“بما أنّ علينا مغادرة القصر متجهين إلى القرية، فالأجدر أن نستقلّ عربة من هنا.”
كانت لورا تمشي بخطى ثابتة في المقدّمة، ثمّ أشارت بيدها نحو الجهة التي تصطفّ فيها العربات خلف الإسطبل.
“هل نحتاج حقًّا إلى الذهاب إلى القرية؟”
كنت أعلم أنّ المحرقة تقع بعيدًا نسبيًّا، غير أنّي لم أسمع قط أنّ علينا الخروج إلى القرية نفسها، فالتفتُّ إلى لورا لأسألها وقد بدا أنّها الأدرى بالأمر.
“يبدو أنّك لا تعرفين موضع المحرقة جيدًا، أليس كذلك؟ طبيعيّ ألا تعرفي، فليس لك عملٌ هناك. لكن اصغي إليّ جيّدًا، فسأشرح الأمر مرّةً واحدة فحسب.”
توقّفت فجأة، ثمّ التفتت نحوي لتبدأ شرحها بنبرةٍ مفعمة بالجدّ كمن يلقّن درسه لتلميذٍ صغير.
“كما أسلفت القول، لا سبيل إلى الوصول للمحرقة إلّا بالخروج من القرية، والمسافة ليست بالقريبة أبدًا.
أن تظنّي أنّ بإمكانك بلوغها سيرًا على الأقدام وحدكِ، فذلك وهمٌ كبير.”
حرّكت إصبعيها في الهواء، تحاكي بهما خطوات إنسانٍ يسير، وكأنّها تصوّر لي المشقّة ذاتها.
“ثمّ إنّ هذا القصر يملك عرباتٍ يركبها السادة وأصحاب المقام الرفيع، كما خصّص عرباتٍ أخرى يستخدمها الخدم أمثالنا.”
ثمّ لوّحت بيدها قائلة: “سأُريكِ بنفسي، تعالي.”
وما إن أنهت عبارتها حتى مضت أمامي بخطواتٍ مسرعة دون أن تنتظر جوابي.
لمّا لحقت بها، رأيت عربةً صغيرةً متواضعة المظهر، لا تشبه عربات النبلاء المتأنّقة، بل كانت قريبة الشبه بتلك التي استقللتُها في يوم عملي الأوّل.
“هذه العربة تُخصَّص لمَن يُرسَل في مهمّةٍ خارج القصر أو لمن يعود من الخارج بعد أداء عملٍ ما.”
فهمتُ حينها سبب بساطتها.
“لكن، إن لم يكن خروجك لأداء مهمّةٍ محدّدة، فلا يُسمح لك باستخدامها متى شئتِ. لا بدّ من تقديم طلبٍ مكتوبٍ كذاك الذي أقدّمه أنا عند كلّ مرّة أخرج فيها.”
مدّت يدها إلى جيبها وأخرجت ورقةً مطويّة بعناية، ثمّ كشفت لي عن توقيعٍ بدا توقيعَ رئيسة الخدم.
“ولأنّني أنا من اقترحتُ الخروج وأنتِ وافقتِ، فمن الطبيعي أنّكِ لم تُعدّي مثل هذه الورقة، لكن لا تقلقي. فالقواعد تسمح لمرافقٍ واحدٍ في مثل هذه الحالات.”
ابتسمت وقالت بنبرةٍ ساخرةٍ خفيفة: “أليست رفاهيةً لطيفة؟”
ثمّ اتجهت نحو السائق الجالس قرب العربات، تبادلت معه حديثًا قصيرًا، وعادت إليّ قائلةً بمرح:
“وافق. هيا نصعد. الليل آخذٌ في الانحدار، وسنقود بأقصى سرعة كي نعود قبل أن يشتدّ الظلام. أسرعي.”
أشارت إلى السماء التي غطّاها الغيم الكثيف وقالت: “انظري، الليل يزداد عتمة.”
رفعت بصري إلى السحاب، ثمّ تبعتُها إلى داخل العربة بصمتٍ تامّ.
—
حين وصلنا، كان الليل قد أرخى سدوله، والنجوم تومض في أفقٍ غامقٍ كمدادٍ مسكوب.
بفضل العدو السريع وصلنا إلى محرقة القمامة في زمنٍ وجيز.
‘يا له من مشهدٍ مهيب!’
كانت النفايات مكدّسةً كالتلال، أربع أكوامٍ شاهقةٍ ترتفع كأنّها جبال، حتى اضطررتُ إلى إرجاع رأسي للخلف كي ألمح ذراها.
‘هناك وجهتنا.’
وبينما كنت أحدّق في تلك الأكوام بلا نهاية، وخزتني لورا في جانبي. التفتُّ إليها، فرأيتها تشير نحو زاويةٍ مظلمة يقبع فيها برميلٌ تتراقص في جوفه النار.
كان اللهيب يتغذّى على أوراقٍ مكتوبةٍ بأسرارٍ لا يجوز لأحدٍ أن يقرؤها، وعلى أشياء أخرى لا يُراد أن تبقى.
“عادةً ما تُلقى قمامة القصر هنا، غير أنّ بعض الناس، مثلنا، يفضّلون أن يروا بأعينهم كيف تختفي الأشياء تمامًا.”
