيس، الذي غابت طلعته عن الأنظار منذ حين
“لأن تحت عينيك مس، مسودّ حد السواد، هذا هو كلامي”
نقرت إينيس تحت عينيها مؤكدة على قولها
حقًا
بالتأكيد، لقد شاهدت تلك الهالات السوداء منذ استيقاظي في هذا الصباح
“يغشاني بعض التعب، لا ريب”
أقرت بذلك بخفة
فإينيس ليست الآنسة جولييت، ولم يكن هناك ما يستدعي المحاورة
‘على أي حال، لم أخطر ببالي أنني سألتقي بها في مثل هذا الوقت’
لم يتبق سوى ساعة واحدة تقريبًا على انتهاء الدوام، وكنت غارقة في أعمالي
الجانب المضيء، لحسن الحظ، أنه لا يوجد من يجاورنا ليشهد حديثنا سويًّا
‘لم أكن أتصور يومًا أنني سأجد في العمل بمفردي ما يبعث على الارتياح’
في بادئ الأمر، ظننت أن العمل في ثنائي قد يكون أجدى
لكن النتيجة الحالية كانت مواتية
“لكن لأي غرض قدمت إلى هذا الموضع يا إينيس؟”
سألت وأنا أكنس الفناء الخلفي للقصر بهيئة اعتيادية
“حسنًا، جئت لأُساعِدك
فقد أتممت مهامي في وقت مبكر، لذا قدِمت لأعين في عمل آخر”
بدى المشهد قريبًا من ذاك الذي عرفته سابقًا
مثل ذلك اليوم الذي عاينت فيه الخادم المصاب أول مرة، شرعت إينيس في كنس الفناء الخلفي بالمكنسة التي حضرت بها، مبديّة رغبتها في مساعدتي
“آه صحيح، شكرًا جزيلًا على المعاونة في المرة السابقة”
المرة السابقة؟ المعاونة؟
لم أستوعب في اللحظة الأولى مقصد قولها، لكن بعد مهلة، تبين لي مغزى عبارتها
“إذن، لقد ظفرت بصاحب القطة التي التقينا بها في المرة الماضية، أليس كذلك؟”
لقد كدت أنسى ذلك الأمر بسبب الإرهاق الذي اعتَراني من كثرة الأحداث مؤخرًا
‘لقد اعتَراني ذهول عظيم في ذلك الوقت’
عدم انعكاس إينيس في زجاج النافذة أمر مفرغ منه
لكن لم يخطر ببالي أبدًا أن القطة السوداء لن تنعكس أيضًا
“أجل، لقد اهتديت إلى صاحبها، والقطة ستكون مغبوط الحَال الآن”
صاحب قطة سوداء لا تنطبع صورتها في زجاج النافذة
لا أدري كيف اهتدت إليه رغم أن القطة قد تكون خفية عن الأنظار كإينيس
‘فالجهل ببعض الأمور راحة’
لربما كانت تنسج الأكاذيب، لكنني قررت ألا أنبس ببنت شفة
فقد يلحق بي الضرر إن عمّقت في المعرفة
وهذا يعود إلى نفس السبب الذي يدعوني أحيانًا إلى التغاضِي عن عدم تللثمها في الكلام
“لكن يا إينيس، تبدو عليك سكينة ومردّ طيب بشكل لافت اليوم”
على نقيضي، حيث يلفني الإرهاق والكَدّ، كانت طَلعة إينيس مشرقة بشكل باهر
كما لو أن أمرًا جيدًا آخر قد حل بها سوى العثور على صاحب القطة
تملكني الفضول عما الذي بعث في نفس إينيس هذه النشوة، فبادرت بسؤالها
“أجل، أنا في غبطة عظيمة
فللتو بدأت الأمور التي كنت أترقبها في الاقتراب واحدة تلو الأخرى”
الأمور التي تترقبها؟ دب في قلبي القلق لأن هذا القول صدر من إينيس بالتحديد، وليس من أي شخص آخر
‘إذا نطقت إينيس بهذا، فهذا ليس أمرًا مألوفًا على الإطلاق’
هذه عبارة من لسان شخص وُصف بأنه ‘خارج عن سياق قواعد العمل’
لا شك في أن الأمر يُفارِق مسار العادة
