…هكذا خالَجني الوَهْمُ للوهلة الأولى، لكن لما أمعنت النظر، تبين لي أنها ليست أنا
فالشعر الأسود الفاحم الذي يتدلى بلُطف وأناقة نحو الأطراف، والعينان الزرقاوان كالبحيرة الساكنة، كلها كانت مطابقة لما أمتلكه، لذلك كادت بصيرتي أن تزغ للحظة
‘فاللباس مُغاير لما أرتديه’
لم يكن سبب يقيني بأنها ليست أنا إلا واحدًا، فقد كانت هيئتها خلاف هيئتي
فكيف هو مظهري الحالي؟ إنني أرتدي ثوب الخادمات الموحد، الذي يشهد على كوني إحدى مستخدمات هذا القصر، وأحمل بيدي صندوقًا جهزته بعناية نفاذًا لطلب الأنسة جولييت
إذًا، ماذا عن الصورة المنعكسة في المرآة؟
لقد كان تشكيل الوجه مطابقًا تمامًا، كأنها تصور وجهي في الحقيقة
غير أن الشخص المرتسم في المرآة كان يكتسي ثوبًا فاتنًا يليق بمن ستحضر به الأنسة جولييت حفلة الرقص
وكان بمقدوري أن أتبيّن مصدر هذا الفستان الباهر أيضًا
‘هو بعينه النقش الذي شاهدته في دليل الأزياء’
حين عرضت عليّ الأنسة جولييت الأخرى ذاك الدليل، شهدت ثيابًا نسجتها دور أزياء متفرقة
ولكن، كما لكل مصمم بصمته التي يَنفرد بها، كانت هناك خصوصيات متشابهة، ملحوظة أو خفية، في الملابس التي خرجت من كل مشغل للخياطة
كَإظهار سمة مميزة على ثنايا الثوب، أو إدماج نمط متكرر يسير
من الجلي أنهم سعوا لجعل التقليد مفضوحًا لمن يحاول صنع زيف، وهذا ما لمسته في لباس المرأة المنعكسة في المرآة، فالنمط الموحد جعلني أعرف مصدر صنعه على الفور
‘فالتحصل على أزياء ذلك المكان ليس بالأمر الهيّن’
لقد ذكروا أنه مشهور للدرجة التي تجعل الحجز فيه يستغرق عدة سنين، وفي بعض الأحيان، إذا كانت الرغبة ملحة، كان على المرء أن يبذل ثروة للفوز بها
‘تمهلي، كيف لي أن أحوي هذه المعرفة؟’
إن هذا الأمر لم تُطلعني عليه الأنسة جولييت الأخرى، ولم أجد تفسيرًا لكيفية علمي به، لعله خطر على البال من باب اللاوعي
‘هناك من يجاورها أيضًا’
كانت تقف إلى جوار تلك المرأة المتوّجة بأغلى ما يمكن أن يكون، غالبية من النساء يرتدين زي الخادمات مثلي، كُنَّ متجمعات في هيئة دائرة، كما لو كنّ في خدمتها، لعلهن يقمن على شأنها
“لقد تم الإعداد بأكمله”
في تلك اللحظة، نادى أحد الخدم المحيطين بالمرأة المنعكسة، سمعت صوته كأنه يقف بجواري في لهجة ناطقة
طرق خفيف
إثر ذلك، سمعت صوت طرق على الباب، كذلك، بلغ الصوت مسامعي بوضوح ساطع، كما لو أن الطارق على الباب يجاورني
‘من هذا؟ لم أشاهده قط’
على الرغم من أنه كان يرتدي ملابس خدم القصر عينها، إلا أنه دخل الغرفة شخص لم ألتق به مطلقًا في حياتي
قال الخادم الداخل إلى الغرفة للمرأة التي تشبهني، وتبدو كأنها سيدة من بيت نبيل:
“سيدتي إيفينا، لقد وصل ضيف للمقابلة”
…إيفينا؟ لحظة واحدة، دهَمت رأسي صدمة فأصبح عقلي في حالة خدر وارتباك
“حسنًا، ومن هو؟”
“لقد قدم خطيبكِ، فما الذي نفعل؟”
عندئذٍ فقط بدا لي أن الخيوط جميعها قد التئمت، فالخادم الذي لم أصادفه قط خلال خدمتي في هذا القصر، لكنه يرتدي زي الخدم نفسه، ويخدم آنسة تشبهني تمامًا
‘إذن كانت هي تلك الشخصية’