ثبتت عيناها على النار المتأجّجة.
“ضعي الدمية هناك.”
ثمّ بدأت تُلقي ما جلبته من أشياءٍ في النار واحدًا تلو الآخر، كأنّها تُضيف وقودًا لتغذية اللهيب.
انتظرتُ حتى أنهت ما في يدها، ثمّ حملتُ الدمية بين كفّي ونظرتُ إليها طويلًا.
‘لن أراها مجدّدًا بعد اليوم.’
وبحركةٍ هادئةٍ حاسمة، ألقيتُها في أتون النار.
“انتهيتِ من كلّ ما أردتِ التخلّص منه؟”
“نعم، لم يبقَ شيء.”
“حسنًا، فلنعد إذًا.”
هززت رأسي موافقةً، وصعدنا العربة ثانيةً.
‘يا لرداءة مقاعدها!’
كانت قاسيةً خاليةً من الراحة، والنوافذ الزجاجيّة تلوّثها بقعٌ متناثرة.
‘كم تختلف عن عربات السادة.’
مرّت إلى جوارنا عربةٌ فخمة يزيّنها الذهب، كأنّها تُعلن للملأ ثراء أصحابها.
عتباتها مزدانة، وستائرها مصنوعة من دانتيلٍ ناعمٍ يحجب الضوء برقة، ومقاعدها الوثيرة تحتضن الجالس كما لو كانت أريكة نعيم.
‘لكن… كيف أعرف كلّ هذه التفاصيل؟’
لم أجلس يومًا في مثلها، ومع ذلك أصفها وكأنّني عشت فيها دهورًا.
“إيفون! هل تسمعينني؟”
انتزعتني لورا من شرودي، ويبدو أنّها نادتني أكثر من مرّة.
“آسفة، كنتُ غارقةً في التفكير.
هل قلتِ شيئًا مهمًّا؟”
ابتسمت وقالت برفق: “لا بأس، ليس أمرًا جللًا. خطر لي شيءٌ فوددت الحديث عنه.”
اعتدلتُ في جلستي وأصغيتُ إليها بتركيز.
“عن أيّ شيءٍ كنتِ تودّين الكلام؟”
“عن تلك الدمية التي ألقيتِها في النار قبل قليل.”
“الدمية؟ ماذا بها؟”
“بدت لي مألوفةً على نحوٍ غريب.”
تردّدت قليلًا، ثمّ قالت بصوتٍ خفيض: “كانت تشبه صاحبتها السابقة.”
“صاحبتها؟”
“ليس في صورتها الحالية، بل حين رأيتها أول مرّة كانت دميةً قديمةً لكنها مصونة، أنيقة رغم قدمها.”
أخذت تسرد أنّها رأت في القصر سابقًا دميةً مماثلة لتلك تمامًا.
“رغم تلفها الآن، ما زالت تحمل العلامات التي عرفتها بها آنذاك، لذا تيقّنت أنّها نفسها.”
ثمّ تابعت: “أما الآن، فهي تُشبه آخر من امتلكها.”
قلتُ بفضولٍ صادق: “وكيف كان شكل تلك المالكة؟”
“كانت خادمة الغرفة مئتين واثنتين، ويُقال إنّها تعرّضت لحادثٍ خطير بعد إعادة بناء القصر.”
“هل أثناء العمل؟”
“لا، أثناء خروجها في أحد الأيام، قيل إنّها سقطت من العربة أو اصطدمت بها. فقدت إحدى عينيها، وأصبحت تَعرُج. إصاباتها كانت مروّعة.”
هزّت رأسها بأسفٍ وقالت: “يا له من قدرٍ قاسٍ.”
“ورغم ما أصابها، تابعت عملها لفترة، ثمّ فجأةً توقّفت، ولعلّها لم تعد تحتمل آثار جراحها.”
تمتمتُ: “الآن أفهم لمَ قلتِ إنها تشبهها.”
دميةٌ بعينٍ واحدة وساقٍ متدلّية، لا غرابة أن تذكّرها بها.
“على كلّ حال، ليس سوى تشابهٍ عابر.”
قالتها لورا محاولةً طرد ثقل الحديث، ثمّ التفتت إلى النافذة.
“انظري، المطر بدأ يهطل.”
‘سيُمطر طويلًا الليلة.’
كانت القطرات تهوي سريعًا، والعربة تُبطئ حركتها لتتفادى الانزلاق.
“الطريق سيطول قليلًا، فما رأيك أن نتبادل أطراف الحديث؟”
فكّرت لحظة ثمّ تابعت مبتسمة: “لو كنّا في الصيف، لقلتُ إنّ هذه الليلة المثالية لحكايات الرعب.”
قلت لها: “لا بأس، احكي واحدةً منها.”
فأطرقت لحظة ثمّ قالت متفكّرةً:
“قصّة عن إنسانٍ يعيش وهو لا يدري أن نسخةً منه تتجوّل متقمّصةً شخصيّته، أو عن روحٍ احتُجزت داخل دمية.”
ابتسمت ابتسامةً باهتةً سرعان ما انطفأت.
وللحظةٍ، شعرت أنّ النار التي تركناها خلفنا ما زالت مشتعلةً بيننا.
التعليقات لهذا الفصل " 20"