استوعبتُ نُصحَ الآنسةِ ‘جولييت’، الذي كان يفيضُ بآفاقِ الحذرِ، ثمَّ ارتقيتُ نحو الطّابقِ الثّاني، مثقلاً بخُطىً تتوسَّدُ الفضولَ.
’يا للعجب، أيُّ متاعٍ غامضٍ هذا الذي يختبئُ بين جدرانِ الحجرة؟’
لَمْ يكن للودِّ الذي أُبدِي بلا سببٍ موضعٌ، ومع ذلك أدركتُ أنَّ لكلامِ الآنسةِ ‘جولييت’ حكمةً خفيّة، فأشعل ذلك لديَّ عجلةً في انتزاع الغرضِ والمغادرةِ دون تأخير.
’ها هيَ تظهرُ في الأفق.’
مكانٌ لم تطأه قدماي منذُ بدايةِ خدمتي لهذا الصرح. كنتُ ألمحه بعينٍ خاطفةٍ عند المرور، لكن لم يُخصَّص له نصيبٌ من التنظيفِ، حتى نَسِيته الذاكرةُ، والآن ظهر المكانُ أمامي بأوضحِ هيئة.
’ليتَها أرشدتني إلى موضعه بدقة.’
الآنسةُ ‘جولييت’ لم تُحدد سوى هوية الغرضِ، دون تعيين موقعه؛ هل يترسخ في درجٍ أم يرتقي إلى رفٍّ؟ بدا وكأنَّها فوَّضت إليّ المهمةَ بأسرها.
’حسناً. الأمرُ يسيرٌ، لا لبس فيه. عليَّ جلبه والخروج.’
عزمتُ أن يمرَّ الموقفُ بسلام، فدفعتُ بابَ الحجرةِ برفقٍ وحذر.
’يا للدهشة…’
في لحظةٍ خاطفةٍ شعرتُ وكأنني غرِقتُ في عالمٍ آخر.
لقد كان القصرُ دومًا ملاذًا للظلام والكآبة والأحداث الغريبة، حتى يخيل إليك أنه ملعون، لكن هذا المكان كان استثناءً.
’لهذا كانت نصيحتها.’
لم تكتفِ الآنسةُ ‘جولييت’ بالنصيحة القريبة من التحذير، بل أضافت حديثًا آخر:
”تلك الحجرةُ وحدها تكشفُ عن ملامح القصر العتيق بعد أن شُيّدَت الأيديُ حديثًا. قلائلٌ هم الذين ارتادوها ليرتدّوا إليها بعد الترميم.”
قالت حينها إنَّ المكان أعادَ تجسيد ركنٍ عزيزٍ من الذكريات.
وعندما بلغته، تيقنتُ من الحكمة. فهمتُ سبب شغف الجميع بالقصر الذي ولى عهدُه.
’ما أجمله.’
في اللحظة التي وطأت قدمي الغرفة، انبعث لحنٌ بديعٌ من دواخلها، نغمةٌ تترنم لها الآذان، كأنها أُعدّت لتستهلّ العزف فور دخول أيِّ شخص إليها.
أصغيتُ لرنين المعزوفة، وبعينٍ متبصرةٍ أبصرتُ الغرفة وقد غمرتها ألوانٌ دافئة، مساحةٌ تضمُّ من كل صوبٍ سلعًا تتلألأ فيها الأنوار.
’عناية فائقة.’
على عكس قاعة الولائم، لم يكن هنا شيءٌ متهالك أو متصدع؛ كأن الإدارة تتولّى أمره بحزم، وكان كلُّ شيءٍ مرتبًا ومحكم الشكل.
’من أين ينبعث الصوت؟ هل من تلك الناحية؟’
بين حشدٍ من الأغراض، لمحتُ مصدر النغم البهي: بيانو يختلف عن ذاك الواقع في الطابق الرابع، بدا حديث الصنع، يشعّ حداثة ويعزف أوتارًا آلية.
المفاتيح تضغط من تلقاء نفسها، كأنها تحفظ النوتات عن ظهر قلب، وكان ذلك أثرًا من آثار السحر.
