1
التمهيد
ليست كل البدايات دافئة ، العبرة دوما في الخواتم
ملاحظة: إسم البطلة هو آريا و ليس أشلي
20XX/12/16
“أحب ديسمبر، لكن أكره البرد.”
كانت الحياة تنبض بين شوارع ترانسلفينيا. كل قلب من المارة يحمل خلفه قصة: من يحمل قالب كعك لأطفاله، أو من هو في طريقه لمقابلة عزيز عليه، أو من يريد فقط العودة إلى المنزل والحصول على استراحة. حتى في الساعة الحادية عشرة ليلاً، ما زالت الحياة تنبض في شوارع البلدة.
كأي أحد من المارة، كانت تمشي في الشوارع أيضًا. لكن الفرق بينها وبينهم أنها لم تكن ترتدي تلك السترة الثقيلة لتحميها من البرد، ولا حذاءً مناسبًا للمشي فوق الثلوج المتكدسة. كانت ترتدي بيجاما زهرية مع خفٍ يبرز جواربها ذات الألوان المختلفة.
لم يكن لديها مكان تذهب إليه. ليست مذلولة بما يكفي لتعود إلى المنزل، ولا شجاعة بما يكفي لتذهب إلى مركز الشرطة، وليست فقيرة بما يكفي حتى تذهب إلى ملجأ للفقراء. ومثل أي بلد أوروبي، لا أحد ينظر إليها؛ كل واحد مشغول بحياته.
استوقفتها نسمة هواء باردة أمام الحديقة العامة، سرقت منها ابتسامة خفيفة أثناء تنهدها لحظّها، ودخلت مصوّبة نفسها إلى مقعدها المفضل في الحديقة الذي يمنحها زاوية مراقبة لكل من في الحديقة.
فركت يديها بقوة لعلها تحظى ببعض الحرارة. حتى هاتفها تركته في المنزل لحظة هروبها. أراحت ظهرها على الكرسي وبدأت تغرق في بحر أفكارها: ماذا سوف تفعل الآن؟ اقشعر بدنها لوهلة بسبب نسمات الهواء الباردة، وعادت إلى وعيها بمحيطها. التفتت برأسها عند سماعها صوت فتى صغير بهي المنظر قال لها، وهو يتفحصها من الأسفل إلى الأعلى:
“ألا تشعرين بالبرد؟ هل أنتِ بخير؟”
نظرت نحوه وهي تعض شفتها؛ عادة ناتجة عن توترها المعتاد. لأول مرة ترى صبيًا صغيرًا يمتلك عيونًا خضراء زاهية مثل هذه. من الغريب أن يتكلم معها شخص مثل هذا، إلا لو كان هناك سبب.
زالت ابتسامتها وردّت بعفوية، وهي تربت على رأس الطفل:
“نعم، أنا بخير. لا عليك، نسيت سترتي فقط. عليك أن تعود إلى أمك، سوف تقلق عليك.”
نظر الصبي الصغير نحوها ببسمة بريئة، وهو يتحقق منها للمرة الأخيرة:
“… ستحتاجين بعض الوقت للتعافي، آريا. لكن بصفتي عرّابك، فسوف أتأكد من أنك ستعيشين.”
لم تستوعب ما قاله الصبي الصغير. تراجعت قليلًا عن المقعد، ولم تبدُ معالم وجهها مبشّرة بالخير. أنزلت رأسها لوهلة وابتلعت ريقها، وفي اللحظة التي أرادت سؤاله فيها، اختفى أمامها مثل وهم.
نظرت حولها بريبة عندما بات صوت لهاثها ملحوظًا، وأنفاسها ضاقت في صدرها. لم يكن أحد يركّز، أو على الأقل لم يعطِ أحد ردة فعل. افترضت خيارين: إما أنها جُنّت أخيرًا، وربما تذهب إلى مستشفى المجانين، أو أنها تهذي بعد تناولها دواءً خاطئًا من أدوية أمها.
رفرفت حولها فراشة زرقاء ظهرت من مكان ما، من العدم. حاولت إبعادها بيدها وضربها في الهواء، لكن لا شيء يجدي، مثل الذباب؛ كلما قاومتها، زاد التصاقها بها. وقفت من مقعدها وما زالت الفراشة ترفرف حولها. بخطأ ناتج عن لفة غير صحيحة، التوى كعب قدمها وسقطت على الثلج المكدس، واستقرت الفراشة فوق أنفها بكل هدوء وانسيابية.
