5
أوّل ما تبادر إلى ذهني، قبل أن أخرج من الغرفة وأنا أحمل السلّة التي بداخلها فطيرة الجوز مع صحنٍ وشوكة، كان سؤالًا واضحًا:
‘من الأفضل أنْ لا أذكر شيئًا يتعلّق بكبيرة الخَدَم أمام الآنسة جولييت بعد الآن.’
لم تكن سوى لحظة قصيرة، لكنّها كافية لأستوعب.
فقد بدا أنّها تمقت كلّ ما يمتّ بصلة إلى
“كبيرة الخَدَم”، أكثر بكثير ممّا قد تكون ارتكبته هي في الفترة التي لا تتذكّرها.
ولو حاولتُ التخمين، فلا بدّ أنّ نزاعًا ما نشب بينهما.
“إذن، سيّدتي جولييت، ماذا عليّ أن أفعله بهذه الفطيرة من الجوز؟”
“ولِمَ عليّ أن أهتمّ؟
جولييت لن تأكلها! أعيديها إلى الطاهي أو تناوليها أنتِ، افعلي ما يحلو لك!”
كنتُ قد سمعت أنّها لم تتجاوز العشرين إلّا حديثًا، غير أنّ تصرّفاتها وأسلوبها في الكلام لم يختلفا أبدًا عن طفلة مدلّلة.
‘ما الذي عليّ أن أفعله بها إذن؟’
وهكذا، كدتُ أُطرَد من غرفة الآنسة جولييت.
وما إن خرجتُ وانحنيت قليلًا، حتى تسلّل إليّ عبير الفطيرة الطازجة.
‘التغاضي عن جهد مَن أعدّها سيكون جفاءً.’
إذن، من الأفضل ألّا أُعيدها إلى المطبخ، بل أن أتناولها.
وبما أنّ الكمية كثيرة، فالأجدر أن أشاركها مع شخص آخر.
وبينما كنتُ أحدّق في زرقة السماء، غارقةً في التفكير، رَبّت أحدهم بخفّة على كتفي.
ارتجفتُ من اللمسة المفاجئة، لكن لمّا التفتُّ ورأيت وجهًا مألوفًا، اجتاحتني راحة فوريّة.
“آه، لم أقصد أن أُخيفك.
أعتذر، آنسة إيفون.”
إنّه ليون، ذلك الشاب الذي يحظى دائمًا بالانتباه بين العاملين.
“لا بأس، لم أتفاجأ كثيرًا.”
لقد كان فعلًا غير متوقَّع، فدهشتُ للحظة قصيرة، لكن لم يكن قلبي قد ارتعب حقًّا.
ففي حياتي أمران فقط يُمكن أن يُفزعاني على هذا النحو.
ولو سألني أحدهم إن كانا الأشباح أو الأرواح الشريرة، لقلت لا.
بل سأجيب واثقة: “العمل الإضافي وكأنّه عادة يوميّة” و”الأجور التي لا تأتي في موعدها” هما ما يرعبني حقًّا.
“جيّد إذن.
لكن ماذا كنتِ تفعلين هنا، آنسة إيفون؟”
مع أنّ معرفتي به لم تَطُل، إلا أنّ الانطباع الذي يتركه في كلّ لقاء لم يتغيّر.
فمظهره وهيبته يُعطيانه هيئة نبيلٍ شاب يمضي فترة نقاهة في الريف.
“الآنسة جولييت طلبتْ منّي شيئًا ليلة البارحة. وأمرتني أن أجلبه في النهار، لكن يبدو أنّها لم تتذكّر، ثم قالت إنّها لا تحتاجه.
لذا أنا خارجة به.”
أريته السلّة التي كنتُ أحملها.
“إنّها فطيرة جوز.”
“فطيرة جوز، إذن.”
كنتُ للتوّ أفكّر مع مَن يمكن أن أشارك هذه الفطيرة الشهيّة.
… أو على الأقل، كنتُ على وشك قول ذلك.
‘هل أعرض عليه مشاركتي بها؟’
في بيت آل روزيبينا كان هناك جدولٌ لأوقات العمل والراحة، يُوزَّع بالتساوي على جميع الموظّفين، وحتّى نحن، أنا وليون، بما أنّنا ما زلنا في فترة التجربة.
وللمصادفة، هذا الأسبوع وقت استراحة ليون وأنا متزامن.
فبدلًا من البحث عن شخص آخر أقتسم معه الفطيرة، بدا من الأسهل أن أعرضها على من يقف أمامي الآن. فقلت له فورًا:
“بما أنّ الآنسة جولييت سمحت لي بالتصرف في هذه الفطيرة كما أشاء، هل تودّ مشاركتها معي؟”
فنحن على وشك الاستراحة على أيّ حال.
أضفتُ هذه الجملة الأخيرة، وقد بدا أنّه استوعب الأمر، فأجاب بأنّه سينهي عمله ويلحق بي إلى غرفة الاستراحة.