”ما رأيك بهذه النغمة؟”
أثناء وقوفي مستغرقًا في سماع المعزوفة، سمعتُ صوتًا يتردّد:
”أعددتها لكِ لأنها تستهوِي نفسك كثيرًا، كما يبدو.”
كان صوت رجل مألوف، يتردد في مسامعي كلما اجتاحني طيف الذكريات.
”لقد لمست وجداني.”
تبع ذلك صوت امرأة، بادرت بالرد دون تردّد، صدى شخصياتٍ تظهر في رؤى الذكريات، لا يقلُّ أثرها عن صوت الرجل.
”بالطبع، إنها من المقطوعات التي كان والدي الراحل يعزفها لي كثيرًا في حياته.”
برزت في ذهني صورة موقف: شخصان يتبادلان أطراف الحديث بينما ينظران إلى البيانو أمامي.
”إذن الأمر مرضٍ. يبدو أنني أصبت في اختيار المقطوعة.”
شعر الرجل بالرضا، كأن سعادته تنبع من إدخال البهجة إلى نفس المرأة.
”إن أردتِ الاستماع إلى هذا اللحن، يمكنك زيارة الغرفة في أي حين، فقد جعلت عزفها مستمرًّا، لتسمعيها كلما رغبتِ.”
لم يكن البيانو وحده المشابه، بل المشهد بأكمله يطابق الحجرة التي أقف فيها، باستثناء اختلاف عدد الأغراض.
’ليس هذا وقت التأمل. عليّ العثور على الغرض دون إبطاء.’
أبعدتُ الذكريات الغريبة وصوت البيانو جانبًا، ثم أعادت نظري في الأرجاء.
”أحسَب أن العطايا قد تكاثرت.”
”هذا جزء بسيط. أنوي ملء الغرفة بكل ما قد يستهوي نفسك.”
يجب أن أصحح موقفي، فالذكريات المفاجئة تصعّب التظاهر بعدم الاكتراث.
”سأترك الساعة هنا.”
كان الرجل الذي ظهر في الذاكرة يحمل ساعة جدارية ضخمة.
”تبدو أبسط من كل ما جئت به حتى الآن.”
أمالت المرأة رأسها وأبدت رأيها:
”قد يخيل إليك ذلك، لكنها مختلفة جوهريًا. مشاهدتها أفضل من سماع وصفها.”
الساعة الجدارية بلون بني قاتم، وتوّجهت عيناي إليها أيضًا.
’في أفصح التوقعات، أتوهّم أن طائرًا سيبرز منها.’
هناك ساعاتٌ تفعل ذلك، عند نطق الوقت تمامًا، ينبثق تمثال صغير أو نموذج طائر.
رغم تشابهي الظاهر، إلا أن المكان مركز لجمع الأغراض السحرية.
’لعلها شيء نادر، مثل البيانو الذي يعزف تلقائيًا.’
اقتربت لحظةُ الوقت المحدد، وخطر لي أن البقاء هنا سيمكنني من رؤية ما سيبرز من الداخل خلال دقائق معدودات.
تك. تاك. تك. تاك.
يتردد في المسام صوت الساعة وهي تتجه نحو الوقت المعلوم، وكانت نظرتي مسمرة على العقارب التي قاربت الرقم 12.
دنج-. دنج-. دنج-. دنج-.
عندما حان الوقت المحدد، أطلقت الساعة صرخةً جهرية، وانفتحت نافذتان صغيرتان على جانبي قمّتها.
”واحد، اثنان، ثلاثة. في هذه اللحظة بالضبط.”
وفي الوقت نفسه، ارتفع صوت رجل يعدّ العدّاد.
”ألا يثير الجمال النفس؟”
بدت المشاهد وكأنها تستعرض القصر من مكانٍ بعيد، وكأنها تطل على القرية كلها من ربوة شاهقة.
”لقد أعدت نسجها اعتمادًا على الذكريات التي كشفتها لي.”
ظهر أمام القصر ثلاثة أشخاص: شخصان يُحتمل أن يكونا الأبوان، وطفل صغير يستمتع بالنزهة ممسوكًا بيديه.