وقفت آريا وبدأت تمشي بخطوات سريعة، والفراشة لا تزال ترفرف خلفها. قررت تجاهلها، لكن الفراشة استقرت على رقبتها. أحسّت بوخزة خفية تحولت إلى ألم لاذع؛ الفراشة امتصّت من دم رقبتها!
توقفت آريا في مكانها على رصيف الحديقة. اتسع بؤبؤا عينيها من رهبة ما حدث، وانتزعتها فورًا، لكن الفراشة بقيت حولها. تحوّلت خطواتها الخفيفة إلى ركض، ثم إلى جري وهي تصيح بأعلى صوتها:
“ابتعدي عني!”
بالنسبة لأعين المارة، كانت آريا فتاة غريبة الأطوار، تجري دون سبب واضح، بملابس لا تناسب الطقس. ولم يمتلك أحد الشجاعة للاقتراب منها أو مساعدتها، أو ربما، أغلبهم كان فقط مشغولًا بحياته، ولم ينتبه حتى لما حدث.
استمرت آريا بالركض، وانتبهت أن الفراشة توقفت عن مطاردتها. لكنها أدركت أنها لم تعد في البلدة. بعد أن عبرت زقاقًا ما لم تره من قبل، وجدت نفسها في مكان آخر تمامًا؛ طريق يؤدي إلى مكان محرم عليهم.
غابة لوزورد.
غابة لطالما سمعت عنها الشائعات؛ عن كيف أن من يدخلها يخرج مجنونًا، أو يعاني من مشاكل نفسية حادة تؤدي بهم دومًا إلى المصحّات.
كانت تنوي الخروج من مدخل الغابة. ربما كانت هاربة من منزل، لكن دخول غابة تحمل شائعات تصل إلى حد الموت لم يكن حركة ذكية.
في خطوها فوق الثلج السميك، رأت تلك الفراشة ترفرف هناك. كانت تنوي تجاهلها والابتعاد عنها تمامًا، حتى تدرك الفراشة أن دخول الغابة خطير، فبقيت هناك، خارجها.
لفتت أنظارها للبعيد، وللحظة، لاحظت شخصًا قادمًا من خارج الغابة. والأسوأ أنه يحمل بندقية. رجل ذو بنية عضلية، ووشم بارز في رقبته، وصلعة واضحة تحت قبعته الصوفية. لم تحتج جهدًا لتفكر: هذا رجل راية العلم الأحمر. لا أحد يأتي إلى الغابة محملًا بسلاح بنية نشر السلام.
التفتت فورًا وبدأت تحرك ساقيها بأسرع ما لديها داخل الغابة، وهي تهرول بجنون. أنفاسها تُخطف منها كل ثانية، وتنظر خلفها كل مرة، عسى أن يكون ما حدث وهمًا. لكن الرجل أصبح يركض خلفها. نزعت خفّها لتتخلص من عائق في طريقها.
انعطفت سريعًا، وزادت وتيرة ركضها، واختبأت خلف إحدى الصخور العملاقة في تلك المنطقة الصخرية في قلب الغابة، بعد أن أخفت آثار أقدامها بسرعة.
توقف الرجل عن الركض عندما وصل إلى تلك النقطة ولم يجد لها أثرًا، فصرخ بأعلى صوته:
“يا فتاة! أخرجي الآن! هذه غابة خطيرة عليك!”
بقيت ملتزمة الصمت، تغطي فمها بيدها وهي ترتجف. كانت مدركة أن لديه أفضلية في قتلها دون أن يدرك أحد، فهي ستُسجَّل كهاربة عما قريب، لا كمخطوفة أو ضائعة. وإذا قتلها الآن في هذه الغابة التي لا أحد يصل إلى عمقها، فلن يكتشف أحد ذلك إلا بعد أشهر أو أكثر.
تنهد الرجل بقلة حيلة، ثم رفع صوته، وكان صوته عاليًا بما يكفي ليرنّ في أرجاء الغابة:
“غادري الغابة، لو سمحتِ! هذه الغابة ليست مكانك!”