‘لقد رأيتُ مكانها في الجولة السابقة داخل القصر، لذا لن أجد صعوبة في الوصول إليها.’
كانت غرفة الاستراحة واسعة، لكنّها شبه خالية من الناس.
والسبب واضح.
“لا تصلح لأن تُسمّى مكان راحة، أليس كذلك؟ بل أقرب إلى الكآبة.”
“صحيح، بالكاد يدخلها النور.”
“في هذه الحالة، من الأفضل أن تسترخي في غرفتك الخاصة.”
في اليوم الأوّل لوظيفتي سمعتُ أنّ هذه الغرفة، رغم سعتها، تقع في زاوية مظلمة من القصر، والظلال تغمرها معظم الوقت، فلا ينفذ إليها سوى شعاع خافت من نافذة صغيرة.
لهذا كان أغلب الموظّفين يفضّلون قضاء فترات الراحة في الغرف الفردية المخصّصة لهم.
وبحُكم تصميم المساكن، كانت الغرف صغيرة عديدة، وممنوع أن يجتمع أكثر من اثنين في غرفة واحدة، لذا كان كلّ شخص يقضي وقته منفردًا.
ويُحكى أنّه في الماضي البعيد كانوا يجتمعون جماعات، لكن حادثة ما جعلت الاجتماعات الكبيرة محظورة.
“لا تشغلي بالك كثيرًا.
فالماركيز صاحب هذا المكان، بالكاد يهتمّ بإدارة القصر.”
“السيّد… يهتمّ بشؤون الخارج أكثر من هذا القصر الضخم.”
وهكذا لم يكن العاملون يرون سببًا للشكوى من غرفة الاستراحة، بل انشغلوا بالتفكير في مستقبلهم.
هل سينجحون يومًا؟ وهل سترتفع أجورهم؟
‘إذن، كان كلامهم صحيحًا.’
وحين رأيت الغرفة بعيني، وجدتها كما وصفوها تمامًا.
وبينما كنتُ أضع قطع الفطيرة على الصحون وأرتّب الشوك، ظهر ليون.
ومن بعيد بدا كأنّه يبدّد الظلمة حوله—لقد كان يسطع.
‘إنّه فعلًا شخص مشرق.’
كان إيجابيًّا وحيويًّا.
مجرّد وجوده بجانبي جعل أفكاري السوداوية تتلاشى، وأفسح المجال لروح متفائلة.
حضوره وحده كان يلمع مثل النجوم التي تُضيء السماء ليلًا.
“بما أنّكِ حضّرتِ نصيبي من الفطيرة، سأُعيد لك الجميل بقصّة، آنسة إيفون.”
جلس في مكانه، رفع الطبق والشوكة، وابتسم وهو يقول.
“وهل هي قصّة شيّقة؟”
تذوّقتُ قطعة من الفطيرة وسألته.
“ما إن كانت شيّقة أو لا، ليس لي أن أحكم.
لكنّي أعتقد أنّها ستكون ممتعة لكِ، آنسة إيفون.”
ثم أخذ قضمة، وابتسم بعينين متألّقتين.
“هل تعلمين يا آنسة إيفون؟ إنّ الآنسة جولييت هي الوريثة الوحيدة الآن، لكن الأمر لم يكن كذلك في الماضي.”
وما إن كنتُ على وشك أخذ لقمة أخرى، حتّى سمعتُ ما جعل عينيّ تتسعان دهشة.
كان ليون رائعًا بحق.
كيف يمكن حتى لحديث عابر منه أن يحمل ما أجهله؟
‘هشا ليس مثير للدهشة.
فمعارفه كُثر.’
فهو لطيف مع الجميع، ويعرف كيف يجمع الأخبار سريعًا.
“قبل أن يُصبح الماركيز الحالي في منصبه، كان هناك وريث آخر يعيش هنا.”
… لكنّه لم يعُد موجودًا الآن.
عندها سألتُ بخجل:
“مَن كان ذاك الوريث إذن؟”
الماركيز الحالي وابنته جولييت روزيبينا.
لكن ذلك الذي سبقهم أثار فضولي.
“إيفينيا.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مُرّة.
“لقد كانت على وشك أن تصير السيدة الحقيقيّة الوحيدة لعائلة روزيبينا.
كان اسمها إيفينيا روزيبينا.”
… إيفينيا.
هذا إذن اسمها.
“لقد كانت أذكى وأجمل إنسانة عرفتها.”
وكان في عينيه حزن غريب، كأنّه التقى بـ’إيفينيا روزيبينا’ وجهًا لوجه.
—
في الواقع، لم تبحث عنّي الآنسة جولييت يومًا، ولم تستدعني.
وبهذا استطعتُ أن أؤدّي عملي بانتظام دون أن أُستنزف في أوامرها.
بعد العشاء، كانت كبيرَة الخدم هي مَن جاءت تناديني مجددًا.
