لم يُسدِل ليون ستار الغيب على الأسرار بأسرها، بيد أنه استجلى جوهر الحقيقة بفراسة مذهلة، حتى لكأنما كان شاهد عيان راقب مجريات الأحداث عن كثب.
هززت رأسي وقد تملكتني الدهشة لعمق بصيرته وحصافة استنتاجه.
“مهما تباينت دواعي هذا المشهد، فلقد أثمر خيراً لا يُنكر. فكم تناهت إلينا حكايات عن الضيق المدقع الذي عاشه الجميع جراء انحصارها في تلك الغرفة، ضيق طال أمده حتى نأت عن مغادرتها قط.”
كشف ليون عن ثقل الأيام التي أُجبر فيها على العمل والحديث في هذا الشأن قبل أن يُشاركني مضماري.
“أحسب أن المُكلف بتطهير هذا الرقعة ورب المطبخ قد عانا حرجاً بالغاً.”
أوضح أن العاملين في هذا الصرح الشامخ مطالبون بالاجتهاد لـ يصمد مقامهم طويلاً، غير أن الآنسة ‘جولييت’ قد شيدت سداً منيعاً حال بينهم وبين إخلاصهم لواجبهم.
‘لأن الآنسة ‘جولييت’ تستبد بها عنادة، فلن تلين لرجاء مهما رقّت صياغته.’
أو لم تكن الغرفة مُحتدمة بالفوضى العارمة حينما دُعيت لـ ولوجها؟
لعل من وافى ليُطهرها قد قوبل بصد قاس عند العتبة، ومن جاء بطعام لم يستطع اختراق حواجزها، وعاد بأطباقه خاوية دون أن تطأها عينها.
لم أكن في حاجة لمشاهدة الواقع، فقد انبعثت صورته في مُخيلتي دون استئذان.
“لقد كنت أستقبل سيلاً من الشكاوى منذ أمد، وحين تلاشى هذا السيل فجأة، خامرني الفضول، فلم أجد سبيلاً سوى الاستفسار والتقصي.”
لربما انقسم مسرح الأحداث بين حقبة ‘الشكوى’ قبل أن أدخل تلك الغرفة وما تلاها.
أدركت شيئاً من أعباء ليون، الذي تجرع مرارة الإصغاء لذات الروايات حتى أدركه السأم والقنوط.
“بما أن الترتيب قد اكتمل تقريباً، فلربما يحين الوقت للإعلان عن ضرورة استبدال الأغراض التي تهشمت بالكامل.”
أدلى ليون بهذا القول وهو يعيد الأثاث المُبعثر على البلاط إلى استقامته.
فـ وافقته الرأي دون تلعثم.
لم تكن قاعة الحفلات تضم قطعاً قابلة للإصلاح فحسب، بل بانت فيها أمتعة مُتهدمة يستعصي تدارك خللها. بدت وكأن يداً آثمة قصدت إتلافها، لكنني نبذت هذا الظن جانباً.
‘هذا لأمر يتجاوز حدود المعقول.’
أجل. كان أمراً يفوق التصور بوضوح.
من ذا الذي اجترأ على تحطيم مقتنيات القصر الخاصة؟ وبأي جرأة عظيمة غُرر به؟
‘في صروح كهذه، حتى المزهريات تتفرّد ببذخ ثمنها، فهل تختلف معروضات هذا المكان عن هذا المبدأ؟’
على الرغم من أن هذا القصر يمنح أجراً أوفر من سواه، إلا أن تعويض القطع المهشمة في القاعة قد يستلزم جمع مدخرات سنوات طوال دون إنفاق.
ربما كان الوصف الأدق هو مبلغ يستعصي سداده جملة.
“يبدو أن هذه وحدها هي القطع التي تستدعي الاستبدال، لذا سأدونها في سجل وأمضي لإتمام مهمة أخرى.”
قال إنه يمكن أن أوكل إليه هذه الصعاب الهينة وأستمر فيما كنت أزاوله.
غلبتني رهبة الصمت وأنا أرى المشهد الذي ينوء تحت عبء عمل كثيف. فتنظيف هذا الفضاء المتسع يتطلب دهراً من الزمان.
إن الشروع في العمل لأجدى وأنفع من إطالة اللسان في الأحاديث.
وبينما كنت أتصدى لفتور الإعياء الذي انهال عليّ، كنت أركز جلّ انتباهي على عملي.
انطفأ وميضه.
‘…….؟’
أهذا سراب طارئ؟ لقد خالجني شعور بزوال النور الذي يعلو هامة رأسي لـ لحظة خاطفة.
أومض مجدداً.
وسرعان ما خفت الضياء في أرجاء المكان قليلاً ثم استعاد بهجته، كأنه يؤكد أن الأمر لم يكن م محض وهم.
توقفت عن التطهير ورفعت ناظري إلى السقف. تجلت لي الثريات وهي تعتلي المكان كجنود مُصطفة.
وكانت الثريا التي تعلوني هي الأقل إشراقاً.
كان ضوؤها باهتاً، وكأنها بلغت أقصى مداها، فكانت تتلاشى ثم تعود لتضيء بوتيرة ثابتة.
ومض. ومض. ومض. ومض.
‘…….؟’
كنت على وشك المضي في تطهيري معتبرة هذا خللاً يسيراً، لكنني لم أستطع.
لم تزد سرعة الوميض، بل شرعت معه الثريات الأخرى بالمبادرة للوميض كذلك.
“أحسب أنه لزام علينا الإفصاح عن حاجتنا لـ تبديل الثريات أيضاً.”
