لمن تُشير تلك الألقاب؟ إنها تشير إلي، الماركيزة شولي فون نوشفانستاين. أهناك أحد غيري غني بالعديد من الألقاب غيري؟
أعلم أنه ليس لقب يٌفتخَر به. ولكن توقفت عن الاهتمام بما يقوله الناس عني منذ زمن طويل.
ما يهم هو أنني حافظت على حافظت على عائلة نوشفانستاين والأطفال بأمان حتى هذا اليوم
أجل، لقد حافظت على وعدي
بالطبع، واقعيًا، إنه محرج قليلًا أن أدعو هؤلاء الأطفال-الذين هم من نفس سني وليسوا أقربائي بالدم- أطفالي، ولكن قانونًا، هم أطفالي. حتى ولم ينادوني “أمي” ولو مرة، لقد رعيت هؤلاء الوحوش الأربعة
وغدًا هو اليوم الذي سيأتي مجهودي ثماره. ما هو هذا اليوم؟ إنه يوم زفاف ابني الأكبر جيرمي!
أسد نوشفانستاين وسيف ولي العهد، سيصبح أخيرًا ماركيز نوشفانستاين كما بوصية والده. علاوة على ذلك، رفيقته هي ابنة الدوق هاينريش، أجمل امرأة بالإمبراطورية
دموع الفرحة تملأ عيناي. بدى وكأنه الأمس عندما كان طفل ينهار من الحصبة، الآن قد كبر كثيرًا
بعد العديد من أيام الشقاء، أشعر أخيرًا بثمار مجهودي! لنحتفل بالماضي!
… كان مجرد خطأ كبير مني
من قال أنه عندما يشعر المرء بالكبت، لا يستطيعوا التفكير بأي شيء؟ هذا بالضبط ما أشعر به الآن. لا أعلم ماذا أفكر، حتى ما أقوله
“ماذا قلتي الآن…؟”
” مثلما قلت تمامًا. طلب مني أن أبلغك أنه لا داعي لحضورك لحفل الزفاف”
هذه السيدة الجميلة، التي اوقفتني حينما كنت لا أستطيع قول أي شيء، وأنا أٌمسك برأسي بعد هذه الصدمة، تكون خطيبة جيرمي ونجمة زفاف القرن الذي سينعقد غدًا، الأميرة اوهارا فون هاينريش. هل هي مُخيلتي أن شعرها الفضي الأصفر المُموج وعينيها الأرجوانية التي تناسبها بمثالية تبدو وكأنها تحمل أحساس غريب بالشفقة؟
“هل قال جيرمي ذلك حقًا؟ لماذا لم يخبرني مباشرة…؟
“أنتِ تعلمين أنه ليس بوعيه حاليًا. كان لدي بعض الوقت للقدوم هنا، لذا أنا آسفة. لقد حاولت إقناعه…”
“مهلًا، مهلًا. مهما قال ذلك الفتى، لدي التزام بحضور زفافكما…”
“هذا بالضبط ما اردتك أن تقوليه”
الأميرة، التي أخذت نفسًا بتعبير يوحي بالتردد حقًا، استمرت بالحديث بكلمات جيرمي بنبره متأثره
“هذه المهمة التي ما تؤكدي عليها دائمًا ستنتهي بمجرد أن نوقع العقد غدًا. أليس من الأفضل التخلي عنها بأسرع ما يمكن؟”
“…..”
