دخلتُ القاعة بخُطًى متأنّية، أمعنُ النظر في الباب كما لو كنتُ أفتّش فيه عن سرٍّ خفيّ. غير أنّ عينيّ لم تلتقطا أدنى اختلاف، لا لونًا تبدّل ولا تفصيلًا تبدّد.
‘أيّ تغيّرٍ يمكن أن يطرأ عليه أصلًا؟’
اصطففتُ لأتناول عَشائي كما اعتدتُ، ثمّ جلستُ في مكاني المحدّد، أتناول لقيماتي ببطءٍ متأمّلٍ كأنّني أغزلُ فكرةً في داخلي.
‘حين صادقتُ إينِيس… عاد كلُّ شيءٍ إلى سكونه المعتاد.’
أتذكّر أنّني بعد تلك الصداقة كنتُ أخلدُ إلى الاستحمام، ثم أتهيّأ للنوم، لأُنهي يومي على الوتيرة نفسها، حتى يعود يوم الجمعة ويُعيد معه المشهد نفسه.
‘كلا… لا بدّ أنّ هناك تفصيلًا تغيّر.’
وحين بدت أيّام الجمعة تتشابه حتى الملل، انبعثت من ذاكرتي ومضاتٌ من الرعب؛ ذلك الكائن الذي يقلّد ملامح إينِيس، والصوت المهول الذي يهزّ الأبواب، وآثار الأيدي التي انطبعت على الزجاج ككابوسٍ يتنفّس.
وخطر لي أنّ “أثر الفراشة” قد يجعل كلَّ تلك الأحداث تتجمّع هذه الليلة دفعةً واحدة.
“إينِيس.”
“همم؟”
ناديتها وأنا أضع الملعقة، فتجمّدتْ حركتُها، وحدّقتْ بي في صمتٍ يقطّره الفضول.
“ما رأيكِ أن نعود معًا إلى السكن بعد العشاء؟
لا أعلم إن كنّا في الطابق ذاته، لكنّنا نقيم في المكان نفسه على أيّ حال.”
إن كانت المخلوقة ستظهر من جديد، فعليَّ أن أعدّ العُدّة كي لا تتمكّن من تقليدها هذه المرّة.
“إلّا إن كان لديكِ ما يشغلكِ.”
كانت تلك النقطة وحدها تُقلقني، إذ إنّ أوّل ما سمح للمصيبة أن تبدأ كان انشغالها حين افترقنا في المطعم.
وإن رفضتْ طلبي، فسأفكّر في طريقةٍ أُخرى لأحمي نفسي قبل النوم.
“في الواقع لديّ عملٌ بسيط، لكن لا بأس، يمكنني تأجيله.”
تردّدتْ قليلًا ثمّ ابتسمت موافقة، فشعرتُ بالارتياح يسري في قلبي.
“إذن فلنعد معًا.”
قلتُها بفرحٍ صادق.
‘حتى لو سُمِع صوتٌ في الباب، أو طُبعت أيادٍ على الزجاج، سأحافظ على هدوئي هذه المرّة.’
قد أُحكم غلق الباب والنوافذ فور عودتي، وإن عاد ذلك الصوت المزلزل كما في السابق، فقد أختبئ تحت الغطاء درءًا للفزع.
‘مهما يكن… عليّ أن أجرّب.’
لكنّ كلّ هذا لا يزال في حيّز التخيّل، في زمنٍ لم يبلغني بعد.
أما الآن، فكلّ ما أرجوه هو أن أبدّل المستقبل الذي أعرفه.
—
في الوقت ذاته، خارج المطعم.
“يبدو أنّ عملكم طال أكثر من المعتاد اليوم.”
قال أحد الخدم لزميله بأدبٍ خافت.
“نعم، تأخّرتُ قليلًا لأنهي ما بقي من الأمس.”
كذبةٌ صغيرة، لكنها وُصِفت بمهارةٍ كافية لتبدو منطقية.
“إذن، أتمنّى أن تنعم بعشاءٍ طيّب يا ليون.”
‘ليون.’
ذلك الاسم المستعار الذي اختاره ليخفي هُويّته الحقيقيّة في هذا القصر، والذي كان يومًا ما أعزَّ الأسماء إلى قلبه، لأنّها وحدها كانت تناديه به.
“في الواقع، لستُ متجهًا للعشاء.
لا رغبة لي في الطعام هذه الليلة، كنتُ مارًّا فحسب.”
لكنّ المسألة لم تكن مسألة شهيّة.
ففي قاعة الطعام يجلس “ذلك الشيء” متقمّصًا جسد بشرٍ بمهارةٍ تُثير القشعريرة.
الخدم الآخرون لا يعلمون، لكنّه يعلم أنّ بينهم من أصابتهم عدواه.
ولم يكن ليرغب في الجلوس بين بشرٍ أُصيبوا بما ليس من البشر.
كما أنّ هناك أمرًا أهمّ بكثير من الطعام ينتظره.
“إذن فلتقضِ عطلةً سعيدة.”
ردّ الآخر ببساطة، دون أن يدرك أنّ هذا اليوم نفسه يُعاد ويُعاد في دائرةٍ لا تنتهي.
ظاهرةٌ مصنوعةٌ بإتقان، من نسج يدٍ تعرف الزمن وتتحكّم به.
ولا يُبصر حقيقتها إلا قلّة: من وعَوا التغيّر باكرًا، ومن ابتلعتهم عدوى “الشيء”.
وكانت إيفون من أولئك القلائل الواعين.
“أتمنّى أن يحظى الجميع بعطلةٍ طيّبة.”
