تجمد جسدي فجأة، كما لو أنَّ قيدًا خفيًّا أربطه، ومددتُ ذراعيّ نحو ما كان يمتدُّ نحوي، فإذا بذراعيّ تُمسكان بقوة، لا حول لي منهما.
“مرحبًا، إيفون؟”
صوتٌ خرج من ذلك الكائن الذي كان يقلد إينيس، يبدو أنه خاطبني بصوتٍ بشريٍّ بارد، مُخيف، وكأنَّه يختبر حدود إدراكي.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيه، وتوهجت كلّ منهما بحُمرةٍ داكنةٍ كجمرٍ مُشتعل، شعرتُ بأنني أُسحب إلى عمقٍ لا قاع له.
“……؟”
ومضَت عيناي لحظةً قصيرةً، لكنَّ كلَّ شيءٍ تبدَّل في طرفة عين.
عندما فتحت عينيّ مجددًا، وجدتُ صورتي المألوفة أمامي، غير أنَّ المكان المحيط بي لم يكن كما عهدته.
‘ما الذي يحدث هنا؟’
الصورة التي تشبهني رفعت ذراعيها بدهشة، دارت حول نفسها، كأنها تستكشف وجودها للمرة الأولى.
وبالقرب منها، كان كوب المضمضة الذي اعتدت استخدامه موضوعًا في مكانه بدقة.
نظرتُ لأسفل بعينين متوجستين، متشككةً في ما أراه.
‘…ليس هنا.’
الكوب أمام تلك الصورة، لكن عندي لا أثر له.
أليس هذا كافيًا ليذكرني بأن من أمامي هو انعكاسٌ لي في المرآة؟
“هذا ما يشعر به الإنسان في جسده الحقيقي.”
قالها بنبرةٍ هادئةٍ غريبة، كأنّه يروي تجربةً سبق له المرور بها.
‘صوته تغيّر.’
الأمر المذهل ليس فقط تغير الصوت، بل أن نبرة حديثه أصبحت الآن مطابقةً لصوتي تمامًا، حتى التنغيم والنبرة.
“…….”
حاولت النطق بأي كلمة، لكن لا صوت يخرج، كما لو أن حاجزًا غير مرئيٍّ قد أغلق فمي وحبس كل حرف.
“الصوت ليس بالأفضل، لكنه لائق بما يكفي.”
تمتم قليلًا وهو يلمس عنقه، ثم ابتسم برضا عن نفسه، ابتسامةً تختلط بها الغرابة والدهاء.
“الآن سأستعمل جسدك على أفضل وجه، بدلًا منك.”
ارتجفتُ.
مددت يدي نحوه، لكن شيئًا صلبًا غير مرئي حال دون وصولها، فارتدت إلى صدري.
جربت اليد الأخرى، فكانت النتيجة نفسها: حاجزٌ خفي، لا يُرى ولا يُكسر.
مهما حاولت، لم أتمكن من لمس انعكاسي، كأن هناك جدارًا شفافًا يفصل بيننا.
“لا تُرهقي نفسكِ على عبثٍ،” قال وهو يحدق بي بعيون تفيض شفقةً زائفة.
“لن تلمسيني أبدًا. قد يكون هذا ممكنًا بالنسبة لي، لكنكِ، كإنسانة عادية، لن تستطيعي ذلك أبدًا.”
كانت عبارته كافية لتؤكد لي أنه ليس من جنس البشر.
‘ربما يكون الأمر كذلك بالفعل.’
لو لم يكن كذلك، فكيف يمكن أن يحدث هذا الواقع الخيالي؟
“يكفي هذا الحديث، الآن عليَّ أن أعيش كإيفون — سأكل، سأعمل، سأتحرك، سيكون الأمر ممتعًا.”
ثم بدأ يتراجع ببطء، مبتعدًا عني.
خفق قلبي بشدة، شعورٌ قاتم بالرهبة يملأ صدري.
“بما أنني حصلت على جسدك، دعيني أكشف لك سرًّا صغيرًا. في هذا العالم، لن تشعري بأي شيء: لا جوع، لا ألم، لا دفء، لا برد، الزمن وحده سيمر.”
صفّق بيديه ساخرًا، وكأنما يقول:
“أليس هذا رائعًا؟”
وكما قال، شعرت أن شعوري بالجوع الذي كان يغمرني حتى لحظات مضت قد تلاشى، واستبدله فراغٌ ميت.
“سأعيش أنا مكانك، وأنتِ ستعيشي في هذه المرآة.”
أشار إليّ مبتسمًا بخبث، وكأن هذه الصفقة شيء طبيعي، لكن في عقلي تعلّقت كلمة “المرآة” مثل سهمٍ حاد.