تصلَبت مكاني وفمي نصف مفتوح، عقلي أصبح فارغًا لبرهة، بينما كنت أُحرِج نفسي، نظرت إلي اوهارا بنظره نصف شفقة، نصف عتاب
ماذا يجب علي أن أقول؟ لم أتخيل حدوث شيء كهذا من قبل، لذا لا أعلم ماذا أقول
لم يكن جيرمي الذي أعرفه من الأشخاص الذي ينقل كلامه من خلال شخص آخر. كان ما يناسبه الجلوس باستقامة ويقذف الملاحظات الساخرة التي تجرح مشاعر الشخص. إذا كان شخص كهذا أرسل تلك الكلمات من خلال خطيبته وليس حتى أخته…
أهذا يعني أنه سئم مني لدرجة أنه لم يعد يريد رؤية وجهي؟ غدًا، لم يكن هناك حاجة إلى الرسميات التي استمرت إلى الآن، لذا أيعني ذلك أنه يشعر بالمضايقة لمقابلتها وجهًا لوجه؟ مستحيل، مستحيل… حقًا… فتحت فمي لأتكلَم، ولكن صوتي كان أجَّش
“لماذا…”
“في الحقيقة، هذا مبالغ في جدًا. لقد فكرت بهذا أيضًا. ولكن ماذا أفعل وهو عنيد بهذا الشكل… وأنا آسفة، ولكني أعتقد أنكِ جزء من السبب في هذا الوضع”
كانت كلماتها وقحة نوعاً ما، لكنني شعرت بالحيرة أكثر من الانزعاج. تنهدت عروس ابني المستقبلية تنهيدة قصيرة كما لو كانت تشعر بالإحباط، ثم أنزلت رموشها الطويلة وهي تنظر إلى حماتها المستقبلية، التي تكبرها بأربع سنوات فقط، ووبختها بنبره مليئة باللوم.
“أنت تعلمين جيداً كيف ينظر إليك الناس في الأوساط الاجتماعية، أليس كذلك؟ بالطبع، أنا أعلم أنكِ شخص طيب، لكن معظم الناس لا يرون ذلك. وحتى استياء ابنك منك أمر طبيعي ومنطقي من وجهة نظر موضوعية، فلا مفر من ذلك.”
“جيريمي مستاء مني؟”
“…صراحة، أنتِ من جلبتِ عشيقاً إلى المنزل بعد شهر واحد فقط من وفاة الماركيز السابق. كل تلك الفضائح العديدة، وحتى الأقارب الذين يشاركونه دمه منعتهم من الاقتراب منه. لقد طردتِ عمته التي توسلت لرؤية أبناء أخيها ولو مرة واحدة… لذا لا يمكنه إلا أن يشعر بالاستياء. لماذا فعلتِ ذلك؟”
نعم، لماذا فعلتُ ذلك؟ الأسباب كثيرة. لكن لم أنطق بكلمة واحدة. حتى لو تمسكت بأوهارا هنا وحاولت تقديم الأعذار، أو سردت بالتفصيل أسباب اضطراري لذلك، فما الفائدة حقاً؟
شعرت بألم في أنفي. كنت أظن أنني اعتدت على برود الأطفال حتى الملل، فلماذا أشعر فجأة بهذا الحزن الغامر؟
“مهما قال الآخرون، أنا بالنسبة لهذا الطفل…”
ابتلعت الكتلة المؤلمة العالقة في حلقي بصعوبة وأكملت كلامي بمشقة، لكن أوهارا قاطعتني مرة أخرى.
“هل تعلمين أنه لم يعتبرك أمه ولو لمرة واحدة؟ صراحة، هذا كلام لا يصدق، أليس كذلك؟”
…نعم، بالطبع. من المنطقي أن الشاب الذي يكبرني بسنتين فقط لا يمكن أن يراني كذلك. أنا أوافقه الرأي. لكن… لكن…
“بالطبع، أريد أن أتعامل معكِ بأفضل طريقة ممكنة في المستقبل. لذا أرجوكِ، تعاوني معي هذه المرة فقط. لا أريد أن يحدث أي ضجيج في حفل زفافي الذي يقام مرة واحدة في العمر. تفهمين ذلك، أليس كذلك؟”
“…”
“حسناً، سأذهب الآن. لا يزال هناك الكثير لأحضره… لكن سأحاول بذل قصارى جهدي لإقناعه. فقط لا تعقدي آمالاً كبيرة.”
بينما كانت أوهارا ترمقني بنظرة آسفة وتنهض من مقعدها، لم أفكر حتى في مرافقتها، بل بقيت متجمدة في مكاني، مشلولة تماماً.
جيريمي، جيريمي…
الطفل الذي نظر إلي بعينين مليئتين بالعداء منذ اليوم الأول الذي وضعت فيه قدمي في هذا القصر بعمر أربع عشرة عام. الطفل الذي لم يذرف دمعة واحدة في جنازة والده، لكنه بكى بصوت عالٍ وحده في مكان لا يراه أحد. الطفل الذي جعلني أحرق ليالٍ لا تُحصى وهو يعاني من الحمى بسبب الحصبة.
