لقد مرّت عليّ قبل ذلك قصة مشابهة لما سأبوح به الآن.
قالت لي إحدى السيدات: “الآنسة إيفون، ربما لم تكوني على علم بعد، غير أنّ بيانو قصر روزيفينا… هذا البيانو لا يُصدر أيَّ نغمة.”
كم شعرت بالذهول حين علمتُ أنّه لا يُغنّي!
وما زلتُ أشعر بالدهشة نفسها حتى اليوم.
‘غرفةٌ فارغة؟’
لقد كانت تلك الفكرة سريالية إلى حدٍّ لا يُصدّق، فلم أستطع الردّ على السؤال حول من أصدر الصوت الذي سمعتُه.
‘لكنّي سَمِعْتُه بوضوح.’
لم يكن هذا مجرد وهمٍ أو إرهاقٍ عابر، بل الصوت تكرر لأيامٍ متتالية.
قالت الآنسة جولييت وقد ارتسم الفضول على وجهها: “لماذا لا تجيبين؟ من الذي سمعتِ صوته حقًّا؟”
ظللتُ في حيرةٍ طويلة، فالغرفة خالية، والصوت مسموع، فكيف أجيب عن شيءٍ لا أعلم مصدره؟
بعد لحظةٍ من الإحباط، تنفّستُ بعمق وقلتُ متذرّعةً: “ربما كنتُ متعبةً يا آنسة… أظنّني سمعتُ هلاوس.”
ورغم أنّي أنا من نطقت بهذه الكلمات، إلّا أنّها بدت مقنعةً تمامًا.
منذ أن انتهى ذلك الكابوس الملعون، كابوس “اليوم المتكرّر”، لم يمضِ وقت طويل، وكنتُ أعمل بلا راحة، فكان شعور التعب طبيعيًّا.
ومع ذلك، ظلّ في نفسي سؤالٌ محيّر: هل يمكن للإنسان أن يسمع “هلاوس” بهذا الوضوح؟
‘يقولون إنّ كثرة سماع الأصوات تؤذي الصحة النفسية.’
ولو افترضنا أنّ ما سمعتُه هلاوس، فهو استمرّ لأكثر من أسبوع، ما يعني أنّ عليّ مراجعة طبيب أو تناول دواءٍ معيّن.
‘سيكلفني ذلك ثروةً بلا شك.’
كنتُ على وشك الانغماس في كآبةٍ عميقة حين قالت جولييت بهدوء: “إذا كنتِ تصرّين على أنّها هلاوس، فلن أجادلك.”
ثم توقّفت عن الاتكاء على ذراعها، وراحت تنقر بأصبعها على الطاولة برفقٍ متأنٍّ.
“أفكّر في إرجاعك إلى غرفتك، لكن قبل ذلك… سؤالٌ أخير.”
رفعتُ رأسي منتظرةً.
“لقد جئتِ إلى الطابق عدة مرات، فلا بدّ أنّك رأيتِ اللوحات المعلّقة في الممرّ، أليس كذلك؟ تلك التي تَصوّر أشخاصًا متعدّدين.”
كانت تشير إلى اللوحات المعلقة في الممرّ الثالث حيث أجلس الآن.
“اختارها والدي بعنايةٍ فائقة. اعتقد أنّ الممرّ بحاجة إلى لوحاتٍ تليق به، فأحضرها من المزاد بثمنٍ باهظ.”
ثمّ أضافت وكأنّها تستحضر ذكرى بعيدة:
“لم يكن والدي بارعًا في توسيع التجارة أو إحياء مجد العائلة، لكنّ ذوقه الجمالي لا يُضاهى. حين علّق اللوحات، كانت تجسّد الجمال بأبهى صوره.”
كانت لهجتها هادئة، لكنّ عينيها لم تلتقِ بعيني، بل كانت تبحث في ماضٍ بعيد.
“قبل أن يُدخل والدي تلك التحف إلى القصر، كان المكان متواضعًا نوعًا ما. المالك السابق لم يكن يجمع الأشياء الباذخة، بل فضّل الرشاقة والأناقة على البهرجة.”
ابتسمت بخفوت وأضافت: “لم يكن زاهدًا تمامًا، لكنه لم يكن مسرفًا أيضًا.”
“ومنذ أن تغيّر القصر، صار الضيوف يمدحون ازدحامه بالجمال، لكنّ تلك الأيام لم تدم.”
بدأ وجهها يكسوه الحزن شيئًا فشيئًا.
“رحل والدي مع والدتي إلى الضيعة، ولم يَعُد أحدٌ يزورنا بعد ذلك. فبرأيك، ما مصير اللوحات؟”
أجبتها بتردّد: “أظنّ أنّها ما زالت محفوظة يا آنسة. كانت في حالةٍ ممتازة آخر مرة رأيتها فيها.”
لكنّي لم أذكر أنّ تلك العيون المرسومة كانت تتابعني كلّما مررتُ أمامها.
“أترينها جميلةً فحسب؟”
قالت ذلك بنبرةٍ غامضة.
“حتى الوردة الأجمل تحمل شوكها، فلا تنخدعي بالمظاهر وحدها.”