‘أنا محتجزة داخل المرآة؟’
رغم إنكاري، كانت كلّ الدلائل تؤكد ذلك:
الكوب المفقود، الحاجز غير المرئي، الصوت المحبوس…
كلّها تتوافق مع فرضية العيش داخل المرآة.
“إذن وداعًا، إيفون.”
لوَّح لي بيده، ثم انطلق بخطى واثقة.
‘أن أظل هنا، داخل المرآة إلى الأبد؟’
أمرٌ يفوق التصور، لا يمكن أن يُسمّى حياة.
سمعتُ خطواته تتحرك في الغرفة، ثم أصواته وهي تبتعد، محمولةً على الحياة الواقعية التي لا تصل إليّ إلا عبر هذا الصمت المطبق.
‘خرج من الغرفة… سيواجه الناس!’
ذلك الكائن الذي سجّنني، سيتجوّل بجسدي بين البشر!
قد يحاكي حركاتي، وربما يفسد أو يضرّ إذا ساءت مزاجاته.
‘يجب أن أوقفه بأي ثمن!’
لم يكن الهدف استعادة جسدي فحسب، بل حماية الآخرين من شرّه.
شعرتُ بتحرّر جسدي تدريجيًا، وأخذت أجرّ قدميّ على الأرض المجهولة، في فراغٍ مظلمٍ بلا أرضٍ أو جدران.
‘لو أستطيع الوصول إلى غرفتي فقط…’
كانت المرايا منتشرة في كل زاوية من القصر، ليست في الحمّام فحسب، بل في غرفتي، في الممرّات، في كل مكان.
‘لم أجرّب قدميّ بعد، يمكن أن تنقذاني.’
تذكرتُ أن الانتقال إلى المرآة في غرفتي قد يكون ممكنًا، فتشبّثت بهذه الفكرة واندفعت نحوها بكل قوة.
لم أجد أي عائق يمنعني من الالتفاف، فاندفعتُ راكضةً في الظلام.
‘نجحت!’
حين قفزتُ، لم أجد ما يعيقني على الجانبين، وأصبح المشهد أمامي مختلفًا.
‘هذه غرفتي!’
توقفت، والتفتُّ حولي، فرأيت سريري وكل أغراضي، وأدركت أنني انتقلت داخل المرآة الموجودة في غرفتي.
‘كيف حدث هذا؟’
ربما هناك قاعدة تسمح بالتحرك بين المرايا فقط، وليس إلى الواقع.
قررت تأجيل مطاردة انعكاسي لفهم هذه القاعدة أولًا.
‘هل أستطيع العودة إلى المرآة الأولى؟’
فكرتُ، ثم قفزت نحو الظلام مجددًا، فتبدلت المشاهد مرة أخرى، لتصبح الحمّام والمكان المألوف أمامي.
‘إذن يمكنني التنقل بين المرايا بحرية.’
لكن العودة إلى العالم الواقعي ما زالت مستحيلة.
الانتقال يقتصر على المرايا فقط.
‘هل يمكن الانتقال إلى مرآة أخرى في القصر؟’
تلك الفكرة أشعلت في نفسي شعورًا بالأمل.
‘سأحاول مرآة أبعد هذه المرة.’
قفزت مرة أخرى، فإذا بالمشهد مختلف: لم تكن غرفتي، ولم يكن الحمّام، بل ممرات القصر الطويلة.
“لماذا طلبوا منا تحضير مرآة كاملة الجسد فجأة؟”
“إحدى المرايا كُسرت أثناء التنظيف، لا يمكن تركها متهشّمة، قالوا أن نستبدلها قبل الظهر.”
أصوات خدمٍ مألوفين تصل من فوقي.
‘كيف يسمعونني من فوق؟’
رأيت انعكاسي في المرآة التي يحملونها، كانت ضخمة، يحملها خادمان عبر الممر.
‘إذن يمكنني الانتقال إلى أي مرآة مهما كان مكانها.’
تأكدت من القاعدة، وتوقّف الخادمان، وأقاما المرآة عموديًا، فدار بصري، وكأن العالم يختلّ.
“لِنَفحصها قبل التسليم.”
“لماذا؟”
“حتى لا يُعاد بنا لأحضار واحدة أخرى إن كانت بها خدوش.”
اقتربا من المرآة، وكانت هذه أول مرة أواجه البشر منذ دخولي هذا العالم الزجاجي.
ارتجفت، وبدأت قطرات العرق تتساقط على عنقي.
‘هل سيرونني؟’
حتى وإن كان انعكاسي يحاكي حركاتي، فقد يكون هناك من يلاحظني.
“كل شيء سليم.”
لكن لم يلاحظ أحد وجودي، كأن المرآة أمامهم فارغة.
التعليقات لهذا الفصل " 24"