الصبي الذي لم يفتح قلبه لي ولو مرة واحدة، والذي رغم ذلك حاولت حمايته بكل جسدي وروحي.
هذا الصبي أصبح الآن شاباً بالغاً غريباً تماماً… ويرفضني.
قيل إن الحيوان ذو الشعر الأسود لا يجب تربيته.
…لكن جيريمي أشقر، إذًا هو ليس بشعر أسود. هذا لا يعقل، أليس كذلك؟ نعم، تربية الأبناء لا تجلب سوى العبث. الحكماء القدماء كانوا على حق. تربية الأبناء لا فائدة منها!
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
“لا، جوين. أنا حقاً لا أستطيع العيش. أشعر أنني سأموت.”
“سيدتي…”
“…هذا الوغد الخسيس! هذا الوغد الوقح السيئ الأخلاق! كيف ربيته، وكيف يستطيع أن يعاملني هكذا؟ آه، جوين، أنا حقاً أشعر بالحزن حتى الموت…!”
كيف لي أن أتماسك لدرجة أن أتشبث بالخادمة وأبكي بلا خجل؟ لكن لا مفر من ذلك. هذا هو وضعي، لا أملك صديقاً واحداً أشتكي له.
آه، يا لتعاستي. لم أكن أدرك ذلك لأنني كنت أركض بلا توقف طوال هذا الوقت، لكنني الآن أدرك مدى وحدتي وعزلتي. من ألوم؟ أنا من صنعت هذا بنفسي.
“كيف يستطيعون أن يفعلوا بي هذا!”
حتى إلياس الثاني، والتوأمان الصغيران ليون وريتشيل، لم يظهروا أي نية لإقناع جيريمي. بل إنهم يتبادلون النظرات ويقولون إنه إذا ذهبتُ رغم رفضهم سأتعرض للإهانة، مما سيجعل الأمر أكثر إضحاكاً.
كدت أجن من الحزن! مهما يكن، كيف ربيتهم، وهم لا يسمحون لي حتى بحضور حفل زفافهم!
لا بأس بعدم الذهاب إلى حفل الزفاف. لكن المشكلة ليست في الذهاب أو عدمه. المشكلة هي كيف ينظرون إلي!
شعرت باضطراب في معدتي، ففقدت شهيتي. بدلاً من تناول العشاء، جلست ملفوفة ببطانية عند قدمي، مستندة إلى النافذة، أنظر إلى السماء بلا هدف.
لطالما مضى وقت طويل منذ آخر مرة شعرت فيها بهذا الشعور الحزين. هل هو شعوري فقط، أم أن سماء هذه الليلة تشبه تماماً سماء الليلة التي جئت فيها إلى هنا قبل تسع سنوات؟ سماء ليلية بلون الحبر الأسود مرصعة بنجوم متلألئة لا تُحصى… لم أكن أعلم حينها أن هذه النجوم تمثل كمية الدموع التي سأذرفها هنا.
كلما استرجعت ذكريات طفولتي، كانت المشاهد ذاتها تمر أمام عيني دائماً. أب مهووس بالقمار ومصارعة الكلاب، أم مترفة تتجاهل الواقع البائس، وأخ أكبر كان برعم نذير بالفساد، لا يملك أدنى إدراك للواقع مثلهما. تراكمت الديون ككرة ثلج حتى أصبحت ثروة العائلة خاوية، ولم يبقَ سوى لقب ابنة عائلة بارون ريفية بالاسم فقط – تلك كانت أنا.
كان أمل والديّ الوحيد، اللذين بذلا قصارى جهدهما لتزويج ابنتهما الوحيدة إلى عائلة ثرية قدر الإمكان، قد تحقق أخيراً في يوم عيد ميلادي الرابع عشر، ويا للمفارقة. بالأحرى، بفضل أمي التي كانت متلهفة لإدخالي إلى الأوساط الاجتماعية في العاصمة، حضرتُ حفلاً أقامته خالتي في قصرها في بيتلزباخ.