عزمت على التزام الصمت على الأقل حتى يغادر المنطقة وتخرج بعدها فورًا، لكنها وقعت على ركبتيها، وغطّت أذنيها فورًا لرنين قوي في رأسها، نتيجة سماعها صوت إطلاق نار في السماء. وكأنها إشارة لشيء ما، قال بهدوء:
“لم تتركي لي خيارًا آخر، يا فتاة…”
حاولت الوقوف مجددًا، لكن ركبتيها خانتاها. كانت أطرافها ترتجف بقوة. ولم تمضِ لحظات حتى سمعت زمجرة من جانب آخر.
ثلاثة ذئاب رمادية.
كانت تحدّق بها بعدائية، كما لو أنها دخيلة في أرضهم. أحدهم لديه ندبة أسفل عينه، والآخر قصير الذيل، بينما الثالث سليم ومعافى، لكنه أصغر حجمًا منهم بقليل.
بدأت تحسب في ذهنها: لو ركضت، فسوف يرونها فريسة. ولو لم تركض، فستُفترس فورًا لأنها تبدو ضعيفة. ربما لو ظهرت الآن للصياد، سيركز على قتل الذئاب بدلًا من قتلها، ويمكنها حينها استغلال الفرصة والهرب من الغابة.
تحركت بضع خطوات لتزيل الستار الذي تخبأت خلفه، لكنها صُدمت: الصياد اختفى.
أدركت أنها كانت خطته: لو لم يستفد منها، فلا داعي لإبقائها حيّة. هو مثل أي رجل بعد كل شيء…
“ذاك اللعين…”
نظرت نحو الذئاب التي لم تزل بصرها عنها. كانت نظراتهم كفيلة بجعلها تدرك أنها ربما لن تعيش لترى شمس اليوم التالي.
الخطة الوحيدة أمامها: تحفيز هرمون الأدرينالين في دمها والركض. لا كما تفعل عادة، بل الركض كمن يعيش آخر لحظاته.
نزعت جواربها بسرعة لتحفز إحساس البرودة، ورفعت إصبعها الأوسط، وعيناها -رغم ارتجاف بؤبؤيهما- لم تكن خائفة من الموت، بل من الألم أثناء الاحتضار. عضّت شفتها، وانخفض حاجباها بعداء واضح. الشخصية الحقيقية للبشر تبرز دومًا قبل موتهم. عيناها تلونتا بلون فاتح أبرز عسلية عينيها.
فكّت أزرار الهرب، وبدأت تجري. الذئاب الثلاثة يفعلون مثلها بمطاردتها. ما كان غريبًا هو سرعتها. سرعة لا تمتّ للبشر بصلة. كانت تنعطف بين الأشجار، وتقفز فوق أي شيء أمامها، كما لو أنها عداءة بالفطرة.
فقدت الذئاب أثرها، بينما كانت هي هناك، أعلى شجرة، تراقب بصمت بعد أن تسلقتها بسرعة.
رفع الذئب السليم رأسه نحوها، وسكن الرعب أحشاءها. احتضنت جذع الشجرة وترقّبت، وهي تدعو بصمت ألا يصدر عن الذئب أي صوت يدل على مكانها. مرت ثوانٍ تحولت إلى دقائق، والدقائق كانت كعمر بأكمله بالنسبة لها.
أخفض الذئب رأسه وسارت الذئاب بعيدًا عن المنطقة.
لا تفهم كيف آلت الأمور إلى هذا الحد. كيف انتهى بها المطاف في كل هذه الأحداث؟ والآن، معلّقة على شجرة؟ ربما الآن فقط تفهم حالة الذين دخلوا هذه الغابة من قبل.
انهار جسدها من أعلى الشجرة وسقطت على طبقة ثلج سميكة. كانت متعبة، جائعة، منهكة، وقدماها مصابتان بالجليد.
لا بد أن الذئاب أدركت أنها قريبة، لكن لم تكلف نفسها عناء البحث. هي واثقة أن رائحتها قوية بما يكفي للدلالة على مكانها.
