حين همَّ الخادمان بفحص المرآة ليتأكّدا من عدم تضرّرها أو تصدعها، وجداها سالمةً تمامًا، فما كان منهما إلّا أن وقفا أمامها يتأمّلان انعكاس صورتهما بعيون متأملة.
بل إنّ أحدهما كان يُسرّح خصلات شعره المتطايرة وكأنّها تهوى التحليق نحو السماء، متبخترًا في اعتدادٍ شديد بنفسه.
‘إنّها مرآة، فكيف لي أن أظهر فيها؟’
كنتُ أرجو، ولو من قبيل الصدفة، أن تنعكس صورتي، أن يراني أحدهم، أن يقع شيء من تلك المعجزات التي تبدّل الأقدار، لكنّ الواقع كان قاسيًا، ولم تقع أي معجزة.
“حسنًا، بما أنّ كل شيء طبيعي، فلنواصل طريقنا.”
“نعم، البقاء هنا أطول قد يوقعنا فيما وقع فيه غيرنا من قبل، حين اعتُبر تقصيرًا فحُسم من راتبه. لا نريد أن يلاقينا ذلك المصير.”
حمل الاثنان المرآة مجددًا، متّجهين نحو الخروج، خائفين من أن يُمسكا قبل أن يلتقيا كبير الخدم أو رئيسة الخادمات.
‘يَجِب أن أعود إلى غرفتي فورًا.’
لو بقيت أكثر، لربّما انتقلتُ مع المرآة إلى مكانٍ مجهول، فاستدرتُ مسرعةً وقفزتُ نحو العتمة الداكنة الممتدة أمامي.
ولو أنّ أحدهم رآني آنذاك، لقال إنّ حركتي أشبه بقفزة ضفدعٍ في مستنقع.
‘جيّد، الانتقال يسير بلا مشقة.’
ما إن تمنّيتُ بكل قلبي العودة إلى غرفتي حتى وجدتُ نفسي داخل المرآة القديمة في مكاني المعتاد.
بعد محاولات عدّة، أدركتُ أنّ الانتقال بين المرايا ليس بالأمر الصعب.
‘هل كانت هناك مرآة في قاعة الطعام؟’
لم يتبقَ عليّ سوى التأكّد من أنّ من تتقمّص صورتي لا يُحدث أي فوضى هناك.
لكنّ الانتقال إلى القاعة بلا مرآة مستحيل، فاستحضرتُ في ذهني ملامحها…
‘لا، لا أذكر مرآة هناك.’
تذكّرتُ النوافذ الزجاجية التي تطلّ على السماء الرمادية، لكنّها لم تكن مرآة.
لو استطعت الانتقال عبر النوافذ، لكان الأمر أسهل، لكنّ غياب انعكاسي عن أي مرآة يزيد صعوبة المهمة مضاعفة.
‘لكن سأجرّب على أي حال.’
قد لا تكون هناك مرآة مثبتة في القاعة، لكنّ كلّ شيء يتغيّر لو ظهر أحدهم حاملاً مرآةً صغيرة.
‘حجم المرآة لا يهمّ.’
الأمر كلّه مسألة قدرة على الانتقال، لا أكثر.
فلو أنّ أحدهم بعد الطعام أخرج مرآةً ليتحقق من ما عَلِق بشفتيه، لأمكنني الانتقال فورًا إليه.
‘حسنًا، لننطلق.’
ملأت صدري نفسًا عميقًا، واستعديتُ للقفز مجددًا.
سيطرت عليّ رهبة شديدة، إذ إنّ فشلي يعني البقاء في هذا الفراغ المظلم، لكن لم يكن أمامي خيار للتأجيل.
أغمضت عينيّ وتمسكت بالأمل.
“انظري، لقد تلطّخت ثيابك بالصوص.”
“قلت لكِ أن تكوني حذرة عند الأكل.”
“امسحيها قبل أن تترك أثرًا دائمًا.”
كانت أصوات البشر مألوفةً: ضحكات، ألحان مضغ، صرير كراسي، وحركة مزدحمة.
فتحتُ عينيّ فجأة، مذهولةً.
‘يا إلهي، كم هم كبار!’
كان الخدم أمامي كعمالقة، وأنا كالنملة أمامهم.
‘ورؤيتي تهتزّ بلا توقّف.’
الصورة تتمايل، فتعذّر عليّ إدراك التفاصيل.
يبدو أنّي نجحت في الانتقال، لكن أي مرآة أُحِيط بها؟
“هاك، خذي مرآتي الصغيرة. استعيني بها ثم أعيديها بسرعة.”
جاء الصوت من فوق رأسي، ومعه تحرّكت الرؤية بعشوائية، ثم استقرّت أخيرًا.
“ها هو مكان البقعة.”
