6
6
تملّكني الدُّوارُ، فعجزتُ عن التوازن وتمايلتُ مترنّحةً.
في تلك اللحظة، خطر لي أنّه إنْ كان لا مفرَّ من السقوط، فليكن انهياري فوق سريري القديم أهون من ارتطامي بالأرض الباردة القاسية.
لكنّ جسدي الذي سقط بطريقةٍ طبيعيّة، لم يتلقَّفه البساطُ ولا السرير، بل ذراعانِ قويتانِ ثابتتان.
“آنِسة إيفون؟”
بلغت أُذنيّ نبرةٌ دافئة مألوفة، صوتُ ليون.
نظر إليّ وأنا منكمشةٌ كجمبريّة، ثمّ رَبّت على ظهري بخفّةٍ كأنّه يُطمئنني: “كلُّ شيءٍ سيكون بخير.”
ومع لمسته تلك، أخذَ الدُّوارُ والخوفُ اللذان اجتاحاني يتلاشيان تدريجيًّا.
“شعرتُ أنّ أمرًا سيحدث، ولحُسن الحظّ وصلتُ في الوقت المناسب. أنا سعيدٌ لأنّكِ لم تُصابي بأذًى، آنِسة إيفون.”
وبعد أن تأكّد من أنّني هدأت، أشرقَت عيناه بابتسامةٍ رقيقةٍ بدّدت ظلام الليل.
“ليون؟”
ما إنْ استعدتُ وعيي حتّى نطقتُ باسمه.
ربّما لأنّني كنتُ أرجو في أعماقي ألّا يكون هو أيضًا جزءًا من هذا العالم الغريب.
“نعم، زميلكِ الوفيّ، ليون.”
قالها بنبرةٍ مازحةٍ خفيفةٍ قبل أن يضيف مبتسمًا:
“يبدو أنّ عبارتي لم تُعجبكِ من صمتكِ هذا.
حسنًا، ما رأيُكِ بهذه؟ أنا ليونُكِ الذي حيّاكِ حين مررنا ببعضنا، والذي شارككِ فطيرةَ الجوز أثناء الاستراحة.”
كانت كلماته صحيحة، غير أنّ طريقته المبالِغة في وصف نفسه جعلتني أبتسم بخفةٍ من غير ضحك.
ورغم ذلك، شعرتُ بأنّ التوتّر الذي كبّلني قد بدأ ينزاح شيئًا فشيئًا.
“هل هدأتِ الآن؟”
سألني بلطفٍ، فاكتفيتُ بإيماءةٍ هادئة.
“هذا جيد، ففي مثل هذه الأوقات، يبدو أنّ حسّ الدعابة خاصّتي يُفيد.”
لم أُعلّق.
كان واثقًا من نكاته، لكنّني لم أُرِدْ إخباره أنّها لم تُضحكني.
‘بل حتّى دون حسٍّ فكاهيّ، هناك من سيضحك لمجرّد النظر إلى وجهٍ جميلٍ مثله.’
نعم، لا شكّ أنّ معظم خدم القصر ممّن يستقبلونه يفعلون ذلك.
“شكرًا لمساعدتكَ يا ليون، بفضلكَ لم أسقط.”
أبعدتُ نفسي عن ذراعيه ووقفتُ بثبات.
“لكن ما الذي جاء بكَ إلى هنا في هذه الساعة المتأخّرة؟”
كان من الطبيعيّ أن يخلد الخدم إلى النوم باكرًا ليستيقظوا باكرًا، فوجوده هنا بدا غريبًا.
“لقد طُلِبَ منّي معروف.”
“معروف؟”
“نعم، طُلِبَ منّي فحصُ غرفةٍ في الطابق الرابع يُومض فيها الضوء، وكذلك إنارةُ هذا الرواق وأنا في طريقي.”
بحسب قوله، كان كبيرُ الخدم هو من أوكلَ إليه المهمّة، بعد أن فكّر في خمسة خدمٍ آخرين.