لفت رأسها عندما لمحت من بعيد ذئبًا أسود ضخم الحجم يقترب منها بخطوات بطيئة. لم يكن يبدو عليه العداء. رفعت جسدها عن الثلج بسرعة بنيّة تسلق الشجرة مجددًا، لكن حين تصادمت عيناها بعينيه المحمرتين المجمّرتين، شعرت بلحظة خاطفة…
وميض أصفر ذهبي.
{ رابطة الرفيق }؛ رابطة تربط الأحباء المقدر لهم أن يكونوا معًا، وتمنحهم ديارًا يعودون إليها مهما حدث.
اجتاحت آريا مشاعر متضاربة: إحساس بالانتماء، رهبة، رضا، سرور… كلها في آن واحد. لكن عقلها المنطقي عاد للسيطرة. وضعت يدها على جذع الشجرة لتتسلق.
فجأة، قفز الذئب عليها. لكنها، ولسببٍ ما، لم تشعر بالخوف. قلبها لم ينبض برعب كما يفعل عادة، حتى مع ظلّها أحيانًا.
وفي لحظة تحوّل خاطفة، لم يعد الذئب ذئبًا.
أصبح بشريًا.
خاتمه أطلق ضوءًا ساطعًا، وعندما أغلقت عينيها من شدة الوهج، كان قد قيّد ذراعيها فوق كتلة الثلج. ينظر نحوها بشوق، وبسمة تكاد تطير من وجهه.
بصوتٍ خطف أنفاسها، وهي تلهث من شدة الصدمة وتحاول الإفلات منه، مسح بعض خصلات شعرها عن وجهها، وقال وهو يراقبها:
“لونا خاصتي…..”
(يتبع)
الخاتمة
أنا ممتنة و شاكرة لمن قرأ الفصل الأول من رواية ، مضى وقت طويل منذ أن كتبت رواية و نشرتها على منصة ، إرث الخوراق ماهي إلا بداية بسيطة لسلسلة أعمل عليها منذ فترة طويلة و أنا فعلا اتحرق شوقا لمشاركتها مع أكبر عدد من الناس لا يغرك
جمال البدايات فالعبرة دوما في
التمهيد
ليست كل البدايات دافئة ، العبرة دوما في الخواتم
20XX/12/16
“أحب ديسمبر، لكن أكره البرد.”
كانت الحياة تنبض بين شوارع ترانسلفينيا. كل قلب من المارة يحمل خلفه قصة: من يحمل قالب كعك لأطفاله، أو من هو في طريقه لمقابلة عزيز عليه، أو من يريد فقط العودة إلى المنزل والحصول على استراحة. حتى في الساعة الحادية عشرة ليلاً، ما زالت الحياة تنبض في شوارع البلدة.
كأي أحد من المارة، كانت تمشي في الشوارع أيضًا. لكن الفرق بينها وبينهم أنها لم تكن ترتدي تلك السترة الثقيلة لتحميها من البرد، ولا حذاءً مناسبًا للمشي فوق الثلوج المتكدسة. كانت ترتدي بيجاما زهرية مع خفٍ يبرز جواربها ذات الألوان المختلفة.
لم يكن لديها مكان تذهب إليه. ليست مذلولة بما يكفي لتعود إلى المنزل، ولا شجاعة بما يكفي لتذهب إلى مركز الشرطة، وليست فقيرة بما يكفي حتى تذهب إلى ملجأ للفقراء. ومثل أي بلد أوروبي، لا أحد ينظر إليها؛ كل واحد مشغول بحياته.
استوقفتها نسمة هواء باردة أمام الحديقة العامة، سرقت منها ابتسامة خفيفة أثناء تنهدها لحظّها، ودخلت مصوّبة نفسها إلى مقعدها المفضل في الحديقة الذي يمنحها زاوية مراقبة لكل من في الحديقة.
فركت يديها بقوة لعلها تحظى ببعض الحرارة. حتى هاتفها تركته في المنزل لحظة هروبها. أراحت ظهرها على الكرسي وبدأت تغرق في بحر أفكارها: ماذا سوف تفعل الآن؟ اقشعر بدنها لوهلة بسبب نسمات الهواء الباردة، وعادت إلى وعيها بمحيطها. التفتت برأسها عند سماعها صوت فتى صغير بهي المنظر قال لها، وهو يتفحصها من الأسفل إلى الأعلى:
“ألا تشعرين بالبرد؟ هل أنتِ بخير؟”
نظرت نحوه وهي تعض شفتها؛ عادة ناتجة عن توترها المعتاد. لأول مرة ترى صبيًا صغيرًا يمتلك عيونًا خضراء زاهية مثل هذه. من الغريب أن يتكلم معها شخص مثل هذا، إلا لو كان هناك سبب.