رجل قال إنني أشبه حبه الأول كثيراً. كان في سن والدي، أرمل توفيت زوجته السابقة، لكنه كان “ذاك” الماركيز نوشفانستاين. عرض عليّ الزواج مقابل تسوية ديون عائلتي بالكامل، فابتهج أهلي وقفزوا فرحاً وقبلوا على الفور.
…نعم، لقد تم بيعي من قِبَل عائلتي ذاتها إلى أرمل عجوز لم ينسَ حبه الأول على الرغم من تقدمه في السن! أولئك الذين ضربوني وأنا أبكي وأرفض الذهاب، ووصفوني بأنني فتاة لا تعرف قدرها، كانوا والديّ بالذات.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان لزوجي أربعة أطفال من زوجته المتوفاة: الابن الأكبر جيريمي، والثاني إلياس، والتوأمان الصغيران المختلفان جنساً ليون وريتشيل.
منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه قدمي هذا البيت، كان العداء والغضب في عيون أولئك الأطفال يصعب وصفه بالكلمات. جيريمي، الذي كان يعاملني كما لو كنت لا شيء، كان الأقل سوءاً على أي حال. إلياس كان يزعجني باستمرار بمقالب تتجاوز الحدود مدعياً أنها مجرد مزاح، أما التوأمان فكانا يطالبانني بإحضار “أمهما الحقيقية” ويثيران كل أنواع الفوضى. آه، كم من الهموم تراكمت في جسدي خلال السنين التي عشتها معهم، لا أحد يعلم.
هل كان بإمكاني أن أحب هذا الرجل الذي يُدعى زوجي وأنا التي تم بيعي مثل خروف في المسلخ؟ رجل في سن والدي، تزوجني فقط لأن وجهي يشبه حبه الأول؟
ومع ذلك، كان لطيفاً معي. دائماً، بل بطريقة مفرطة في اللطف والاهتمام. على الرغم من كوننا زوجين، لم يمسّني قط، فقط لأنني لم أرغب في ذلك. بمعنى ما، كان وكأنه اشتراني، ومع ذلك فعل ذلك. لم أتلقَ مثل هذا الاحترام أو الرعاية حتى من عائلتي.
لم أحبه، لكنني كنت أشعر بالامتنان والاحترام نحوه على طريقتي. حتى وفاته بالالتهاب الرئوي بعد زواج لم يدم سوى عامين تقريباً، كانت علاقتنا ودية وهادئة إلى حد ما.
بعد أن طردت كل الأقارب الذين هرعوا عندما سمعوا أن الماركيز على فراش الموت، بل وأخرج الأطفال أيضاً، كان الشخص الذي أملى عليه وصيته هو أنا، زوجته الشابة. ربما كان ذلك نوعاً من آخر تعبير عن رعايته لي. إجراء اتخذه لضمان أن يتم احترامي في هذا القصر بعد وفاته، أنا التي لم يعاملني أحد كماركيزة حقيقية، مجرد فتاة صغيرة ساذجة، وربما…
مسؤولية ثقيلة وضعها على عاتقي.
ما زلت أتذكر كل كلمة بوضوح. جميع سلطات رب الأسرة تُعهد مؤقتاً إلى الماركيزة شولي فون نوشفانستاين، وتظل سارية حتى يبلغ الابن الأكبر جيريمي فون نوشفانستاين سن الرشد ويتزوج. وإذا توفيت الماركيزة قبل ذلك، فإن كل ما يخص عائلة نوشفانستاين سيُدمج في الإمبراطورية – هكذا كانت الملاحظة الختامية القصيرة أيضاً.
كان من الطبيعي أن يثور الأقارب من الفروع الجانبية. سلطة رب الأسرة ليست مجرد ميراث عادي، بل قوة هائلة مختلفة تماماً. وفقاً لقانون الإمبراطورية، تنتقل هذه السلطة إلى الابن الأكبر أو إلى صهر يُعين خلفاً، وإذا كان الوريث صغيراً جداً، يتولى العم أو الأخ الأكبر السلطة بالنيابة حتى يحين موعد بلوغه سن الرشد. وهل نوشفانستاين عائلة نبيلة عادية؟
ومع ذلك، وصية تحمل توقيع الماركيز وختمه الشخصي، تنص على أن تُعهد كل تلك السلطات – من تحريك فرقة الفرسان التابعة، إلى التدخل في جميع المشكلات الكبيرة والصغيرة المتعلقة بالفروع المباشرة والجانبية، وحتى شغل مقعد في البرلمان والتعبير عن الرأي – إلى زوجة ثانية شابة بالكاد بلغت سن الرشد.
