وما إن خرجت الكلمات من فمي، حتى لاحظتُه يشيح ببصره… كمن ضُبط متلبّسًا.
“صحيح أنّه الموعد الأوّل بعد استعادة ذكرياتي… بلا اضطرارٍ للاختباء… لكن، لا تفعل ذلك. أريد سماع آراء الآخرين عن اللوحات أيضًا.”
في المعرض، يمكنني رؤية الناس يغوصون في لوحاتهم، يتهامسون بالإعجاب، أو يناقشون ما رأوه عند خروجهم.
وأنا… أحبّ سماع تلك الشذرات، ولو عابرًا.
“سأحاول.”
بمعنى آخر… سيُذعن لرغبتي.
ابتسمتُ، ثمّ تناولتُ قطعة ماكرون ومددتُها ناحيته.
“بعد أن تأكل هذه… ما رأيك أن نتمشّى قليلًا، يا ليون؟”
كان يهمّ بأخذها، لكنّه جمد للحظة، واتّسعت عيناه دهشةً.
‘حان وقت النداء الذي لا يناديه أحدٌ سواي.’
خرجنا من قصر روزيفينا، ومرّ وقتٌ طويل في قصر الدوق… والآن، رغبتُ في مناداته كما لم يفعل أحد غيري قط.
ولعلّه أدرك مغزى ندائي… إذ ما إن ابتلع الماكرون، حتى ابتسم ابتسامة خفيفة.
“كما تُريدين… يا آنسة إيفون.”
فانفجرتُ ضاحكة.
ناداني “آنسة إيفون”، فوجدتُ نفسي أعود لحياتي الماضية… إلى تلك الفترة البريئة التي لم أعرف فيها شيئًا عن قواعد العمل ولا عن الألقاب… تلك الفترة التي لم يكن فيها لقلبه حاجزٌ تجاهي.
شعرتُ بانقباضٍ خفيف… لكنّه كان شعورًا لطيفًا.
“كاد أن يفوتني أمر… لديّ شيءٌ أودّ إطلاعكِ عليه.”
شيءٌ آخر؟ غير شراء المقهى؟
أرهفتُ السمع.
“نُشرت الأخبار.”
وبلمسةٍ من أصابعه في الهواء… ظهرت صحيفةٌ أمامي.
“آه، ولم أفعل شيئًا هذه المرّة. كنتُ ما أزال بانتظار ردّكِ.”
يبدو أنّه مازال يظنّ أنّني سأستغلّ الصحف التي يملكها.
“منذ ليلة الحفل… اسمكِ واسم بيت الماركيز هما الأكثر تداولًا.”
ناولني الصحيفة، ففتحتُها وقرأت:
《هل سيتغيّر صاحب بيت الماركيز مجدّدًا؟》
《الناجية من النيران… من تكون؟》
《شاهد عيانٍ يروي ما رأى في تلك الليلة!》
كلّها عناوين صاخبة.
“مهما كان الطريق الذي سلكوه… اهتمام الناس بكِ الآن لا شكّ فيه.”
أخبرني أيضًا أنّ توزيع الصحف تضاعف منذ الحفل.
‘الناس يعشقون الفضائح… حدَّ الانكشاف.’
قد تكون البشرية تغيّرت على مرّ العصور… لكن شغفها بالثرثرة لم يتغيّر قط.
“لا حاجة لمتابعة بقيّة الصحيفة. يمكنك أخذها معك.”
قدّمتُها له.
“لكن… قبل الوصول إلى المعرض، يجب أن نمشي قليلًا. لقد اتّفقنا على ذلك.”
جمعتُ رسالة روزالين بعناية، ونهضت. فسارع كيليان إلى استرجاع الصحيفة، ثم وقف معي.
‘الجوّ رائع.’
ما إن خرجنا من المقهى، حتّى استقبلنا الشارع الواسع.
عابرون، عربات، سماءٌ زرقاء ممتدّة بلا غيمة.
كان النهار صافياً لدرجة تُبهج الروح.
“علينا المشي عشر دقائق حتى نصل… هل يناسبك ذلك؟”
اقترب منّي بينما كنتُ أتأمّل السماء.
“لا تقلق. ساقاي قويتان… واليوم يومٌ مثاليّ للمشي بلا وجهة.”
صحيح أنّ الوسائل السريعة مريحة… لكن، ثمة أمورٌ أرغب في فعلها بجهدي وحدي.
ولو كانت بسيطة.
“ثمّ يا ليون… مهما يحدث… لا تعتمد على السحر كثيرًا.”