زالت ابتسامتها وردّت بعفوية، وهي تربت على رأس الطفل:
“نعم، أنا بخير. لا عليك، نسيت سترتي فقط. عليك أن تعود إلى أمك، سوف تقلق عليك.”
نظر الصبي الصغير نحوها ببسمة بريئة، وهو يتحقق منها للمرة الأخيرة:
“… ستحتاجين بعض الوقت للتعافي، آريا. لكن بصفتي عرّابك، فسوف أتأكد من أنك ستعيشين.”
لم تستوعب ما قاله الصبي الصغير. تراجعت قليلًا عن المقعد، ولم تبدُ معالم وجهها مبشّرة بالخير. أنزلت رأسها لوهلة وابتلعت ريقها، وفي اللحظة التي أرادت سؤاله فيها، اختفى أمامها مثل وهم.
نظرت حولها بريبة عندما بات صوت لهاثها ملحوظًا، وأنفاسها ضاقت في صدرها. لم يكن أحد يركّز، أو على الأقل لم يعطِ أحد ردة فعل. افترضت خيارين: إما أنها جُنّت أخيرًا، وربما تذهب إلى مستشفى المجانين، أو أنها تهذي بعد تناولها دواءً خاطئًا من أدوية أمها.
رفرفت حولها فراشة زرقاء ظهرت من مكان ما، من العدم. حاولت إبعادها بيدها وضربها في الهواء، لكن لا شيء يجدي، مثل الذباب؛ كلما قاومتها، زاد التصاقها بها. وقفت من مقعدها وما زالت الفراشة ترفرف حولها. بخطأ ناتج عن لفة غير صحيحة، التوى كعب قدمها وسقطت على الثلج المكدس، واستقرت الفراشة فوق أنفها بكل هدوء وانسيابية.
وقفت آريا وبدأت تمشي بخطوات سريعة، والفراشة لا تزال ترفرف خلفها. قررت تجاهلها، لكن الفراشة استقرت على رقبتها. أحسّت بوخزة خفية تحولت إلى ألم لاذع؛ الفراشة امتصّت من دم رقبتها!
توقفت آريا في مكانها على رصيف الحديقة. اتسع بؤبؤا عينيها من رهبة ما حدث، وانتزعتها فورًا، لكن الفراشة بقيت حولها. تحوّلت خطواتها الخفيفة إلى ركض، ثم إلى جري وهي تصيح بأعلى صوتها:
“ابتعدي عني!”
بالنسبة لأعين المارة، كانت آريا فتاة غريبة الأطوار، تجري دون سبب واضح، بملابس لا تناسب الطقس. ولم يمتلك أحد الشجاعة للاقتراب منها أو مساعدتها، أو ربما، أغلبهم كان فقط مشغولًا بحياته، ولم ينتبه حتى لما حدث.
استمرت آريا بالركض، وانتبهت أن الفراشة توقفت عن مطاردتها. لكنها أدركت أنها لم تعد في البلدة. بعد أن عبرت زقاقًا ما لم تره من قبل، وجدت نفسها في مكان آخر تمامًا؛ طريق يؤدي إلى مكان محرم عليهم.
غابة لوزورد.
غابة لطالما سمعت عنها الشائعات؛ عن كيف أن من يدخلها يخرج مجنونًا، أو يعاني من مشاكل نفسية حادة تؤدي بهم دومًا إلى المصحّات.
كانت تنوي الخروج من مدخل الغابة. ربما كانت هاربة من منزل، لكن دخول غابة تحمل شائعات تصل إلى حد الموت لم يكن حركة ذكية.
في خطوها فوق الثلج السميك، رأت تلك الفراشة ترفرف هناك. كانت تنوي تجاهلها والابتعاد عنها تمامًا، حتى تدرك الفراشة أن دخول الغابة خطير، فبقيت هناك، خارجها.