ظهرت عاملة من القصر، تحمل المرآة التي أحتويها، وتبدأ بمسح ما عَلِق بثيابها بدقة.
“أظنّ أنّي أزلتُ كل شيء الآن.”
رفعت المرآة لتتأكد من وجهها، فرفعته أعلى قليلًا، كأنّها تحرص على عدم وجود شيء على بشرتها.
“هاك، أعيديها.”
لم يظهر انعكاسي في المرآة، فلم يُدرك أحد وجودي.
وضعت العاملة المرآة على الطاولة، فأصبحت السقف يملأ مجال بصري.
“إيفون، بعد الإفطار توجّهي إلى الآنسة جولييت، فهي تطلبك.”
ثمّ جاء صوتي أنا، يتحدث كما لو أنّه صادر مني.
“نعم، سأفعل.”
إنّها تقلّدني بإتقان.
“يبدو أنّ الآنسة جولييت أصبحت تُحبّك كثيرًا، لم تعد تستدعك لفترة، لكنّها صارت تطلبك أكثر مؤخرًا، هل حدث شيء؟”
‘صحيح، لقد صارت تطلب حضوري أكثر من قبل.’
لكنّ التي تُفضّلني ليست جولييت المعتادة، بل نسخة أرستقراطية منها.
‘لا أعلم السبب، لكنّ محبّتها أفضل من كراهيتها.’
لكنّ المشكلة أنّ من ستقابلها ليست أنا، بل من تتقمّصني.
‘ماذا لو ارتكبت خطأ أمامها؟’
خطر القلق يزداد.
“ليس هناك ما يدعو للقلق، ربما تجد فيّ راحة للعمل، فأنا ما زلت حديثة العهد هنا.”
تقلّدها طريقتي في الكلام بسلاسة.
“ربما يكون الأمر كذلك.”
لم يشكّ أحد، ولم يلتفت أحد إلى أنّها ليست إيفون الحقيقية.
‘يجب أن أراقبها، لعلّها لا تُسيء التصرف أمام الآنسة جولييت.’
كان ذلك واجبي الآن، والقاعة تموج بالضوضاء إيذانًا بانتهاء الإفطار.
‘لحسن الحظ أنّ غرفة الآنسة جولييت تحتوي مرآة ضخمة.’
عرفت ذلك من زيارات سابقة، وكانت ثابتة في مكانها، واضحة الرؤية.
تحرّكت قبل أن تُخفي المرآة في الجيب، وقفزت مجددًا.
“اقتربي أكثر.”
كان صوت الآنسة جولييت العذب يدعوني بهدوء.
نظرت حولي.
‘ها أنا أعود إلى هنا من جديد.’
المشهد الفخم أكد أنّي في غرفتها، وهناك كان جسدي تحت سيطرة من تقلّدني.
“تبدين مختلفة.”
“ماذا تقصدين؟”
“لا شيء، أتحدث مع نفسي.
هيا، اخدُميني كما اعتدت.”
نظرت إليها بنصف اهتمام، ثم أمرتها.
‘ماذا كنت أفعل عادةً؟’
استحضرت الذاكرة، فلم أجد سوى الردود العابرة على أسئلتها، ولم أكن أحضر الشاي أو أساعدها في الزينة.
“سأحضّر لك الشاي، آنستي.”
قالتها المزيّفة بابتسامة، وصبّت الشاي بهدوء.
كانت جولييت تدعم ذقنها بكفّها، تحدّق بها بملل أرستقراطي، ثم رفعت بصرها للحظة نحو المرآة… والتقت عيناها بعينيّ.
‘هل أدركت وجودي؟’
لكنها صرفت نظرها، ولم تلتفت إليّ.
—
لم يشعر أحد بوجودي؛ لا الخادمان، ولا العاملة، ولا جولييت نفسها.
‘كل هذا بلا جدوى.’
عندما انتهى اللقاء، غادرت المزيّفة الغرفة لتُكمل عملها، بينما انتقلتُ بين المرايا بلا جدوى.
كنت أحاول الكلام، لكن صوتي لم يخرج، ووجهي لم يره أحد.
“الأنوار في الغرفة الأخيرة يبدو أنّها احترقت.
الجميع مشغول، فأتمنّى منك الاهتمام بها، ليون.”
رفعت رأسي عند سماع الاسم…
ليون!
‘ربما لن يراني أيضًا.’
لكنّي، رغم كل شيء، تمسّكت بالأمل، وانتقلت إلى تلك الغرفة الأخيرة.
‘إن لم يراني، فلن أحزن هذه المرة.’
وقفت في انتظار دخوله، أُقنِع نفسي بالسكينة.
وما إن فُتِح الباب ودخل، حتى تجمّد مذهولًا، محدّقًا بي.
التعليقات لهذا الفصل " 25"