رغم أنّ هطول المطر المفاجئ استهلك بعض الوقت، إلّا أنّنا تمكّنا من العودة إلى القصر سالمين، دون أن يصيبنا أيّ حادث يُذكَر.
‘يا له من مطرٍ غزير لا يرحم.’
جلستُ في العربة، أتأمّل الخارج عبر النافذة، وأرى قطرات المطر تتهادى بلا توقف.
وبينما كنا على وشك النزول، علمتُ أنّ الطريق إلى مقرّ الإقامة ليس بالقصير، والأسوأ أنّنا لم نحمل مظلّةً، فلا منجى لنا سوى الركض تحت زخّات المطر.
“يبدو أنّ علينا أن نركض، أليس كذلك؟”
قالت لورا، وكأنّها تشاركني الفكرة نفسها.
“نعم، إذا أردنا أن نقلّل من البلل، فالركض خيارٌ لا مفرّ منه.”
فانطلقنا معًا، نركض صوب المقرّ، والماء يتساقط علينا بغزارة.
‘أيُّ مطرٍ هذا الذي لا يكلّ ولا يملّ؟’
رفعتُ وجهي للحظة، لأرى السماء وقد انفتحت كأنّها ثقبٌ هائل يفرغ سيلًا لا ينقطع من الماء.
وعند وصولنا أخيرًا، كنّا كفئرانٍ مبللة حتى العظم، وثيابنا متلاصقة بأجسادنا، تزرع شعورًا بالضيق والبرودة.
‘يا لَلرطوبة الكامنة في كلّ شعرة وجزء من جسدي!’
كانت الملابس ثقيلة، مشبعةً بالماء من الرأس إلى القدمين، وكأنّها طبقةٌ ثانية من جسدي، تشعرني بالثقل والاشمئزاز في آنٍ واحد.
“كنتُ أودّ أن نُطيل الحديث قليلًا، بما أنّنا تشاركنا مهمة إلقاء القمامة، لكنّ حالنا هذه تستدعي تأجيل أي حوار.”
قالت لورا وهي تقرّب نظرها لتتفحّص حالنا البائس بسرعة.
أومأتُ برأسي موافقةً، دون أن أنطق كلمة.
‘عليَّ أن أعود إلى غرفتي فورًا.’
وبمجرد انفصالي عنها، أسرعتُ نحو السلالم، تاركًا خلفي أثر قطرات الماء على الأرض مع كل خطوة، كما لو أنّها خريطةً لعبوري.
‘سأعود لاحقًا لأمسح كل أثر، بعد أن أستحمّ.’
لكن حين وصلت إلى باب غرفتي، راودتني فكرة خاطفة:
‘هل يمكن أن يتكرر الأمر؟’
كما حدث حين استيقظت بعد قيلولتي، ووجدتُ الدمية مجددًا أمامي.
‘مستحيل… لقد رأيتُها تحترق بعينيّ.’
أقنعت نفسي بذلك، ومددتُ يدي لفتح الباب.
‘اختفت.’
تنفّست الصعداء، فالدُمية البائسة لم تعد موجودة هذه المرّة.
—
بعد الاستحمام، ومسح آثار الماء من الممرّ والسلالم، وحتى بعد أن غفوت، لم أواجه الدُمية مجددًا، وكأنّ ظهورها السابق لم يكن سوى حادثٍ عابر.
‘حان وقت العمل من جديد.’
حلّ يوم الاثنين، وكان من المقرّر أن أنظّف نوافذ الطابق الأوّل، لكن الأمر تغيّر فجأة إلى تنظيف الأرضيات، بسبب استمرار المطر الغزير الذي بدأ الأحد.
كلّ مجهود لتنظيف النوافذ في هذا الطقس كان عبثًا، فتم تعديل مهام العمل.
“إيفون، الآنسة جولييت تطلبك.”
هذا الخبر جاء بينما كنت منهمكة في التنظيف، وراودني فضول:
‘الآنسة جولييت؟ ما السبب في هذا الوقت المتأخر؟’
لم ألتقِ بها منذ فترة، ولم أفعل شيئًا يثير غضبها.
‘هل استدعَتني بلا سبب؟’
تذكرتُ قول رئيسة الخدم: حين تستدعيك الآنسة، دعي كل شيء جانبًا واذهبي فورًا.
فما كان مني إلا أن توجهت سريعًا نحو جناحها.
“ها قد جئتِ أخيرًا، كدتُ أملّ من الانتظار.”
كانت تجلس بهدوء على الطاولة تحتسي الشاي، ثم أشارت إليّ:
“اقتربي أكثر.”
تقدمتُ خطوة فخطوة حتى صرتُ أمامها مباشرة، لكنّ شيئًا في نبرة صوتها أغراني بالريبة.
‘إنها لا تستخدم الضمير الغائب، كما اعتدت.’
بدا أنّني أمام شخص آخر، يعيش في جسدها ذاته، مختلف عن ما عرفته من قبل.