لم أكن وحدي من استشعر هذا الخطب الغريب، فعندما أدرت رأسي، لمحت ليون رافعاً رأسه نحو السقف كما فعلت تماماً.
حاولت غض الطرف والمواصلة، فإذا بسرعة وميض الضوء تتصاعد بشكل مريب.
رفعت رأسي دون وعي لأراقب ذلك الشعاع.
ومض.
في تلك الآونة، ومضت الثريا التي فوق رأسي وحدها كما بدأت أول مرة.
ثم حدث خطب غريب لم يستطع ناظري أن يحيد عنه.
‘الأضواء في سبيلها للزوال.’
بدأ ضوء الثريات يتلاشى بالتوالي، ابتداءً من الأقصى على اليسار وانتهاءً بأقصى اليمين.
لم يعد للضوء ومض متقطع.
ولكن عوضاً عن ذلك، بدأت أضواء القاعة التي تغمرها بالبهجة تنطفئ متسارعة دون حيلة لصدها.
“……..!”
وعندما انطفأت جميع الأضواء، انبعث صوت من جهة الثريا فوق رأسي.
صوت خطر يُشبه انبثاث حبل على وشك الانقطاع.
حين أدركت مغزى ذلك الصوت، اجتاحني ذعر عارم، فـ تجمدت مكاني لا أستطيع حتى التبريح خطوة واحدة.
“يا سيدة ‘إيفون’، إلى هذا الموضع…!”
لكن فعل ليون كان أسرع، وكأنه لم يستسلم للمشاهدة الساكنة.
دوي مُدّو!
كانت لحظة خاطفة. في اللحظة التي اختطف فيها ليون معصمي وابتعدنا مسافة قليلة، سقطت الثريا على البلاط بـ ضجيج عظيم.
لم نستطع التثبت بشكل دقيق لـ انعدام الأضواء، لكن الصوت الذي علا قبل لحظات أكد لي رجحان تطاير الشظايا في كل الأرجاء.
“أفي حالة جيدة أنتِ، يا سيدة ‘إيفون’؟”
“نعم، أنا بخير.”
أجبت على الفور وأنا في حضنه، غير مُتمالكة للدهشة.
سواء اعتراني الريب أم لا، لقد مد لي يد العون في غمرة الخطر. كما عَوَّدني دائماً.
“حسناً، لم تصابي بأذى. وأنا كذلك. يجب أن نقرّ بأن الحظ كان حليفنا جميعاً.”
في هذا الفضاء الذي الْتف بالظلمة كـ السموات المُغبرة في الخارج، كان ليون لا يزال يبتسم بإشراق. وهذا الاتساق في طبعه بثّ في نفسي الاطمئنان والسكينة.
‘لا شك أن هذا الوضع قد مر بنا في موضع آخر.’
لكن هل هو أمان حضنه الذي جعل الأمر يتداعى عليّ كمشهد مألوف غامض؟ بل كأنه نظير وضع سمعته من شخص ما.
‘هذا صدى لـ قول إينيس بالحرف.’
حين كنت أجيل الخطى معها بحثاً عن صاحبة الهرة السوداء، حذرتني من المخاطر التي قد تحدق بي أثناء التطهير. ومن اليقين أنني سمعت منها عن انهيار ثريا قاعة الحفلات.
‘لم أكن أتصور وجود رابط، لـ شدة انغماسي في جزئية وميض الأضواء.’
إن إينيس لم تقل سوى أن شخصاً نال منه الخطر بسبب سقوط الثريا، دون أن تطلعني على إرهاصات سقوطها. وهذا ما أغفلته ذاكرتي.
“أحسب أن هذا ليس المقام لمثل هذا الحديث.”
“………؟”
“يبدو أن حظنا اليوم شحيح للغاية.”
عقب هذه الجملة، رفع رأسه متطلعاً نحو موضع ما، ثم انطلق بسرعة خاطفة نحو جهة مجهولة، آخذاً بـ معصمي.
بل لنقل هرول. دون أي إشعار مُسبق.
‘ما الذي دفع به لهذه المفاجأة؟’
أردت أن أسأله عن سبب فعله. فلقد كدت أفقد اتزاني لـ ركضه العاجل.
لكن التساؤل الذي كان متردداً في أقصى حلقي انقشع في لمح البصر.
دوي! دوي! دوي! دوي!
بدأت أربع ثريات بالانكباب على الأرض في لحظة واحدة.
‘لو لزمنا مكاننا لكنا قد تلقينا الأذى لا محالة.’
لم تكن الثريات فوق هاماتنا تماماً، لكنها كانت على مقربة خطرة. كنا سنُصاب حتى لو لم يكن الاصطدام مباشراً.
هل لأنه كدنا نشهد مثل هذا المصير؟ رغم أنه مجرد تخيل، سرى في جسدي قشعريرة الهول.
‘بالمفارقة، ألم تضئ جميع الثريات هنا بومضات متقطعة؟’
بعد أن جمعت شتات وعيي بجهد، انبثقت لي فكرة.
قبل انهيار الثريات، ومضت جميعها دون استثناء كأن بها عطلاً. وبعضها هوى نحو الأرض.
‘أترى ستسقط كلها؟’
في لحظة الإدراك التي أتتني كالرعد في هذا القصر الذي لا يستغرب فيه شيء، رفعت رأسي مفزوعة.
اهتزاز. اهتزاز. اهتزاز.
سمعت أصوات الثريات وهي تتشبث ببقايا قوتها في قاعة الحفلات المعتمة.
التعليقات لهذا الفصل " 57"