“لعلّ قلّة الناس هذا الصباح تعود إلى أنّه يوم عطلة.”
كانت النظرات الأولى كافية لتبيّن فراغ المكان، فأومأ ليون تأييدًا قائلاً بهدوء:
“غالبًا ما يغطّ الناس في النوم في مثل هذه الساعة، فالأمر طبيعيّ.”
وحين أدركا أنّ أمامهما حرّيّة اختيار المقاعد كيف شاءا، تبادلا التفكير لحظةً ثمّ استقرّ رأيهما على الجلوس بجوار النافذة.
كان الجوّ على عادته ملبّدًا بالغيوم، غير أنّ المقاعد المطلة على الخارج والنوافذ المفتوحة أضفت على المكان انفساحًا مريحًا.
‘كم نادرٌ أن أرى أحدًا يجلس متآلفًا هكذا، فقد اعتدتُ أن أراهم متباعدين دوماً.’
عادت إلى ذهنها صورة العاملين في القصر، وكيف كانوا يبدون كما لو أنّ فاصلًا خفيًّا يقسم الرجال عن النساء حتّى في قاعة الطعام.
لم يكن ذلك حال الجميع، فبينهم من كان تربطه علاقة خفيّة فيجلسان معًا، وآخرون نشأوا كالأصدقاء منذ الطفولة فكان قربهم طبيعيًّا.
لكنّها وليون لم يكونا من أيّ الفريقين.
‘ومع هذا، لا أنكر أنّ لهذا المجلس دفئًا خاصًّا.’
ما إن جلسا حتّى أحضرا الطعام المعتاد الذي ألفاه كلّ يوم.
قال ليون مبتسمًا وهو يرمق الطبق بنظرة جانبيّة:
“كنتُ قد بدأتُ أضجر من هذا الطعام المكرّر، لكن لا بأس، فسيُستبدل به غدًا.”
شاركتُه الابتسامة.
فقد بدا لي مثله، أنّ نهاية هذا التكرار باتت قريبة. ولو احتسبتُ عدد المرّات التي تناولتُ فيها هذا الطبق داخل كوابيسي المتكرّرة، لربّما فاق عدد الأيام الحقيقيّة.
كان تبديل القائمة شهريًّا أمرًا مملاً، لو كان أسبوعيًّا لكان أهون.
قال بعد برهة وهو يقطع الصمت بنبرة ودودة:
“هل بلغكِ آخر خبرٍ يا آنسة إيفون؟”
ابتسمتُ وأنا أستمع إليه.
كان يحدّثني ليكسر الرتابة: قصص صغيرة عن أشياء فُقدت ثمّ عُثر عليها بعد أسبوع، أو حكايات طريفة تتردّد بين الخدم.
لم يكن في حديثه غيبة ولا ما يثير الضجر.
قلتُ بعد حين:
“لكن ليون، متى تتناول طعامك عادةً؟ كلّما جئتُ إلى المطعم لا أراك تقريبًا.”
فأجاب بلطف:
“ليس لي وقت محدّد.
أحيانًا أنتهي باكرًا، وأحيانًا يمتدّ عملي حتى المساء.
لذا نادرًا ما نلتقي في الموعد ذاته.”
ثمّ أضاف بابتسامة هادئة:
“ولهذا، فإنّ اجتماعنا صدفةً كهذا اليوم جميل.
الحديث معك مريح، ووجودك يمنحني طمأنينة.”
ارتسمت على شفتيّ ابتسامة غير واعية، وقلتُ بصدقٍ خرج دون تفكير:
“وأنا أيضًا أشعر بالسعادة. هذه أوّل مرّة نتناول فيها الطعام معًا، ومع ذلك كنتَ دائمًا إلى جانبي حين احتجتُ المساعدة.”
تذكّرتُ كيف أنقذني حين كدتُ أفقد الوعي أمام البيانو، وكيف أخرجني من المخزن حين احتُجزتُ داخله.
“صرتَ الشخص الذي أعتمد عليه أكثر من أيّ أحدٍ آخر.”
رفع رأسه وقال بنبرةٍ تمزج العجب بالسرور:
“يُقال إنّي مفيد، لكنّ أحدًا لم يقل إنّه يعتمد عليّ. يسعدني سماع ذلك منك.”
سألته متفاجئة:
“أحقًّا لم تسمعها من قبل؟ من أحد؟”
ابتسم بصفاءٍ وقال:
“منذ صغري أحببتُ مساعدة الناس، وحين جئتُ إلى هذا القصر تصرّفتُ بالطريقة ذاتها. ومع تكرار الأمر، اعتاد الجميع أن يروني أمدّ يد العون تلقائيًّا، حتى صاروا يعدّون ذلك أمرًا مفروغًا منه.”
تأمّلتُ كلامه. كان حديثًا عن الألفة التي تُنسي الجميل، عن اللطف الذي يُستهلك حتى يُغفل الشكر.
