‘بما أنّ الحديث يدور حول الخطيبة، فلا بد أن الإشارة تعود إلى الشخص ذاته.’
إنه الشخص الذي يمكن أن تُثار حوله قضية الخطوبة دون تدخل جولييت.
رغم محاولتي التظاهر بالجهل، كانت كل المعلومات تشير بدقة إلى هدفٍ واحد.
يبدو أنّ الآنسة جولييت كانت تخلط بيني وبين ‘إيفنيا روزيفينا’ لحظاتٍ ما، لسببٍ غامض.
“إذا أمعنا النظر، فإن ذلك الرجل عظيم الشأن حقًا. ولو بقيت في المجهول طويلًا، كان له أن يفسخ الخطوبة، لكنه يأبى التخلي حتى الرمق الأخير.”
أفصحت الآنسة جولييت بسهولة عما لم أرغب أن أعلمه، ثم عضّت شفتيها بقوة.
“بمناسبة الخطوبة، أليست الآنسة جولييت مرتبطة بخاطب خاص بها؟”
قادني إلى هذا السؤال نظرتها، التي كادت تُظهر غيرةً خفية من ذكر الفسخ.
كان من السهل إدراك خلوّها من أصدقاء، لكن ظل التفكير يراودني: هل من الممكن ألّا يكون لها خطيب؟
“كان لجولييت واحد.”
بناءً على “كان”، يبدو أنّ الوضع الآن ليس كذلك.
“كانت خطوبة دفعتها جولييت بعد أن أسرت قلبها بالنظرة الأولى، واعتقدنا أنّه سيصبح رجل جولييت، لكن لم يكن كما توقعنا.
ذلك الرجل تخلى عنها ومضى.”
قبضة يدها تنقبض بأقصى ما لديها من وهج الغضب مع كل كلمة.
“ماذا تعنين بأن ذلك الرجل قد هجر الآنسة جولييت؟”
“كما سمعتِ. طلب فسخ الخطوبة، وحاز مبتغاه.
هل تعرفين لماذا تركها؟ كل ذلك بسبب تلك المرأة!”
تلك المرأة. كلمة نُفثت بقوة، وكأنها حملت كل الكراهية في طياتها.
أدركت من نظرتها أنها تستحضر طيف شخص غائب.
‘إنه ذلك الشخص مرة أخرى.’
كلما حاولت صرف وجهة النظر، بدا وكأنها تدور في دائرة واحدة.
“في يوم فسخ الخطوبة، أخبر جولييت أنّ سبب بقائه طويلًا كان علمه بقرابة جولييت لتلك المرأة، وكان يبتغي رؤيتها مرة واحدة عن طريق الصدفة المتكلفة.”
وصلني صوتها المرتجف، واستمعت صامتةً إلى بقية كلامها.
“لكن تلك المرأة لا تبالي به، وقد سئم كل شيء الآن، فطلب فسخ الخطوبة، زاعمًا أنّ العلة في استمرار علاقته بجولييت قد زالت.”
أفصحت الآنسة جولييت عن حنقها، كأن العلاقة كانت استغلالًا من طرفٍ واحد. وعندما انتهت، هدأت أخيرًا.
“أشعرتِ بالسكينة الآن؟ كان ذلك أول وآخر خاطب لجولييت. أي، لن يكون هناك من يخلفه.”
لم يحل السكون في نفسي، بل تمنيت أنّ الجهل كان أفضل لي.
“مع ذلك، أشعر بحال أفضل مما كنت عليه عند الفسخ. رغم أن النزق يعتريني كلما تذكرت ذلك اليوم، إلا أن جولييت تتطلع الآن إلى رجل جديد.”
رجل جديد؟
لم يبق على محيا جولييت أثر حزن أو غضب.
بل رأيت على ثغرها ابتسامة باهتة، تحمل في طياتها أملًا عظيمًا لمستقبل قريب.
“لنطو صفحة هذه الأحاديث، وأحضري لي كوب شاي جديدًا، لقد برد وخبا رونقه.”
بفضل استعادة الآنسة جولييت وعيها، وطلبها إزالة الفهرس لعدم حاجتها إليه، غادرت الغرفة حاملةً كل ما أُمرت بإبعاده.
أصبحت أرتاد الغرفة مرارًا، وفي الأولى طُرِدت بحجة حرارة الشاي، وفي الثانية طلب إعادة إعداده لبرودته.
ثم توالت المبررات: العبير لم يعجبها، لون الفنجان لم يروق لها، إلى أن ختمت الأمر قائلة:
“حسنًا، لنقل أنّ الأول هو الأفضل. أعده كما كان.”
لم يكن الشاي أو لونه أو رائحته مهمًا، بل كانت مجرد ذريعة للعب بخطواتي.
‘لنعتبر اختتام الأمر عند هذا الحد من حسن الطالع.’