غير أنّ أحدهم كان يخشى المرتفعات، وآخرَ قصيرًا لا يجدي حتى مع السُّلَّم، فكان ليون الخيار الأمثل.
“ولكن، لماذا الآن؟ ألن يكون ذلك أسهل نهارًا؟”
“ليس بالضرورة، آنِسة إيفون.”
أمالَ رأسه بابتسامةٍ هادئةٍ ثم أوضح:
“الناس هنا طيّبون للغاية، والجميع يُحاول مساعدتي في أيّ عملٍ أقوم به.”
ربّما كان يقول ذلك ليتودّد إليهم رغم كونه خادمًا.
كثيرًا ما سمعتُ الخادمات يقلن إنّه لولا مكانته لخُطِفَ فورًا كزوجٍ مثاليّ في الإمبراطوريّة.
“وهذا ما ينطبق على مهمّتي أيضًا، فلو علمَ أحدهم بها، لأصرّ على مساعدتي. لكنّ المساعدة ليست دائمًا أمرًا حسنًا.”
ثمّ مضى يشرح:
لو ذهبَ نهارًا، لتجمّع الناس حوله متسائلين، ولو باحَ بالحقيقة، لرافقوه من باب المجاملة.
حتى لو رفضَ مرّاتٍ، سيظنّونه متواضعًا فحسب.
“ولذلك فضّلتُ أنْ أجيءَ ليلًا حين يكون الجميع نائمين. وهناك رأيتكِ تتعثّرين، فسارعتُ إليكِ.”
فهمتُ كلامه، لكنّ سؤالًا آخر بقي يلحّ في ذهني.
“إذًا، هل عرفتَني من ظهري فقط؟”
حين أقبل، لم يكن قد رآني إلّا من الخلف، وشعري الأسود الطويل منسدلٌ على ظهري، وهناك كثيرات في القصر يملكن شعرًا مشابهًا.
‘لا بدَّ أنّه قصد المساعدة فحسب، ثم تعرّف إليّ عندما رآني وجهاً لوجه.’
ليون إنسانٌ طيّب، لا ريب في ذلك.
لكنّه أجاب متعجّبًا:
“أمَا يُسمح لي بالتعرّف إليكِ؟ إنْ كنتِ أنتِ، فسأعرفكِ حتى من ظهركِ، لا يهمّ كيف تبدين… سأعرفكِ، حتى لو تحوّلتِ إلى ضفدعة.”
رغم طرافة عبارته، كان وجهه جادًّا، وذلك جعلني أشعر بشيءٍ من السرور.
“إذن، آنِسة إيفون، ما الذي جعلكِ تنهارين فجأة؟”
سأل هذه المرّة بنبرةِ فضولٍ حقيقيّ.
“في الواقع، رأيتُ أمرًا غريبًا.”
“غريبًا؟”
صمتُّ لحظةً ثمّ قلت:
“سمعتُ عزفَ بيانو جميلًا قبل قليل، لكنّ الأمرَ مريب، إذ لا يُسمح للخدم بالعزف دون إذن، والعزفُ مقصورٌ على أصحاب القصر.”
أصغى إليّ بانتباهٍ تام، فتابعتُ:
“في ذلك الحين، قالت الآنسة جولييت إنّها لن تغادر غرفتها، فظننتُ أنّني توهّمت.
لكن بعد أسبوعٍ عدتُ لأتأكّد، فلم أجد أحدًا، وكان العزف قد توقّف.
اقتربتُ من البيانو، فرأيتُ مفتاحًا مكسورًا وورقة نوتةٍ موسيقيّةً ملطّخةً بالدماء.”
ما زلتُ أذكر المشهدَ بوضوحٍ تامٍّ كأنّه البارحة.
وحين أشرتُ إلى المكان الذي رأيتُ فيه ذلك، فوجئتُ باختفائه.