قالها مبتسمًا فيما داخله يلعن تكرار اليوم ذاته بلا نهاية.
إذ يعلم أنّ العطلة لن تُدرَك إلا حين تنقضي هذه الحلقة الملعونة.
فأسرع قبل أن يسدل الليلُ ستاره، عازمًا على إنهاء كلّ شيء.
في عمق القصر، تحت الأرض، يكمن قبوٌ لا وجود له في ذاكرة أحد، لكنه موجود.
‘ها أنا ذا أجدك.’
حين وطئتْ قدماه المكان المهجور، وجد أصل اللعنة ماثلًا أمامه؛
دائرةٌ سحرية تتشابك فيها الرموز القديمة كأنها نُقِشت بأيدي من العصور الغابرة.
مدّ يده ولمسها، فبدأت ملامحه تتبدّل.
شعرُه اشتعل ذهبًا، امتدّ فوق كتفيه، وعيناه تلألأتا بضوءٍ زمرديٍّ غامض، حتى عاد إلى هيئته الحقيقيّة.
ثمّ همس بصوتٍ مفعمٍ بالقوّة:
“أيّها الغافل الذي تجاوز حدودك، ارجع إلى أصلك.”
لقد تجرّأ “ذلك الشيء” على ما لا يجرؤ عليه بشر، عبث بالزمن نفسه.
لكنّه — من سلالةٍ قديمةٍ تَغذّت على أسرار الأزل — كان قادرًا على ردّه.
كان من نسلٍ عريقٍ يربطُه بالممالك الأولى، بل كان ألمع من أنجبته تلك السلالة، أرفعهم مقامًا، وأقواهم سلطانًا على خيوط الزمن.
“باسم الناموس الأزليّ، أُعيدُ كلَّ ما اختلَّ إلى نظامه الأول.”
وما فعله، فعله لأجلها فقط.
[😳🫦]
ثمّ أدار عجلة الزمن.
—
عُدتُ مع إينِيس إلى السكن، ولم يحدث شيء.
لم يظهر الوحش الذي يسرق الوجوه، ولم يُسمَع اصطدامٌ بالأبواب، ولا خُيّل إلى الزجاج أن يطبع أثرَ كفٍّ واحدة.
سكونٌ مطلق.
ونمتُ على حيرتي تلك.
‘لقد طلع الصباح.’
استيقظتُ مبكّرةً على غير العادة، ربما لأنّ عيني اعتادتا الفتح في التوقيت ذاته كلّ يوم.
نظرتُ إلى الساعة… إنه وقت الفطور المعتاد.
‘ما هذا الهدوء الغريب؟’
كان الصمت يملأ المكان كضبابٍ ثقيل.
في مثل هذا الوقت، ينبغي أن يعجّ السكن بالحركة، غير أنّه بدا خاليًا كأنّ الحياة غادرتْه.
ارتديتُ ثيابي على عجل وخرجتُ.
‘لا أحد في الممرّات…’
سرتُ حتى بلغتُ المبنى الرئيسيّ، وهناك التقيتُ بمدبّرة الخدم.
“يا للعجب يا آنسة إيفون، أفاقتْ باكرًا حتى في عطلة نهاية الأسبوع!”
قالت وهي تبتسم بدهشة، فشعرتُ كأنّ الغشاوة انسحبت عن عينيّ دفعةً واحدة.
“عطلة…؟ اليوم يوم عطلة؟”
هزّت رأسها موافقة، موضّحة أنّ اليوم يوم راحة، يُسمح فيه بالنوم أو الأكل متى شئنا.
“يبدو أنّكِ ظننتِ أنّ اليوم يوم عمل، أنصحكِ إذن بالراحة يا آنسة إيفون.”
ثمّ تركتني تمضي مبتسمة.
‘انتهى الأمر…’
أخيرًا، انتهى يوم الجمعة.
حلّ السبت.
وتنفس قلبي الصعداء.
فرحتُ فرحًا لم أعرف له مثيلًا، كأنّ السماء أشرقت بعد ليلٍ طويلٍ من التيه.
وبينما كنتُ غارقةً في نشوة الانعتاق، سمعتُ صوتًا مألوفًا يناديني:
“آنسة إيفون؟”
استدرتُ نحو الصوت، فرأيتُ ابتسامةً لطيفةً أعرفها جيّدًا.
“كنتُ واثقًا أنّها أنتِ.”
اقترب وهو يضحك بهدوء:
“هل استيقظتِ باكرًا لأنكِ ظننتِ أنّ اليوم يوم عمل؟”
“يبدو ذلك.”
قلتُ وأنا ألمس وجهي بخجلٍ عابر.
كان ليون آخر من رأيته قبل سقوطي من سطح القصر، وأوّل من أنقذني.
‘لكن هل حقًّا كان آخر لقاء؟’
فالأيام تكرّرت، وهو ظهر في أحلامي أيضًا… فهل كان حلمًا؟
“يبدو أنّنا متشابهان، يا آنسة إيفون.”
قالها بابتسامته المعهودة التي لا تتبدّل.
‘يا له من رجلٍ نبيل… لا يتغيّر أبدًا.’
كان محبوبًا من الجميع، ودودًا، سريع البديهة، يفيض باللطف.
لكنّه معي كان أكثر دفئًا قليلًا.
تذكّرتُ كيف كان يسبقني بالتحيّة، يمازحني، ويبديني عنايةً خاصّة.
بل أنقذني — وإن في حلم — حين كنتُ على شفا الهاوية.
التعليقات لهذا الفصل " 17"