لم أكن أستوعب لماذا كانت الأنسة جولييت والأنسة جولييت الأخرى دائمًا ترَيان تدخّلًا بيني وبين شخص آخر، لكن الآن أدركت السبب، لماذا كانتا تواصبان على الشك فيَّ، وتجعلانني محل مقارنة
“ادعوه إلى الدخول”
تلك الطريقة في اللامبالاة، كانت مألوفة بشكل لا يُصدق
‘إنها التطابق بعينه’
كانت هناك حقيقة أعظم شأنًا من أن يكون الشخص المنعكس هو إيفينا روزيفينا، فقد كانت مطابقة في الصوت والمظهر لتلك المرأة التي كانت تطفو على ذاكرتي من حين لآخر، لدرجة أنني شعرت بالاستغراب لأني لم أطرح التساؤل من قبل
طرق خفيف
في تلك اللحظة التي كادت فيها فرضية ما أن تتشكل في عقلي
“ما زلتِ تتمتعين بالجمال”
دلف إلى الغرفة رجل يحمل باقة من الأزهار الممتلئة
‘إنه التماثل بكل ما فيه’
ذلك الشخص الذي دائمًا ما كان يتبدّى رفقة المرأة في الذكريات، أليس هو الرجل نفسه خلف المرآة بذات الصوت وذات الهيئة التي كان يتصف بها الرجل في الذكرى؟
‘يشبه شخصًا أعرفه بدرجة لافتة’
غير أنني شعرت أن الرجل المنعكس في المرآة يتشابه مع شخص ما أعرفه
‘من الذي يشبهه يا ترى؟’
ما الذي يمنعه من أن يخطر على بالي بدقة في مثل هذا الوقت بالتحديد؟
بينما كنت واقفة مستوقفة في مكاني أستعيد الذكريات، لم تنتظرني المرآة، فلم تعد تعرض هيئتهم
‘لقد توارت’
لم يعد هناك ما ينعكس على سطح المرآة، لم أجد أثرًا للأشخاص الذين يرتدون زي الخادمات مثلي، ولا للرجل الذي وصل حاملًا باقة الأزهار، ولا للمرأة التي لها وجهي المطابق، وكان الأمر عينُه بالنسبة لمظهري أنا
‘إذن، ليست مرآة عادية بكل تأكيد’
لو كانت مرآة عتيادية، لانعكست صورتي الحالية بأكملها كما تفعل المرآة الزجاجية، لكن المرآة لم تبد شيئًا، فقط عرضت منظر الغرفة، كما لو أن كينونتي قد محيت
‘ما الذي كان ذاك الشيء منذ برهة؟’
إن مواجهة شخص لم أسمع عنه إلا من خلال الأنسة جولييت والأنسة جولييت الأخرى كان مذهلًا، والأكثر إثارة للقلق هو أنها كانت بوجهي المطابق
‘لنؤجل التفكير في التفاصيل لوقت لاحق’
فالشّيء الأوْلى بالاهتمام الآن ليس الانعكاس في المرآة، بل ما أحمله في يدي
‘صبر الأنسة جولييت قصير، فعليّ التيقظ’
أولى الأمور هي التركيز على إتمام المهمة بسلامة
بطبيعة الحال، عندما عدت إلى الغرفة حاملة الغرض الذي جهزته، حتى ولو كان متأخرًا، كانت الأنسة جولييت قد بلغ منها الغضب مبلغَه
وبعد أن تحملت سماع وابل من كلماتها المشوبة بالضجر، تسنّى لي في النهاية أن أجد حريتي
“اعلمي أن هذا التوقف عند هذا الحد هو لأنك أحضرت الشيء الذي طلبته جولييت بشكل صحيح”
لا أرغب حتى في تخيّل ما كان سيكون مصيري لو خالَجتني ظنون خاطئة وأحضرت شيئًا مُغايرًا
“حقًا إنه لخسارة أن تمتلكه تلك المرأة، فمثل هذا يليق بجولييت أكثر”
سرعان ما فتحت الأنسة جولييت الصندوق، والتقطت منه ساعة الجيب الموصوله بسلسلة، وهي في حالة رضا
“ألا تتفقين معي في الرأي؟”
بدلًا من أن أجيب، بسَمْتُ بخفوت، لم يكن من الملائم لي أن أدلي برأيي حول غرض له مالك
“سيدتي جولييت، تلك الغرفة، هل لي أن أستفسر عنها؟”
اغتنمت فرصة بهجتها لأسأل عن أمر المرآة