كان الجميع يقول إنه قد جن. حتى أنا تساءلت ما إذا كان قد فقد عقله قبل وفاته، فما بالك بالآخرين.
قبل وفاته، أوكل إليّ أطفاله. أطفال يجدون مجرد مناداتي بـ”أمي” مراً مضحكاً، بل وقصر الماركيز العظيم الذي لا يناسبني، جعله كله تحت تصرفي. طلب مني أن أحميه بأي وسيلة من الفروع الجانبية التي ستتربص بأسرة الماركيز مثل الصقور بعد وفاته. جعلني أعد بذلك.
كان ذلك ثقة مفرطة يمكن أن تُسمى تهوراً. وأعتقد أنني أوفيت بذلك الوعد.
لن أتحدث عن مدى الخوف الذي شعرت به وأنا في السادسة عشرة فقط، محاطة بأشخاص من الفروع الجانبية يضغطون عليّ للتخلي عن سلطة رب الأسرة، ونظرات الاحتقار من النبلاء الموقرين. لا أحد سيهتم بمدى خوفي وحزني على أي حال.
ومع ذلك، وجدت طريقة ما. عندما جاء أهلي مسرعين بعد أن سمعوا أن ابنتهم التي باعوها أصبحت أرملة غير مسبوقة في التاريخ، وعندما حاول الأقارب الجانبيون الذين يتربصون بي إجباري على إعادة الزواج حسب رغباتهم، أحضرتُ عمداً إلى القصر عشاقاً من الأوغاد بلا أصل، وكان ذلك أحد تلك الطرق.
لا أحد يعلم، أليس كذلك؟ أن أولئك الذين تظاهروا بكونهم عشاقي لأشهر متعاقبة في البداية كانوا في الواقع مرتزقة تم التعاقد معهم مقابل أجر معين… هاهاها…
عشت. أصبحت سيدة قاسية لأضبط انضباط الخدم الذين يحتقرونني في الخفاء، واستبدلتهم باستمرار خوفاً من أن يزرع أحدهم جواسيس، ورعيت الأطفال بنفسي كلما مرض أحدهم لأنني لم أستطع الوثوق بأحد بسهولة، وأصبحت سيدة نبيلة شابة متعجرفة معروفة في مجتمع النبلاء المليء بالمكائد والخداع لئلا يستهين بي أحد…
لم يكفِ أنني ابتلعت زوجي في سن صغيرة وسيطرت على عائلة عريقة، بل أصبحت أرملة عنكبوتية مخيفة، صيادة رجال، ساحرة قلعة نوشفانستاين التي تستبدل الرجال كالألعاب يوماً بعد يوم.
عشتُ بقسوة وشراسة… فما الذي بقي لي الآن؟
يوهان، لقد أوفيت بوعدي لك. لكن ما الذي تبقى لي؟ أين ومتى بدأ كل شيء ينهار؟
*****
“آآآآه!”
من شدة الألم الذي ضرب مؤخرة عنقي، لم أتمكن إلا من السقوط على وجهي أثناء مروري بالإسطبل. وضعت يدي على مؤخرة عنقي بشكل انعكاسي، وشعرت بشيء دافئ يتدفق للأسفل.
“إلياس! هل جننت؟!”
رفعت رأسي بصعوبة، فأبصرت من خلال رؤيتي المغشاة بالدموع جيريمي يركض نحوي بوجه شاحب كالثلج، وإلياس واقفاً خلفي كأنه تجمد، وجهه مليء بالحيرة. بدا وكأنه طفل في الخامسة لا يعرف ماذا يفعل بعدما تسبب في ذلك.
“كيف ترمي حجراً هناك، أيها الأحمق! قد يموت شخص بسبب ذلك!”
“أنا، لم أكن أعلم أنه سيصيب بقوة… هذه الحمقاء هي من لم تتمكن من تفاديه لأن ردود فعلها بطيئة!”