“قولي لي، هل نزفتِ دمًا حين كنتِ معي في الحديقة؟”
سألتني بصراحةٍ مباشرة، وكأنها تتحرّى الحقيقة.
“ولِمَ تسألين ذلك، سيّدتي؟”
“لأنّ ذاكرتي تختلط عليّ. أذكر أنّكِ نزفتِ، وفي وقت آخر أرى أنّ الأمر لم يحدث، لذا لم أعد أميّز الحقيقة.”
كان كلامها غامضًا، لكنّي فهمت المقصود تمامًا.
كلتا الذكريين صحيحتان، فالزمن كان يعيد نفسه. في بعض الأيام رأيت الدم، وفي أخرى نجوت دون أذى.
“أريد أن أعرف أيّ الذكريين حقيقية. أنتِ تعرفين، أليس كذلك؟”
ربّما لهذا السبب استدعَتني منذ الصباح الباكر.
“اختاري ما يُريح سيّدتي.”
لم أستطع أن أجزم، فضميري لم يسمح لي بالإنكار.
“هكذا إذًا؟”
ابتسمت ابتسامة غامضة، من غير أن تظهر عليها نبرة الغضب التي اعتدتها منها.
“كان هذا كلّ ما أردتُ سؤالك عنه، لكن طرأ على بالي أمرٌ آخر: هل تعلمين لماذا توقّف كلّ شيء فجأة؟ لماذا لم يعد يتكرّر اليوم ذاته كما كان؟”
سؤاله جاء على نحوٍ رمزي، لكنّي أدركت مراده: كانت تريد معرفة سبب نهاية تكرار الأيام.
“لا أعلم بالتفصيل، لكن في تلك اللحظة حاولتُ التصرف بطريقة مختلفة، ظننتُ أنّ تغيير الفعل سيكسر الحلقة.”
وقد نجحت، فتوقف الزمن عن تكرار ذاته.
لكنها لم تبدُ راضية، وقالت:
“ذلك وحده لا يكفي.”
تمتمتْ وهي تضع كفّها أسفل ذقنها، بنظرةٍ تملؤها الحيرة، ثم تابعت:
“على كلّ حال، يمكنكِ الانصراف الآن. سنلتقي كثيرًا من الآن فصاعدًا.”
‘سنلتقي كثيرًا؟’
تساءلت بدهشة، فالخدم عادةً نادرًا ما يلتقون بأربابهم.
لكنّها أوضحت بصراحة، وكأنها تتحدث بصفتها الأخرى، دون أن تحاول إخفاء ذلك:
“إن حدث أمرٌ يُثير الخوف، أو إن لم تحاولي الإفاقة بنفسك، حينها سنلتقي مجددًا.”
—
بعد لقائي بها، انغمستُ في العمل بلا كلل.
القصر فسيح، وكل زاوية تتطلب الاهتمام.
من الصباح حتى المساء كنتُ أكنس وأمسح، حتى لمع الطابق الأوّل من شدّة العناية.
‘مجهود شاق، لكنه مجزٍ.’
مع حلول المساء، انتهيتُ من العمل ونظرتُ إلى المطر الغزير في الخارج.
توجّهتُ نحو قاعة الطعام لتناول العشاء، وقد غمرني التعب ورغبة في النوم.
‘سأخلد إلى النوم حالما أصل إلى غرفتي.’
الطعام اليومي لم يعد يثير اهتمامي، فتناولته بسرعة، ثم عدتُ إلى الغرفة بخطًى متثاقلة.
ما إن وصلتُ حتى اغتسلت سريعًا، وتمددت على الفراش، سحبتُ الغطاء حتى عنقي، وأغلقت عيني.
لكنّ الهدوء لم يدم طويلًا.
دُقّ! دقّ دقّ! دقّ! دقّ! دقّ دقّ!
سمعت أصواتًا غريبة، كأنّ أحدًا يطرق الجدران بإيقاعٍ متقطع.
‘ما هذا؟’
بعد صمتٍ طويل، عادت تلك الأصوات المزعجة من جديد.
دقّ! دقّ دقّ! دقّ! دقّ دقّ دقّ!
المصدر؟ الغرفة المجاورة، تحديدًا رقم 201.
لم أعرف ساكنها، ولم ألتقِ به قط.
ثم تبعت الطرقات أصواتُ خشبٍ يصرّ على الصرير، وجرّ أثاثٍ على الأرض.
‘هل يغيّر أحدهم ترتيب الغرفة في هذا الوقت؟’
وضعت يديّ على أذنيّ، لكنّ الضجيج استمرّ بلا رحمة.
‘سأتجاهل الأمر هذه الليلة فحسب.’
وهكذا، انتهى اليوم على هذا الحال، وكانت ليلةً طويلةً مزعجة، وقرار التجاهل كان خطأً جسيمًا.
—
صريرٌ… خشخشة… دُقّ!
وجاء مساء الثلاثاء، والضجيج ذاته تكرّر من الغرفة 201 قبل أن أغفو للنوم.
التعليقات لهذا الفصل " 21"