لفتت أنظارها للبعيد، وللحظة، لاحظت شخصًا قادمًا من خارج الغابة. والأسوأ أنه يحمل بندقية. رجل ذو بنية عضلية، ووشم بارز في رقبته، وصلعة واضحة تحت قبعته الصوفية. لم تحتج جهدًا لتفكر: هذا رجل راية العلم الأحمر. لا أحد يأتي إلى الغابة محملًا بسلاح بنية نشر السلام.
التفتت فورًا وبدأت تحرك ساقيها بأسرع ما لديها داخل الغابة، وهي تهرول بجنون. أنفاسها تُخطف منها كل ثانية، وتنظر خلفها كل مرة، عسى أن يكون ما حدث وهمًا. لكن الرجل أصبح يركض خلفها. نزعت خفّها لتتخلص من عائق في طريقها.
انعطفت سريعًا، وزادت وتيرة ركضها، واختبأت خلف إحدى الصخور العملاقة في تلك المنطقة الصخرية في قلب الغابة، بعد أن أخفت آثار أقدامها بسرعة.
توقف الرجل عن الركض عندما وصل إلى تلك النقطة ولم يجد لها أثرًا، فصرخ بأعلى صوته:
“يا فتاة! أخرجي الآن! هذه غابة خطيرة عليك!”
بقيت ملتزمة الصمت، تغطي فمها بيدها وهي ترتجف. كانت مدركة أن لديه أفضلية في قتلها دون أن يدرك أحد، فهي ستُسجَّل كهاربة عما قريب، لا كمخطوفة أو ضائعة. وإذا قتلها الآن في هذه الغابة التي لا أحد يصل إلى عمقها، فلن يكتشف أحد ذلك إلا بعد أشهر أو أكثر.
تنهد الرجل بقلة حيلة، ثم رفع صوته، وكان صوته عاليًا بما يكفي ليرنّ في أرجاء الغابة:
“غادري الغابة، لو سمحتِ! هذه الغابة ليست مكانك!”
عزمت على التزام الصمت على الأقل حتى يغادر المنطقة وتخرج بعدها فورًا، لكنها وقعت على ركبتيها، وغطّت أذنيها فورًا لرنين قوي في رأسها، نتيجة سماعها صوت إطلاق نار في السماء. وكأنها إشارة لشيء ما، قال بهدوء:
“لم تتركي لي خيارًا آخر، يا فتاة…”
حاولت الوقوف مجددًا، لكن ركبتيها خانتاها. كانت أطرافها ترتجف بقوة. ولم تمضِ لحظات حتى سمعت زمجرة من جانب آخر.
ثلاثة ذئاب رمادية.
كانت تحدّق بها بعدائية، كما لو أنها دخيلة في أرضهم. أحدهم لديه ندبة أسفل عينه، والآخر قصير الذيل، بينما الثالث سليم ومعافى، لكنه أصغر حجمًا منهم بقليل.
بدأت تحسب في ذهنها: لو ركضت، فسوف يرونها فريسة. ولو لم تركض، فستُفترس فورًا لأنها تبدو ضعيفة. ربما لو ظهرت الآن للصياد، سيركز على قتل الذئاب بدلًا من قتلها، ويمكنها حينها استغلال الفرصة والهرب من الغابة.
تحركت بضع خطوات لتزيل الستار الذي تخبأت خلفه، لكنها صُدمت: الصياد اختفى.
أدركت أنها كانت خطته: لو لم يستفد منها، فلا داعي لإبقائها حيّة. هو مثل أي رجل بعد كل شيء…
“ذاك اللعين…”
نظرت نحو الذئاب التي لم تزل بصرها عنها. كانت نظراتهم كفيلة بجعلها تدرك أنها ربما لن تعيش لترى شمس اليوم التالي.
الخطة الوحيدة أمامها: تحفيز هرمون الأدرينالين في دمها والركض. لا كما تفعل عادة، بل الركض كمن يعيش آخر لحظاته.
نزعت جواربها بسرعة لتحفز إحساس البرودة، ورفعت إصبعها الأوسط، وعيناها -رغم ارتجاف بؤبؤيهما- لم تكن خائفة من الموت، بل من الألم أثناء الاحتضار. عضّت شفتها، وانخفض حاجباها بعداء واضح. الشخصية الحقيقية للبشر تبرز دومًا قبل موتهم. عيناها تلونتا بلون فاتح أبرز عسلية عينيها.