كان إلياس قد لعب معي مقالب متجاوزة للحدود مرات لا تُحصى، لكن لم يسبق أن تسبب في ضرر جسدي مثل هذه المرة. لحسن الحظ، توقف النزيف بسرعة، لكن بقيت ندبة على مؤخرة عنقي لن تزول أبداً. لن أستطيع بعد الآن حتى التفكير في تسريحات الشعر الأنيقة التي تتباهى بها سيدات العاصمة.
“اعتذر لأمك.”
كان من المدهش أن أرى هؤلاء الصبية الجريئين، الذين لا يبدو أن كلمة “خوف” لها أي معنى بالنسبة لهم، يتحولون إلى كلاب صغيرة مرتعبة أمام وجه والدهم الصارم. وفي الوقت ذاته، شعرت بعدم الراحة الشديدة رغم كوني موضوع الاعتذار.
“إلياس! ألا يمكنك الاعتذار فوراً! وجيريمي، ماذا كنت تفعل بينما أخوك يقوم بمثل هذا الفعل؟”
“أنا آسف، يا أبي.”
كان جيريمي مطأطئ الرأس، فلم أستطع رؤية تعابير وجهه. في تلك اللحظة، رفع إلياس، الذي كان يرتجف قليلاً وينظر للأسفل، رأسه فجأة وحدّق بي. شعرت للحظة وكأن نظرته النارية ستشطرني إلى نصفين.
“هذه الفتاة الوضيعة ليست أمنا! لن أعترف بها حتى لو متّ! مهما قال والدي…”
صفعة!
صرخت صرخة قصيرة دون قصد ووضعت يدي على فمي عندما سمعت صوت الصفعة الحاد يقطع الهواء. بدا أن إلياس نفسه، الذي تلقى الصفعة، مصدوم بنفس القدر. ظل يحدق في والده بعيون متموجة كالأمواج لبضع لحظات، كأنه لا يصدق ما حدث للتو. لكن نظرة زوجي التي واجهت ابنه الثاني كانت باردة كالثلج.
“اعتذر أيضاً عن تلك الهراء الذي قلته للتو.”
بعد أن رمش إلياس بعيونه المذهولة عدة مرات، عاد ليحدق بي. كانت غضبه المتأجج مثل البرق في عينيه الخضراوين الداكنتين المبللتين بالدموع واضحاً لدرجة أنني شعرت به على جلدي.
ضربة!
رأيت جيريمي، البالغ من العمر أربع عشرة عاماً، يضرب الحائط بقبضته لأنه لم يستطع ضربي. خلال كل السنوات التي عشناها معاً، كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أظهر فيها مشاعر قوية تجاهي بهذا الشكل.
“لقد مر شهر واحد فقط منذ وفاة والدي. شهر واحد فقط! وماذا، عشيق؟ هل أنتِ عاقلة الآن؟!”
“بالعكس، أنا أفعل هذا لأنني عاقلة!”
“ما الذي تفكرين فيه؟ ما الذي يدور في رأسكِ؟! لو كنتِ عاقلة، لما وقعتِ في غرام شخص وضيع بلا أصل مثل هذا! هل تعتقدين أنني سأترككِ تقومين بمثل هذا التصرف؟!”
“وماذا ستفعل إن لم أتركها؟! إذا كنتَ قلقاً بشأن مسألة الميراث، فلا تهتم! ليس لدي أدنى نية للزواج مرة أخرى، وسأترك كل شيء لكَ بعناية كما أوصى والدك العظيم!”
“اللعنة، ليس هذا ما أعنيه! أخبريني ما الذي تخططين له، هذا ما أقوله! ألا تهتمين بما سيقوله الناس؟!”
“أتريدني أن أتكلم؟ أنا؟ معكم؟ ها، هل هذا معقول حتى؟”
“أنتِ…”
“لا تتظاهر بالاهتمام الآن! هل تعتقد أنني أريد أن أظل محبوسة هنا لأنظف فوضاكم؟! هل تعتقد أنني أريد أن ألعب دور الأم الذي لا يناسبني؟! أرجوك، دعني وشأني! بما أنك كبرتَ الآن، افعل ما يحلو لك، سواء كنت تلوح بسيفك المفضل، أو تذهب للصيد، أو تتحدث عني مع إخوتك!”