السحر موهبته… لكن الإفراط فيه يُفقد الحياة نكهتها.
“سآخذ هذا بعين الاعتبار.”
أجاب بعزم، ثمّ مدّ يده فجأة.
“ما رأيكِ أن نمشي ونحن متشابكا الأيدي؟”
هذه المرّة بلا قفّازات… يده الدافئة مكشوفة.
“ولِمَ لا؟”
أمسكتها بلا تفكير.
وبينما نسير، بدأتُ أُحدّثه عمّا يخطر ببالي:
“لنمشِ هكذا دومًا. في الربيع بين الأزهار… في الصيف بين الظلال… في الخريف مع أوراقه… وفي الشتاء تحت الثلج.”
لا مكان في العالم لا أرغب في الذهاب إليه معه.
“فبعكس الماضي… أصبحت لدينا حياةٌ طويلة أمامنا.”
سأقتصّ لوالدَيّ… لديّ صديقة أثق بها… وشخصٌ أُكمل معه عمري.
وهذا… يكفيني تمامًا.
“حديثٌ جميل… يُبهج القلب.”
وافقني.
“وقبل أن نبدأ فصلًا جديدًا في حياتنا… علينا إنهاء العمل الكبير أوّلًا. أمّا الآن… فلنستمتع بموعدنا.”
واصلنا السير بخفّةٍ وفرح.
—
كان المعرض مزدحمًا جدًا. ليس لأنّ معرضنا الوحيد… بل لأنّ عدّة فعاليات كانت تُقام في الوقت نفسه.
لكن معرضنا بالتحديد كان الأكثر شعبيّة، رغم أنّه لم يمضِ سوى يومين على افتتاحه.
“لوحاتٌ مناسبة للموضوع… وتستحقّ التقدير.”
قال كيليان ذلك ونحن نخطو خارجه.
“اتّضح أنّه رأيي أيضًا… وهذا يفسّر كثافة الزوّار.”
التفت إلى الداخل حيث الناس يتدفّقون بلا توقف.
‘كانت لحظات جميلة.’
نظرتُ إلى بطاقة الدخول وابتسمت.
كما أنّ للقراءة أثرًا في الروح… فإنّ للّوحات أثرًا آخر لا يقلّ عمقًا.
مهما كانت الحياة مشغولة… ينبغي أن نحافظ على فسحةٍ صغيرة منها للثقافة.
“المرّة الماضية كانت أوبرا، واليوم معرض… فإلى أين ترغبين في الذهاب لاحقًا؟”
كان يسأل وكأنّه يجهّز موعدًا جديدًا.
“ربّما مسرحية… أو أن نقضي وقتًا في أحد الأكواخ.”
تذكّرتُ أنّ لديه عدّة بيوتٍ ريفيّة خاصّة.
“سأرتّب الوقت بحيث نستمتع بكليهما.”
لم يختر واحدًا… بل قرّر أن يمنحني الاثنين.
‘هذا يبعث على الحماس…’
لم أكن أنتظر الغد يومًا… واليوم أنا أفعل.
فرحٌ صغير… توقّعٌ جميل… حياةٌ تتّسع.
وفي تلك اللحظة، وقعت عيناي على مجموعة أطفال ينفخون الفقاعات.
“هل ترغبين بتجربتها؟”
كان كيليان يراقبني… وقد لاحظ بوضوح مدى تركيزي على الأطفال.
“لدينا وقت. فلنجرب.”
اختفى لحظةً، ثم عاد حاملًا أدوات الفقاعات… بسرعة أدهشتني.
أمسكتُ الأداة، ونفخت.
فانطلقت فقاعاتٌ صغيرة، تتقافز في الهواء.
“أشعر كأنّي أستعيد طفولتي… أعيش ما لم أعشه.”
كبرتُ بسرعة… ثمّ أصبحت ‘إيفون’ قبل أن أعرف ما الطفولة أصلاً.
لكن الآن… كان الأمر مريحًا.
مجرد فقاعات… لكنها صفّت روحي، وأنعشت عقلي.
‘انتهيتُ من كلّ الاستعدادات.’
وما إن أخذ ذهني يصفو، حتى عاد يتذكّر:
الاستعداد للانتقام… قد اكتمل.
الزوجان من آل روزيفينا… وجولييت.
لقد حان وقت الوداع.
نفختُ آخر فقاعة… ثمّ التفتُّ إليه وقد امتلأتُ عزيمة.
التعليقات لهذا الفصل " 102"