حين لبّيتُ دعوةَ الآنسة جولييت وقصدتُ حجرتَها، استقبلتني عبارتها المعهودة التي رسخت في ذاكرتي كأنّي حفظتُها عن ظهر قلب:
“لقد مكثتُ في الغرفة طَوال اليوم، وأكاد أختنق من الضجر. جولييت ستخرج في نزهة قصيرة، فكوني مطيعةً واتبعيني بهدوء.”
ثم أردفت بنبرةٍ ناعمةٍ تُكرِّرها في كل مرةٍ كأنّها طقسٌ يوميّ:
“اليوم سأربط شعري ضفيرةً طويلة واحدة.”
وما إن فرغت من قولها، حتى امتدّت أناملي بخفّةٍ واعتيادٍ إلى خصلاتها الفضّيّة الطويلة، أجدلها بدقّةٍ وأنا أراقب لمعانها تحت الضوء حتى صارت كخيطٍ من حرير القمر.
تمتمت بأسًى خافتٍ وهي تنظر إلى النافذة:
“لو أنّ الطقس لم يكن بهذا العبوس!”
وكما جرت العادة في يوم الجمعة، كان الجوُّ ثقيلًا، غائمًا بلا شمسٍ، كأنّ الغيث يقف على حافة الهطول ينتظر الإذن.
تأمّلت مظلّتها المزركشة بالدّانتيل بنظرةٍ متردّدةٍ، ثم صرفت بصرها عنها، واصطفت قبّعةً بنفسها بعد لحظةِ صمت.
قالت بهدوءٍ فيه شدّة:
“الحديقة فسيحة، فتأكّدي أن تبقي قربي. إن تهتِ، فلن أبحث عنك.”
فأجبتها بانحناءةٍ خفيفة: “أمرُك يا آنسة.”
وبينما كنتُ أمشي وراءها في الرواق، لمحتُ سطلًا انقلب على الأرض فسال ماؤه متلألئًا تحت الضوء.
تسلّل إلى خاطري هاجسٌ غامض:
‘ما العمل بشأن الورود هذه المرّة؟’
كلّما اقتربنا من الحديقة كانت الأفكار تتزاحم في ذهني.
فالآنسة جولييت، ما إن تطأ قدماها العشب، حتى تأمرني أن أصنع لها إكليلًا من الزهور ثم أقطف بضع وردات.
غير أنّ الوردة، وإن كانت جميلة، تُخفي بين بتلاتها شوكًا قد يلدغني من حيث لا أحتسب.
‘أيّ شوكةٍ تمسّني ستُسفك بعدها قطرة دم، ومعها سيتحرّك القدر نحو النتيجة ذاتها.’
إذن، كان واجبي الأوّل أن أتفادى الجرح، مهما صغُر.
قالت فجأة:
“جولييت ستستريح قليلًا هناك.”
وكما توقّعت، مرّت بجانب البستانيّ دون أن تُلقي عليه تحيّة، على عكس ما كانت تفعله في السابق حين كانت تتأكد من ظلّه.
“هل تعرفين كيف تُنسجين إكليلًا من الزهور؟” سألتني بصوتٍ رخيم.
أجبتها فورًا: “نعم، يا آنسة، أعرف ذلك جيدًا.”
فابتسمت برضا، وقالت بلهجةٍ مألوفةٍ:
“حسنٌ إذًا، اصنعي لي إكليلًا يليق بجولييت.”
‘الخطوة القادمة ستكون طلبها المعتاد: الورود.’
كانت دائمًا تتذرّع بأنّ الغرفة قاتمةٌ وتحتاج إلى وردٍ يزيّن المزهريّة.
لذا فكّرت أن أستبق الأمر هذه المرّة.
“سأنجز ذلك يا آنسة،” قلتُ، ثم أضفتُ بلُطفٍ متأنٍ:
“لكن، ما رأيكِ أن نقطف بعض الأزهار لتزيين الغرفة أيضًا؟ تبدو المزهريّة فارغة، وستُبهجها الألوان.”
قد يكون اقتراحًا جريئًا، لكنه أهون من وخز شوكةٍ قد تُثير دمًا.
التعليقات لهذا الفصل " 16"