كان جيريمي على وشك ضربي، لكنه تمكن بطريقة ما من كبح جماح نفسه وهو يعض على أسنانه بقوة. بدت عيناه الخضراوان المتوهجتان وكأنها تهدأ تدريجياً، ثم تجمدتا فجأة كالجليد الأخضر.
“…بالطبع، ليس كذلك. سأفعل كما تقولين، سيدتي.”
بعد أن سخر مني بنبرة مهذبة بشكل مبالغ فيه، استدار وخرج، مغلقاً الباب بقوة جعلتني أخشى أن يتشقق السقف. ثم جلستُ على الأرض وبدأت أبكي بهدوء بمفردي.
كنا صغاراً جداً. جميعنا، أطفال تائهون بشكل يرثى له، غير قادرين على إيجاد طريقنا.
*****
يبدو أنني غفوتُ وأنا مستندة إلى النافذة. عندما فتحت عيني، كان الوقت هو ذلك الفجر الأزرق الذي أستيقظ فيه دائماً مع بزوغ الضوء.
كان الثلج يتساقط في الخارج. للحظة، بدا انعكاس وجهي على النافذة المغطاة بالبخار الأبيض وكأنه وجه عجوز، مما أذهلني.
آه، ليس هذا مستغرباً. منذ فترة وأنا أشعر دائماً وكأنني عجوز. رغم أن عمري ثلاثة وعشرون عاماً فقط، أشعر وكأنني في الستين تقريباً. يقولون إن التقدم في العمر يجلب الحكمة، لكنني لا أعرف عن الحكمة شيئاً، بل أشعر فقط بأنني كبرت في العمر. على أي حال، إنه الثلج. كان ليون وريتشيل سيفرحان به… آه، لكن ربما انتهى ذلك الوقت الآن.
عندما كان الأطفال صغاراً، كانوا يركضون جميعاً إلى الفناء كلما تساقط الثلج. كان التوأمان يصنعان رجل ثلج، وإلياس يرمي كرات الثلج في كل الاتجاهات، بينما كان جيريمي يركض في حقل الثلج مع الكلاب. وأنا، كنت أراقبهم من هنا، من غرفتي عبر النافذة.
إنه أمر مضحك، مضحك للغاية. كنت أعرف ذلك منذ البداية، أنه لم يكن لي مكان بينهم منذ البداية، ومع ذلك أشعر بالضيق الآن بعد كل هذا الوقت.
“سيدتي، هل استيقظتِ؟ هل أحضر لكِ الشاي؟”
“نعم، افعلي ذلك…و جوين، لدي طلب.”
بعد أشهر قليلة من الآن، ستبدأ حفلة الزفاف التي كانت حديث الناس في العاصمة الإمبراطورية بأكملها. كم ستكون تلك المناسبة رائعة ومبهرة؟ على عكس زواجي الذي انتهى بتبادل الوعود ببساطة والتوقيع على الأوراق، سيكون هذا مختلفاً تماماً.
أستطيع أن أؤكد أن جميع الضيوف لن يتمكنوا من رفع أعينهم عن العروسين. وعن عائلة العريس أيضاً. ستكون تجربة بصرية ممتعة بحق…
إذا كنت أعرف ميزة واحدة عن نفسي، فهي ربما قدرتي على قبول أن ما انتهى قد انتهى.
ليون وريتشيل، اللذان كانا يثيران شفقة لا حدود لها لفقدانهما والديهما في سن مبكرة. إلياس، الذي كان دائماً شقياً لكن لم أستطع كرهه تماماً. و… أنت، جيريمي، الذي كنت دائماً تجعلني أقلق عليك.
لن تعرف أبداً. عندما كنت تعاني من الحمى الشديدة وتتأرجح بين الحياة والموت، قضيت ليالٍ لا تُعد بجانبك، مفكرة أنني إذا استطعت استبدال حياتي بحياتك، لفعلت ذلك بكل سرور. لم أكن أعلم حتى أنني قادرة على التفكير في شيء كهذا من أجل أحد.
الأفعال التي تُقدم بنية الحصول على مكافأة تترك مرارة كالرماد في النهاية، أليس كذلك؟ لذا لن أحمل أي ضغينة تجاهكم… لديكم أسبابكم المشروعة على أي حال.