ثم أشارت إليّ بيدها كما لو كانت تودّعني.
“إلى اللقاء إذًا، سنلتقي قريبًا.”
—
[ 📜 قواعد العمل في قصر روزيفينا.
المادة الثامنة:
“يحتفظ القصر بغرفٍ احتياطية في مساكن الخدم، وهي الغرف 104 و201، ولا تُستعمل إلا عند الضرورة القصوى.
إن سُمِع من تلك الغرف أيُّ “صوت”، فعلى الجميع تجاهله.
فإن لم تُظهروا أيَّ استجابةٍ للصوت، فلن تضطر “الجهات” إلى رفع الصوت أو القدوم إلى غرفتكم.]
—
رغم غرابة ما حدث، استمرّ صدور الضجيج من الغرفة 201، تمامًا كما كان يحدث حين سمعتُ عزف البيانو للمرة الأولى.
لكن مع مرور الأيام، أخذ الصوت يخفت شيئًا فشيئًا، وحين فتشتُ الورقة التي وضعتها عند الباب، وجدتها اختفت.
لا شكّ أنّ الآنسة جولييت أمرت أحدًا بأخذها.
‘قليلٌ من الصبر فقط، وسأنال راحتي.’
كنتُ قد اعتدتُ على الضوضاء المجاورة، ولم أعد أتأثر بها كثيرًا، وفوق ذلك، كان الغد يومَ راحتي المنتظرة، فشعرتُ بالراحة.
‘قالوا إنّ قائمة الطعام تغيّرت هذا الصباح، أليس كذلك؟’
لم يكن العمل كلّه شقاء، فثمة فرحة صغيرة تنتظرني: طبق معكرونة جديد يحلّ مكان تلك الخضار البائسة التي سئمتها.
‘عليّ أن أتحرك بسرعة.’
ابتسمتُ وأنا أتهيّأ ليومي الجديد.
تقدّمتُ إلى المغسلة، أواجه المرآة الصافية، فرأيت انعكاسي المتعب يحدّق بي بنصف وعي.
غسلتُ وجهي بالماء البارد، فانتعشتُ قليلًا.
لكن فجأةً، شعرتُ وكأنّ شيئًا ما يراقبني من خلال الزجاج.
‘ربما تهيّأ لي فقط.’
رفعتُ رأسي مجددًا.
تحرّك الانعكاس كما أنا بالضبط…
إذًا لا شيء غريب.
‘اليوم… أيّ جناحٍ عليّ تنظيفه؟’
بدأتُ أفرش أسناني وأنا أفكّر في خطّتي لإنهاء العمل بسرعة، لكنّ رأسي كان بطيئًا من الجوع، فلم أستطع التركيز.
وحين أنهيتُ المضمضة، حملتُ الكوب الصغير الذي وُزِّع على جميع الخدم في أوّل يومٍ للعمل. كنتُ أذكر تمامًا أنّ الجميع حصل على الأكواب ذاتها.
‘لكن لماذا؟’
انعكاسي في المرآة لم يكن يحمل كوبًا مثلما أفعل!
أنا أمسكه في يدي، بينما “أنا” هناك، أُقلّبه بفضولٍ كما لو يراه لأوّل مرّة.
تجمّدتُ في مكاني، ثمّ وضعتُ الكوب جانبًا، وقرصتُ خديّ بقوّةٍ لعلّي أستيقظ من وهمٍ ما.
لكن انعكاسي لم يقرص نفسه، بل ظلّ يحدّق بي بثبات.
ثم رفع الكوب، وألقاه إلى جهةٍ ما.
‘ما هذا بحقّ؟’
لم يُصدر سقوط الكوب أيّ صوت، لأنّه ببساطة لم يكن في عالمي أنا.
بعدها فقط، تقلّد انعكاسي ملامحي مجددًا، فرفع يديه يقلّدني متأخّرًا، كطفلٍ يحاول تكرار ما يرى.
كانت تلك اللحظة كافية لأدرك أنّ شيئًا فادحًا يحدث.
‘هذا ليس انعكاسي.’
تصلّبتُ مكاني، وبياضٌ كثيف ملأ رأسي.
لم أستطع التفكير أو الفرار.
‘ما هذا الشيء؟’
كان يشبهني في كلّ شيء…
لكنه ليس أنا.
تذكّرتُ فجأةً ذلك الكابوس، حين ظهر كائنٌ يرتدي هيئة إينِيس.
‘لا، لا يمكن… هذا ليس حلمًا آخر!’
غير أنّ الكابوس نفسه بدا وكأنه يعود للحياة أمامي.
وفي تلك اللحظة، بدأ “أنا الآخر” في المرآة بتحريك شفتيه بسرعة.
‘ما الذي يقوله؟’
لم أسمع صوتًا، وكانت حركات فمه سريعة جدًا، يصعب فهمها.
ثم توقّف، وابتسم ابتسامةً باردة، قبل أن يمدّ يده نحوي عبر الزجاج.
كانت يده، ثم كتفه، ثم وجهه يخرج من المرآة ببطءٍ مخيف.
التعليقات لهذا الفصل " 23"