“فأي أمر ذاك؟”
سألت بحذق وكأنني ألتزمس منها مشاركة لحظاتها البهيجة
بطبع الحال، لم تهدأ يدي عن تحريك المكنسة
“شخص أل، ألفته سيعاود الكرة إلى هذا القصر عن قريب”
كانت الإجابة تميل إلى الإبهام أكثر منها إلى الوضوح
‘هل هذا الشخص الذي تعرفه حقيقي على أرض الواقع؟’
عند هذا المنعطف، أضحت كل كلمة تنطق بها إينيس موضع شك
‘فربما يأتي شخص لا يمكن له أن يوجد، كما هو حال إينيس’
قد يتزايد وجود كائنات مماثلة لإينيس، التي عُرفت بأنها غير مدرجة في قواعد العمل
“هل يعني أنه شخص عزيز عليك؟”
ربما كانت الأمور التي تترقبها إينيس متعددة، لكن لنؤجل التفكير في ذلك لاحقًا
رغم أنني لا أعرف هوية ذلك الشخص، لكن بما أنها أكدت على عودته القريبة إلى هذا القصر، فسأسعى لإجراء تقدير تقريبي لأتأهب نفسي
“ليس بالقريب، بل هو مجرد شخص لي به سابق معرفة، وتبادلت معه بعض الأقوال”
إذن، هل هو زميل سابق في هذا الصرح؟
على الأقل، أدركت أن الرابطة بينهما لا ترتقي إلى درجة الصداقة
“أنا مسرورة فقط لأننا نتشارك نفس المغزى”
نفس المغزى… كلما توغلت في سماع القصة، ازدادت شعورًا بالانغماس في ديَاجير غامضة
إنه شعور مشاهدة الخيوط تتجه نحو الختام دون أن يُحل أي لغز بعد
“كيف لك أن تعلمي بأن شخص كهذا سيعود إلى القصر عن قريب؟”
هل أعلمها هو مباشرة؟
“هذا يرجع إلى أنه قد بلغني بالخبر سلفًا
لقد أخبرني أنه سيأتي في غضون أسبوع”
يبدو أنه ذكر موعدًا زمنيًا دقيقًا إلى حد ما
‘من هذا الشخص يا ترى؟’
كلما ازددت سماعًا، استصعب علي تصور هوية هذا الشخص
“أتضرع إلى الله أن يصل من تترقبينه دون تأخير”
“أجل، أنا أيضًا أرتجي ذلك”
ابتسمت بفرحة للكلام الذي خرج مني دبر اللياقة
لكن تلك الابتسامة لم تطل المكث
“عندما أتأمل، يبدو أن الأمور السعيدة تحدث بالتوازي مع الأمور العسيرة”
إذ إن وجهها قد اكتسى بظلال الكدورة، كما لو أن السحاب القاتم قد تجمّع
“هل طرأ ما يكدّر؟”
توقفت إينيس عن حركة كنسها التي كانت تجاريني بها، وأطلقت تنهيدة عميقة
“فالشخص الذي كنت أعرفه حق المعرفة قد فارق هذا القصر منذ حين”
فارق؟
بالنظر إلى وصف إينيس له بأنه شخص كانت تعرفه حق المعرفة، يبدو أنه كان مقرّبًا إليها بخلاف الشخص الذي ذُكر آنفًا
‘هل هناك من قدّم استقالته مؤخرًا؟’
عدد العاملين محدود، لذا إذا ترك أحدهم العمل، لكان لزامًا عليهم توظيف عامل جديد
لكن لم يصلني خبر بذلك حتى الآن
‘لا، ثمّة أمر آخر يتحلى بأهمية قصوى’
لا ينبغي أن ترتكز البوصلة على ذلك
إذا كان الشخص الذي تحدثت عنه إينيس ‘خادمًا رسميًا’، فهل يعني ذلك أن هناك شخصًا آخر يتمتع بالقدرة على رؤية إينيس كما أراها أنا؟
هل وُجد شخص آخر خاض هذه التجربة الغريبة معي؟
لم يقع بصري على محياه، لكن شعورًا غامضًا بالتشاكل دبّ في أعماقي
“لكن لا عليك، سأتمكن من لقائه عن قريب”
اعتراني حنين للسؤال عن سر هذا اليقين، لكني آليت على نفسي الصمت.
التعليقات لهذا الفصل " 62"