ليس أنني لست قلقة. هل سيتمكن ذلك الشاب اليافع من القيام بذلك جيداً؟ هل سيحافظ على هذا الإرث الرائع كما أراد والده؟ أنا، التي اضطررت لدخول عالم الكبار مبكراً جداً، لا أشعر إلا بالقلق والخوف.
…لكن هذا لم يعد شأني بعد الآن، أليس كذلك؟ لا بأس، الأطفال سيعيشون حياتهم بأنفسهم. بالطبع، من الذي رباهم؟!
“سيدتي؟”
عندما انتهيت من وضع الأشياء على الطاولة، دخلت جوين، رئيسة الخادمات، وروبرت، الخادم الرئيسي، وألبيرت، قائد الفرسان، جنباً إلى جنب. كانوا أتباعاً مخلصين خدموا هذه العائلة لأجيال، وكانوا الوحيدين الذين وثقت بهم طوال هذه السنوات.
“سأذهب إلى هايدلبيرج. سأغادر دون أن يعلم أحد، دون علم الأطفال، لذا جهزوا كل شيء.”
“إلى هايدلبيرج… مفهوم. لكن كم يوماً ستبقين هناك؟”
“لن أعود.”
“…ماذا؟!”
فيلا هايدلبيرج في إقليم الماركيز هي، بمعنى ما، المكان الوحيد الذي يمكن أن أعتبره ملكي بالكامل. لقد أعطاني إياها زوجي كهدية زفاف. رغم أنني زرتها مرة واحدة فقط في بداية زواجنا.
على أي حال، لم يكن مفاجئاً أن تتسع عيون الثلاثة كالصحون عندما رأوا ما على الطاولة. كانت تلك الأشياء التي لم أفارقها خلال السنوات السبع الماضية – المفتاح الرئيسي الذي يفتح كل مكان في القصر، وصندوق الوصية، وخاتم رب الأسرة.
“سي، سيدتي، ما معنى هذا الكلام؟”
“حتى لو كنتِ ستذهبين للراحة، فهذا صادم، فما بالك بمثل هذا الخبر الصادم؟”
“اليوم زفاف جيريمي، أليس كذلك؟ بصفتي أم ابني الأكبر، يجب أن أقدم هدية زفاف.”
“ماذا؟”
“ذلك الوغد بالتأكيد يتمنى بشدة أن أختفي.”
وضعت يدي على خصري وابتسمت، فتجمدت وجوه الثلاثة الذين حاولوا منعني في وقت واحد كما لو كانوا قد اتفقوا مسبقاً. هاها.
“ارخوا وجوهكم. إنها الحقيقة، فماذا في ذلك؟”
“سيدتي.”
“أعهد إليكم بكل شيء في غيابي… مفهوم؟”
“لكن سيدتي…!”
“عندما تأتي السيدة الجديدة، أحسنوا معاملتها، ومن الآن فصاعداً، جيريمي هو سيدكم، فلا تعصوه. أنتم تعرفون مزاجه الرهيب.”
“لا، سيدتي، هذا لا يعقل. كيف ربيتِ الأبناء والسيدة الصغيرة؟!”
عندما صرخ روبرت، الخادم الرئيسي، بصوت حزين كصرخة الموت وكأنه لا يستطيع التحمل أكثر، تجمدت للحظة ثم ضحكت بخفة.
“أنا سعيدة أنكم على الأقل تعترفون بذلك. لكن لا تقولوا مثل هذا أمام الأطفال، فقد يتسبب ذلك في كرههم لكم.”
“سيدتي!”
“هيا، ليس لدينا وقت لهذا. انزلوا جميعاً الآن!”
انتهى دوري هنا. آه، من الآن فصاعداً، يجب أن أعيش حياتي بنفسي وأعتني بنفسي جيداً. لم أجرب علاقة حب حقيقية من قبل بسبب انشغالي بالعمل بلا توقف، لذا يجب أن أبدأ شيئاً فشيئاً لنفسي من الآن. نعم، سيكون كل شيء على ما يرام. كل شيء سيكون بخير.
…لكن هذا أيضاً كان مجرد وهم آخر من أوهامي.
يا إلهي!
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 0"