فكّت أزرار الهرب، وبدأت تجري. الذئاب الثلاثة يفعلون مثلها بمطاردتها. ما كان غريبًا هو سرعتها. سرعة لا تمتّ للبشر بصلة. كانت تنعطف بين الأشجار، وتقفز فوق أي شيء أمامها، كما لو أنها عداءة بالفطرة.
فقدت الذئاب أثرها، بينما كانت هي هناك، أعلى شجرة، تراقب بصمت بعد أن تسلقتها بسرعة.
رفع الذئب السليم رأسه نحوها، وسكن الرعب أحشاءها. احتضنت جذع الشجرة وترقّبت، وهي تدعو بصمت ألا يصدر عن الذئب أي صوت يدل على مكانها. مرت ثوانٍ تحولت إلى دقائق، والدقائق كانت كعمر بأكمله بالنسبة لها.
أخفض الذئب رأسه وسارت الذئاب بعيدًا عن المنطقة.
لا تفهم كيف آلت الأمور إلى هذا الحد. كيف انتهى بها المطاف في كل هذه الأحداث؟ والآن، معلّقة على شجرة؟ ربما الآن فقط تفهم حالة الذين دخلوا هذه الغابة من قبل.
انهار جسدها من أعلى الشجرة وسقطت على طبقة ثلج سميكة. كانت متعبة، جائعة، منهكة، وقدماها مصابتان بالجليد.
لا بد أن الذئاب أدركت أنها قريبة، لكن لم تكلف نفسها عناء البحث. هي واثقة أن رائحتها قوية بما يكفي للدلالة على مكانها.
لفت رأسها عندما لمحت من بعيد ذئبًا أسود ضخم الحجم يقترب منها بخطوات بطيئة. لم يكن يبدو عليه العداء. رفعت جسدها عن الثلج بسرعة بنيّة تسلق الشجرة مجددًا، لكن حين تصادمت عيناها بعينيه المحمرتين المجمّرتين، شعرت بلحظة خاطفة…
وميض أصفر ذهبي.
{ رابطة الرفيق }؛ رابطة تربط الأحباء المقدر لهم أن يكونوا معًا، وتمنحهم ديارًا يعودون إليها مهما حدث.
اجتاحت آريا مشاعر متضاربة: إحساس بالانتماء، رهبة، رضا، سرور… كلها في آن واحد. لكن عقلها المنطقي عاد للسيطرة. وضعت يدها على جذع الشجرة لتتسلق.
فجأة، قفز الذئب عليها. لكنها، ولسببٍ ما، لم تشعر بالخوف. قلبها لم ينبض برعب كما يفعل عادة، حتى مع ظلّها أحيانًا.
وفي لحظة تحوّل خاطفة، لم يعد الذئب ذئبًا.
أصبح بشريًا.
خاتمه أطلق ضوءًا ساطعًا، وعندما أغلقت عينيها من شدة الوهج، كان قد قيّد ذراعيها فوق كتلة الثلج. ينظر نحوها بشوق، وبسمة تكاد تطير من وجهه.
بصوتٍ خطف أنفاسها، وهي تلهث من شدة الصدمة وتحاول الإفلات منه، مسح بعض خصلات شعرها عن وجهها، وقال وهو يراقبها:
“لونا خاصتي…..”
(يتبع)
الخاتمة
أنا ممتنة و شاكرة لمن قرأ الفصل الأول من رواية ، مضى وقت طويل منذ أن كتبت رواية و نشرتها على منصة ، إرث الخوراق ماهي إلا بداية بسيطة لسلسلة أعمل عليها منذ فترة طويلة و أنا فعلا اتحرق شوقا لمشاركتها مع أكبر عدد من الناس لا يغرك جمال البدايات فالعبرة دوما في خاتمة
التصويت و تعليق يحفزني دوما في إسراع و نشر فصل لذلك لا تبخل في جعلي سعيدة لو سمحت
Chapters
Comments
- 2 - عبور الغابة منذ يوم واحد
- 1 - خطوة نحو القدر 2025-06-29
التعليقات لهذا الفصل " 1"