كنتُ قد انتهيتُ لتوّي من الاستحمام عندما سمعت صوتها، لكنّي لم أخرج من الغرفة. فقد تردّدت كلمة “الوعد” في أذنيّ مصحوبةً بتحذيرٍ أنّ ذلك سيعود بالنفع على سلامتي.
‘إن كان أمرًا مهمًّا حقًّا، فسوف أُبلَّغ به صباحًا.’
بذلك الاطمئنان، جفّفتُ جسدي وشعري، وارتديت ثياب النوم، وتهيّأت للنوم.
عادةً ما كنتُ أنام بعمق حتّى الوقت المحدّد، لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفًا.
‘مَن يعزف على البيانو في هذه الساعة؟’
كانت أنغامٌ عذبة تتردّد في الجوّ.
لا شك أنّ العازف موهوب.
لكن أيًّا كانت مهارته، فالوقت كان غير مناسب.
أن يُعزَف اللحن بينما الجميع يحاول النوم، هذا دليل على قلّة الذوق.
‘ليس هناك كُثر يعرفون العزف على البيانو في هذا البيت.’
ولم يكن على الموظّفين مسموحًا لمس آلات القصر إلا إذا كانت تخصّهم.
بالتالي، لم يبقَ إلّا ثلاثة: الماركيز، الماركيزة، و الآنسة جولييت.
لكن الماركيز وزوجته كانا خارج القصر في أملاكهما. إذن، هل تكون الآنسة جولييت؟
‘لا، هذا غير ممكن.’
عند التفكير أكثر، تذكّرت أنّها قيل إنها غاضبة بشدّة، وأغلقت باب غرفتها على نفسها، معلنةً أنّها لن تخرج قبل الصباح.
فما تفسير العزف إذًا؟
في تلك اللحظة اقشعرّ جسدي.
‘لا بدّ أنّني مرهقة، وأتخيّل أصواتًا.’
نعم، هكذا برّرت لنفسي بداية.
لكن تكرار اللحن نفسه، في التوقيت ذاته، على مدار أسبوع كامل، جعلني أُدرك أنّ عليّ التحقّق.
سواء كان عزفًا منها، أو أمرًا آخر كليًّا.
‘سأذهب لأرى ثم أعود.’
وهناك مثل يقول: “أوّل من يُخالف، هو أوّل من يهلك.”
لماذا تذكّرتُه فجأة؟
‘البيانو موجود في الطابق الرابع.’
كنتُ قد التقطتُ هذه المعلومة من أحاديث الخادمات الأكبر سنًّا، وهنّ يتظاهرن بالانشغال بينما يثرثرن عند النوافذ.
“ذلك البيانو ثمنه خيالي.”
“أتقصدين الموجود في الطابق الرابع؟ طبيعي أن يختاروا واحدًا باهظًا ما دام الوحيد في هذا القصر.”
استندتُ إلى ضوء شمعة وأنا أعبر الممرّ، فأبصرتُ مشهد الليل الساكن خلف النافذة.
‘لا يزال الصوت مسموعًا.’
♪♫♫♪♫♪♪♫♫
وقفتُ أمام الدرج بعد أن اجتزت الممرّ، وكان عزف البيانو لا يزال يتردّد من الأعلى.
ازدردتُ ريقي وصعدتُ بخطوات حذرة.
لو رآني أحد، لقال حتمًا: الفضول مهلكة.
لكنّني سأجيب:
قلبي لم يكن قويًّا لأتجاهل فضولي، بل تركتُ نفسي أسيرة له.
‘ها هو.’
عندما وصلتُ إلى الطابق الرابع، رأيتُ بيانو أسود.
كان اللحن ما يزال يتردّد، لكن، وكأنّ العازف شعر بوجودي، توقّف فجأة.
‘…لا أحد هنا.’
لا أثر لشخص، لا ظلّ، لا حتى طيف بعيد.
ومجرّد أن خطرت ببالي جُملة “هذا مستحيل”، حتى بدأ قلبي يخفق بجنون، وساقتني قدماي ناحية البيانو.
وهناك، ما لم أره أولًا، بدا يتّضح شيئًا فشيئًا تحت ضوء القمر.
‘المفاتيح محطّمة.’
بدا أنّ ثلاثة أو أربعة منها مكسورة، ورأيت ورقة موسيقى مجعّدة، ممزّقة بشدّة.
وقد تلطّخت وغُمست بشيء غليظ قانٍ.
في ظلمة الليل، لا مجال للخطأ فيما غطّاها.
لم أدرِ إن كان دم إنسان أم حيوان، لكن شيئًا واحدًا لا شك فيه: الورقة كانت ملطَّخة بالدم.
وبمجرّد أن أدركتُ ذلك، شعرتُ وكأنّ الأرض انسحبت من تحت قدمي، واجتاحتني دوخة حادّة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"