رغم احتمال الحفيظة، كان ذلك أهون من المزيد من التلاعب.
لم أجد بدًا من الذهاب إلى الغرفة بما أعددت في المرة الأولى، كما أرادت.
“حسنًا. أصبح الأمر ملائمًا الآن.”
يبدو أنّ إحضار بعض المرطبات احتياطيًا قد استرضى مزاجها، تذوقت الأطباق المُهيأة بتأنّ، ثم أهديتني ابتسامة.
“وبصرف النظر عن الأسباب، وبما أنّه قد جرى الاتفاق على خدمتك لجولييت اليوم، فقد قررت أن أكلفك بمهمة أخرى.”
ابتلعت ريقي بصعوبة عند سماع كلمة “مهمة”، إذ كنت عاجزة عن استشراف ما ستطلبه، بعد أن لبّيت الطلب الأساسي بإحضار الشاي والمرطبات.
‘وعلاوة على ذلك، كلمة مهمة تذكّرني بذكريات مُنغّصة.’
ألم تقع حادثة مشابهة سابقًا، ولو لم تكن مهمة بالمعنى الحرفي؟
لقد وخزتني الشوكة عندما حاولت قطف الزهور بإيعاز من الآنسة جولييت في يومٍ متكرر الزمان.
كدت أن أخالف جزءًا مشددًا في قواعد العمل، لكن لم أعلم ما ستأمرني به هذه المرة.
“الأمر يسير، ما عليك سوى الذهاب إلى الحيز الذي تحدده جولييت، وإحضار شيء مخصوص.”
رغم بساطة الرواية عند سماعها، إلا أن طلب الآنسة جولييت لا بد أن يختبئ خلفه كمين.
“ما الغرض الذي يجب علي إحضاره؟”
“بما أنّه من المتعلقات السحرية، يجب إحضاره بحذر.”
غرض سحري؟
هل هو ثمرة شهور العمل الشاق في هذا القصر العجيب؟ شعرت أنّ الكلمة غريبة على ما يكتنف القصر.
“سأخبرك مرة واحدة، فاستمعي إنصاتًا. الغرض السحري الذي تطلبه جولييت ليس في الغرفة المجاورة لغرفة رئيسة الخادمات والخادم الخاص في الطابق الثاني، بل في الغرفة التالية بعد غرفة فارغة.”
إذا رتبنا المواقع، فهي تقصد الغرفة الرابعة ابتداءً من غرفة رئيسة الخادمات.
“كان من المفترض أن تكون تلك الغرفة خالية، ولكن يُقال إنها أصبحت موئلًا لتجميع متعلقات سحرية خاصة منذ فترة.”
وعلى نقيض حديثها عن الخطيب، كانت عينا جولييت تفيضان بالحياة مع كل كلمة.
“يبدو أن السيد كان يهوى جمع المقتنيات السحرية أيضًا.”
خمّنت أنّها لوحات فنية محفوظة في القصر.
“لا، ليس كذلك، لأن الهدايا قدمها خطيب المرأة، وليس والد جولييت.”
يبدو أنّ الوشائج كانت مقطوعة.
“على الرغم من كونها هدايا، إلا أنّ المتعلقات السحرية لابد أنّها كانت ذات قيمة باهظة.”
هل كان ذا ثراء وفير ليُهدي كل هذه الهدايا؟
“القيمة ليست المهم، فذلك الرجل ساحر عظيم ومتمرس، ويمكنه صنع أي شيء بنفسه دون الحاجة لشرائه.”
باتت المعلومات مرتبة في ذهني الآن.
أولًا، تشمئز جولييت من إيفنيا روزيفينا، ويشاركها في النفور خطيبها السابق.
ثانيًا، لا يقين حول إيفنيا، سوى كثرة الأحاديث عن وفاتها أو غيابها، وخطيبها ساحر عظيم.
ويتوجب عليّ الذهاب لإحضار المتعلقات السحرية التي أهداها ذلك الرجل.
“على أي حال، لا تلمسي أي شيء آخر، أحضري ساعة الجيب فقط.”
لماذا هذه بالتحديد؟
“قيل إن ساعة الجيب تحمل سحرًا خاصًا، وتُصور أي سجل بشكل مجسم. يجب أن تراها الآن.”
تمنيت لو أسألها عن كل شيء، من رؤية الغرض بحرية رغم أنّ صاحبه شخص آخر، وصولًا إلى كيفية علمها بذلك، لكن فضلت الصمت، فوافقت على التنفيذ.
“تذكري، لا تلمسي أي شيء آخر البتة.”
حتى لحظة خروجي من الغرفة، أضافت كلمة أخرى، وكأنها نصيحة لي:
“لن تتحمل جولييت أي مسؤولية عمّا قد يحدث إذا لمستِ غرضًا لم يُمنح لكِ الإذن بلمسه.”
التعليقات لهذا الفصل " 59"