“تلك الغرفة؟ أليست موطنًا لما يأسر الأبصار؟ لقد كان حال جولييت كذلك عندما دخلتها لأول مرة، لم يكن هناك شيء لم يخطف النظر”
تحدثت الأنسة كما لو أنها تدرك كل شيء
“لقد كانت ملونة بأفضل الأشياء، لدرجة أنني شعرت بالحسد من تلك المرأة التي تلقتها جميعها كهدايا”
واصلت حديثها وهي تُدير ساعة الجيب بين أصابعها
“حسنًا، بما أنها لم يعد لها مالك الآن، فلا إشكال في أن تستولي عليها جولييت”
قالت ذلك بسكون، معبرة عن أنه لا مشكلة ما دامت صاحبة الهدايا قد غادرت
“لقد أوصيتك بألا تلمسي أي شيء، فهل التزمت بذلك تمامًا؟”
بما أنني اكتفيت بالنظر فقط، فلم يكن في قولها خطأ، فأومأت موافقة
“إذن، ما الذي استحوذ على بصرك أكثر عندما زرت تلك الغرفة؟ جولييت لفت انتباهها ذلك البيانو الذي يعزف دومًا”
لم أفُت الفرصة التي كنت أنوي فيها التحدث عن المرآة
“كان هناك شيء واحد حقًا”
لحظت الأنسة جولييت نظرها عن ساعة الجيب ولَبَّثت تُحدّق بي، كانت تحثني بوضوح على الكلام
“كما تفضلت سيدتي، البيانو وغيره من الأشياء كان موضع نظر، لكن المرآة التي كانت مجاورة للباب كانت جديرة بالاهتمام”
ربما تعلم عن المرآة بقدر ما تعلم عن ساعة الجيب
“حقًا، تلك المرآة تثير الدهشة لمن يراها لأول مرة”
هزت كتفيها معبرة عن تفهّمها
“فهي لا تعكس الصورة الحالية للواقف أمامها”
قولها التالي أحدث فيّ ارتباكًا، على الرغم من أنني كنت أعتقد أنها ليست مرآة عادية لكونها من الأدوات السحرية، إلا أنني لم أكن أتوقع ذلك السر
‘إذا كانت لا تبيّن الواقع، فهل تظهر الماضي أو المستقبل؟’
لكن الأمر سيان، سواء كانت تعرض الماضي أو المستقبل، فالغرابة لا تزال، فلن يأتي اليوم الذي أرتدي فيه مثل تلك الثياب، وفضلًا عن ذلك، فالشخص المنعكس كان يحمل اسمًا مختلفًا عن اسمي
“تلك المرآة لها اسم مخصص، إنه اسم براّق ومعقد قليلًا: ‘مرآة عكس الحقيقة'”
لم يكن اسمًا مألوفًا
“إنها إحدى المتاع الذي صُنع خصيصًا وبُعث كهديّة من قبل خطيب تلك المرأة، لذلك ينعكس فيها مظهر مُغاير للمرآة العتيادية”
كانت تبوح بكل شيء دون أي محاولة للإخفاء
“الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن تلك المرآة صادقة بقدر اسمها الذي أُطلق عليها”
عند كلمة “الاسم الذي أُطلق عليها”، استرجعت اسم المرآة الذي ذكرته الأنسة جولييت، لا شك أنها قالت “مرآة عكس الحقيقة”
“جولييت نقلت ما سمعته فقط، لكن يُقال إنها تُظهر هيئة لحظة معينة، سواء كانت من الماضي أو المستقبل، عندما يقف أحد أمامها”
بحسب هذا المنطق، فإنني لا أنتمي لأي من الفئتين
‘لا يمكن أن تكون قد أصابها الخلل بهذه السرعة’
لا يمكن أن تكون كل الأشياء الأخرى على ما يرام، وتلك فقط قد تعطلت
“ويُمكن لجولييت أن تشهد بصحة هذا القول، لأنها عندما وقفت أمامها، انعكست صورة طفولتها”
لعله كانت سليمة حين استخدمتها الأنسة جولييت
“والأمر الأجدر بالاهتمام هو هذا”
الأجدر بالاهتمام؟ تمكّن مني الفضول لما سيتبع ذلك، فأصغيت بشغف
“يُقال إن كل ما ينعكس في تلك المرآة هو الحقيقة البحتة”
التعليقات لهذا الفصل " 61"