كلُّ كانت المفاتيح سليمة، والورقة اختفت.
“أفهمُ ما تقولينه، آنِسة إيفون، لكن ثمّة أمرين غريبين، هل تسمحين لي بذكرهما؟”
تردّدتُ ثمّ أومأتُ بالموافقة.
“أولًا، المفاتيحُ سليمة والنوتة مرتَّبة تمامًا، لا دماء عليها ولا طيّ، فقط يعلوها الغبار.”
نظرتُ مجدّدًا، فوجدتُ كلامه صحيحًا.
“أمّا الثانية، فهي الأهمّ.”
لم أعلم لماذا، لكنّ قلبي انقبض.
“عزفُ البيانو الذي سمعتِه عند منتصف الليل… ربّما كان وهمًا سببه الإرهاق.”
أنكرَ حدوثَ العزف أصلًا، وقبل أن أسأله عن السبب، تابعَ قائلًا بنبرةٍ ثابتةٍ كالصاعقة:
“لعلّكِ لا تعلمين بعد، آنِسة إيفون، لكنّ هذا البيانو في قصر روزيبينا لا يُصدر أيَّ صوت.”
“ماذا؟”
“إنّه قديمٌ ومتهالك، يحتفظون به للزينة فقط، الماركيز وزوجته والآنسة جولييت.”
نظرتُ في عينيه، فلم أجد أثرًا للكذب.
“صدّقيني، فوجئتُ أنا أيضًا حين سمعتُ هذا من أحد الخدم. يبدو البيانو سليمًا، لكنه مجرّد قطعةٍ للعرض. لذلك، أظنّ أنّكِ كنتِ متعبةً لدرجةِ أنّكِ سمعتِ ما لا وجود له.”
هل يُعقل أنّ ما رأيتُه مجرّد وهم؟
“آنِسة إيفون، إنْ لم تكوني مطمئنّة، فهل نتحقّق معًا؟”
سأل برفقٍ وهو يلحظ اضطرابي.
“كلا، لا داعي، أظنّك محقًّا يا ليون. لا حاجة للتحقّق مرّةً أخرى. بل…”
تشوّش فكري، ولم أعد أستطيع التمييز بين الواقع والوهم.
ليون لا يكذب، ومع ذلك لم أستطع تصديق أنّ ما حدث لم يكن حقيقيًّا.
“بل ماذا؟”
“هل ترافقني إلى غرفتي؟ كما فعلتَ يوم ذهبنا إلى المطبخ.”
فالطريق مظلمٌ الآن.
وافق فورًا دون تردّد.
“إنْ كان هذا ما تطلبينه، فبالطبع لن أرفض لك ذلك.”
—
〈 📜- لوائح العمل في قصر روزيبينا〉
المادّة الثالثة:
إنْ سمعتَ عزفَ بيانو عند منتصف الليل، فلا تقترب منه.
وإنْ تبعتَ الصوتَ دون وعيٍ ووجدتَ نفسك أمام البيانو، فافعَلْ ما يلي:
أوّلًا: أغمضْ عينيك في الحال، وردّدْ: “مياو، مياو، مياو” ثلاثَ مرّاتٍ متتالية.
ثانيًا: استدرْ فورًا، وافتحْ عينيك، واهربْ إلى غرفتك قبل أنْ “يُمسكوا بك”.
ثالثًا: عند بلوغك غرفتك، أغلِقِ الباب وردّدْ والعينان مغمضتان: “مياو، مياو، مياو” ثلاث مرّاتٍ متتابعة.
إنِ التزمتَ بهذه الخطوات، سيُقِرّون بالهزيمة في “لُعبة المطاردة” ويغادرون.
—
ومنذ ذلك الحين، ورغم مرور الوقت، ما زلتُ أحيانًا أستيقظ في منتصف الليل على أنغامِ بيانو رخيمٍ قادمٍ من بعيد…
التعليقات لهذا الفصل " 6"