“إذن سأعوّضك أنا. سأقولها لك دائمًا. لأنّي لا أنسى يدًا امتدّت نحوي.”
ابتسمتُ وقلتُ ممازحة:
“تعرف يا ليون؟ هناك شيء أودّ قوله لك.”
“وما هو؟”
“شكرًا لأنّك تناولتَ الطعام معي اليوم. وجودك أزال عنّي شعور الوحدة.”
ضحك بخفّةٍ قائلاً:
“بل الشكر لي، فرفقتك جعلت الوقت أقصر وأجمل.”
وهكذا انقضت وجبتنا بهدوء. كنتُ أهمّ بالقيام حين سمعته يقول بصوتٍ خافتٍ كأنّه يحدّث نفسه:
“من حينٍ لآخر لا بأس.”
رفعتُ رأسي نحوه متسائلة، فتابع بلهجةٍ عابرة:
“أقصد أنّ تناول الطعام معًا أحيانًا ليس أمرًا سيئًا. الوحدة أثقل من ذلك بكثير.”
كان في صوته حنانٌ خفيّ، كأنّه يحاول ألا يُظهر اهتمامه.
“إذن سأحرص على تكرارها. سررتُ بوجبة اليوم، يا إيفون.”
ظلت كلماته الدافئة ترنّ في أذني وأنا أغادر.
“إيفون؟”
التفتُّ إليه، كان صوته يحمل قلقًا خفيفًا.
“هل هناك ما يزعجك؟”
“لا شيء، فقط القليل من الإرهاق. إنها عطلة نهاية الأسبوع، ربما جسدي يطلب الراحة.”
لم أشأ أن أقلقه أكثر، فاكتفيت بابتسامة باهتة.
‘لكن… ما الذي كان ذلك الصوت الغريب قبل قليل؟’
ربّما كان وهمًا نسجه التعب. بعد أيامٍ من التكرار المرهق، من الطبيعي أن تتهيأ الأذن لأصداءٍ لا وجود لها.
‘سأنام قليلًا حين أعود إلى غرفتي.’
كنتُ متشوّقة للغرق في نومٍ عميق.
لكن ما إن فتحتُ الباب حتّى تجمّدت مكاني.
‘دمية؟’
كانت هناك دمية دبّ صغيرة، لم أرها قطّ من قبل.
‘ليست لي.’
لم أحمل معي شيئًا كهذا إلى القصر.
‘مستحيل أن تكون هنا منذ البداية دون أن ألاحظ.’
اقتربتُ منها أتفحّصها. كانت بالية: عينها الواحدة غائرة، والقطن يطلّ من الجرح، وساقها القصيرة تتدلّى بخيطٍ واهنٍ كأنّها على وشك الانفصال.
‘تبدو كأنّها لفظت أنفاسها الأخيرة.’
ابتسمتُ بأسى. لم أكن أملك يدًا بارعة في الإصلاح، فلو حاولتُ لتركتُها في حالٍ أسوأ.
وقفتُ متأمّلة، أفكّر بما أفعل بها، ثمّ خطرت ببالي فكرة.
‘لم أسمع أن أحدًا فقد دمية مؤخرًا، إذًا ليست مفقودة.’
حتى لو كانت كذلك، فلا أحد يدخل غرفتي سواي.
ومع ذلك، كان في الأمر ما يثير الريبة. واليوم هو يوم جمع النفايات الأسبوعي.
قرّرتُ إذن أن أتخلّص منها.
جمعتُ بعض الأغراض القديمة، وحملتُ الدمية بينها.
“ما الذي ترمينه كلّه؟”
“أشياء احتفظتُ بها بلا فائدة. حان وقت وداعها.”
انضممتُ إلى الصفّ الذي ينتظر دوره لرمي النفايات.
سمعتُ أحد الواقفين أمامي يقول لصاحبه:
“قريب من هنا محرقة صغيرة. سأذهب إليها، أريد أن أرى هذا الشيء يحترق بعينيّ.”
أدركت أنّهم يقصدون المحرقة في الجهة الخلفيّة، لكنّي لم أرَ حاجةً لقطع تلك المسافة.
وحين جاء دوري، ألقيتُ الدمية فوق كومة الأغراض المهملة.
—
عدتُ إلى غرفتي، وغرقتُ في نومٍ عميقٍ دون أن أتذوّق الغداء.
كان النوم هذه المرّة أثقل وأصفى، حتى إنّني لم أستيقظ إلّا عند المغيب.
‘فات الغداء، لكن يمكنني تناول العشاء.’
فتحتُ النافذة، فهبّت نسمة باردة وأضاءت الغرفة بنورٍ رماديّ. رتّبتُ الفراش، سرّحتُ شعري، ثمّ جلستُ دون هدفٍ واضح.
التعليقات لهذا الفصل " 18"