”هذه هديّة عيد ميلادك لهذا العام.”
انقضت حكاية الشيء المجسّم ثلاثي الأبعاد، وعادت الساعة إلى مظهرها العادي.
’لربما ما تبتغيه الآنسة ‘جولييت’ شيء من هذا القبيل.’
لقد أوضحت الآنسة ‘جولييت’ أن الساعة ليست جيبًا مألوفًا، بل ساعة جيب تُتيح رؤية مجسّم ثلاثي الأبعاد.
’على أي حال، وجود الساعة الجدارية هنا يدل على أن ساعة الجيب ستقبع في مكان مشابه.’
عادةً تُجمع الأغراض المتشابهة، ونظرت حولي متأملاً هذا الاحتمال.
الإشكال في صغر حجم الغرض، ما يجعله لا يلفت الأنظار.
’لو كنتُ أنا، لما تركتها ملقاة بهذا الشكل العشوائي، بل لاحتفظتُ بها في مخبأ خاص.’
مثل وضع الخاتم في صندوقه المخصّص، كنت سأهيئ صندوقًا لحماية ساعة الجيب وحدها، بدل تركها مهملة.
’أين يختبئ الصندوق الصغير؟’
وسعت نظري وتجولت في الأرجاء، مستشعرًا أن التأخير طال حدّه.
’ها هي.’
لحسن الحظ، وبعد بحث طويل، وجدتُه، كان الموضوع مع أغراض أخرى فوق مكتب مربّع في زاوية منسية، مزينًا بشريط أزرق.
التقطته برفق وفتحته، فأغمرني شعور بالاطمئنان.
’لقد ظفرت بها.’
ساعة جيب مزوّدة بسلسلة محكمة، لا ريب أنها المطلب الذي استودعتني إياه الآنسة ‘جولييت’.
’يا لها من نعمة أن وجدتها قبل فوات الأوان.’
لو تأخرت في العثور عليها، لربما لامني أحدهم، كيف لي أن أعجز عن مهمة بسيطة؟
’والحمد لله، لم يمر الكثير من الزمن.’
أحكمت قبضتي على الصندوق، وأعدت النظر إلى الساعة الجدارية، هل هذا حُسن الطالع في ظل سوء الحظ؟
لقد عثرت عليها بعد ثلاثين دقيقة من دخولي الغرفة، وغادرت المكان مسرعًا، متوقعًا عدم التوبيخ على الأقل.
’آه.’
عندما كدت أبلغ الباب، تعثرت قدمي بشدة.
’يا لطيف القدر.’
ورغم أنني خررت ساجدًا، إلا أن ردّة فعلي السريعة جعلتني أرفع الصندوق بيد واحدة أثناء السقوط، فبدا محتواه سليمًا.
انتفضت من مكاني مرتبكًا، وتحققت من الداخل خشية اختلاف الحال عن الظاهر، ولحسن المآل، كانت الساعة سليمة.
’أكان ذلك الشيء موجودًا في الأصل؟’
بعد أن لبثت أردد في خاطري “يا لطيف القدر” مرارًا، أمسكت الصندوق بعناية وهممت بالمغادرة، قبل أن أصادف مرآة لم أدرك وجودها عند دخولي الغرفة.
’إنها مرآة من عالم القصص الخرافية.’
مظهرها كان فاتنًا، يناسب أميرات الحكايات الشعبية، زجاج نقي لم تمسّه بصمة، وزخارف حافتها كأنها من جوهر الذهب، تبدو للوهلة الأولى ذهبًا خالصًا.
سواء كانت مسكونة بسحر أم لا، لا بد أنها دفعت فيها أثمانًا باهظة.
’لو شهدت الآنسة ‘جولييت’ هذه المرآة، لربما جعلتها قرينة غرفتها فورًا.’
أم لعلها كانت على علم بها لكنها لم ترغب في اقتنائها؟
وبينما كنت أفكر في ذلك وأتهيأ للمغادرة، انعكس شيء ما في المرآة.
التعليقات لهذا الفصل " 60"