3
بعد زواجي من زوجي، لم يزرني أحد من أهلي خلال عامين. لم يكن هناك حتى تواصل. ربما لم يرغبوا في ذلك، أو لم يستطيعوا. كان من الغريب ألا يتطلعوا إلى ما يمكن أن يحصلوا عليه من ابنة “بيعت” بالمعنى الحرفي، لكن عدم قدرتهم على ذلك كان له سبب. كان الحظر الصارم الذي فرضه زوجي على اقترابهم هو العامل الحاسم.
فلما مات زوجي، لم يكن مفاجئًا أن يهرعوا إليّ كأنهم كانوا ينتظرون تلك اللحظة.
أبي، الذي كان مهووسًا بالقمار ومصارعة الكلاب، سدد ديونه بثمن بيع ابنته، لكن تلك العادات لم تتغير. أما أمي وأخي، فقد ظلا متمسكين بحلاوة الكسب السريع الذي تذوقوه مرة.
مثلما كان الحال مع أقرباء زوجي من الفروع الجانبية، لم يكن أهل بيتي يهتمون بسلامتي أو سلامة أطفالي. كانت أمي ترغب في تزويج ابنتها، التي أصبحت أرملة غير مسبوقة، لمن تريده هي. وعندما فشلت في ذلك، بدأت تتشبث بي بطلبات مادية متكررة ومُذلة.
في الوقت الحاضر، حيث لم أعد أستعين بعشاق مأجورين كما في الماضي، كان عليّ أن أقطع صلتي بأهلي بنفسي.
“آسف على المرة السابقة، يا عزيزتي. لقد انفعلت قليلاً… لكنك أيضًا كنتِ قاسية بعض الشيء، أليس كذلك؟”
بينما كنت جالسة بلا تعبير وصامتة، كان لوكاس يثرثر بلا توقف مبتسمًا، بينما كانت أمي تنظر إليّ بنظرات حادة كأنها تطعنني، وجهها متصلب. بالأحرى، كانت تتفحصني، أنا التي أرتدي فستانًا فاخرًا للمناسبات وزينة متلألئة. شعرت بمرارة جديدة وأنا أرى بريقًا شريرًا في عينيها الخضراوين اللامعتين، المتطابقتين مع عينيّ. أن تكون هذه المرأة هي أمي التي أنجبتني…
“أخوك يعتذر لك بهذا الشكل، فكيف لا تردين؟”
كما توقعت، لم أتمالك نفسي من الضحك عندما سمعت صوت أمي المغتاظ، المشحون بالاستياء.
“آه، يا أمي، أنا بخير…”
“بخير؟! فتاة وقحة! هل تعتقدين أن هذا المكان ملكك بالكامل؟ من الذي جعلك في هذا المكان، أيتها الفتاة المتعجرفة التي لا تعرف قدرها، تنظرين إلينا بذلك الوجه الوقح؟”
“هيا، يا أمي، لا تفعلي هذا. اهدئي. هيا، خففي من حدتك…”
بينما أراقب هذا المشهد التمثيلي للأم وابنها، تساءلت لماذا لم ألاحظ في الماضي هذه الأجواء الخرقاء والمشوشة. لم أكن أشعر بهذا القدر من البرود واللامبالاة آنذاك. لم يعاملني والديّ يومًا بدفء، لكن عندما كانوا يصرخون بغضب ثم يبكون ويتوسلون، كنت أضعف.
كنت سأكذب لو قلت إنني لم أتأثر بألعاب والديّ العاطفية مع أطفالهم. كنت أرغب بشدة في التخلص من الشكوك وبناء الثقة.
لماذا تكون العلاقة بين الوالدين والأبناء معقدة إلى هذا الحد؟ عانيت من التناقضات العاطفية، وحاولت قطع الصلة بنفسي، حتى اضطررت في النهاية إلى طلب المساعدة من الآخرين لأتخلص من عائلتي.
…لكن الآن، بالنسبة لي، عائلتي هي أطفالي فقط.
عندما واصلت الصمت بتعبير فاتر، بدا أن أمي بدأت تفقد صبرها. بعد أن تنفست بغضب وتفحصتني بنظراتها، تحولت فجأة إلى نبرة ساخرة.
“أنا مستاءة، مستاءة! بعد عامين، أرى ابنتي أخيرًا، وكأن أمها المسكينة لا تعني لها شيئًا! مهما كنتِ، أنتِ ابنتي، فكيف لم ترسلي رسالة واحدة…”
“اخرجي”.
ساد الصمت للحظة. بينما كانت أمي ولوكاس ينظران إلي بدهشة، كأنهما يشككان في أسماعهما، رفعت زاوية فمي قليلاً وتحدثت بنبرة شعرت أنها تشبه نبرة جريمي بشكل غريب.
“أردت أن أسمع ما ستقولينه، لكن يبدو أنني أضعت وقتي. سيدة إيجهوفر، أنتِ من قال أولاً إن الابنة المتزوجة لم تعد جزءًا من العائلة. أنتم لم تعودوا تعنون لي شيئًا. من الواضح أنكم جئتم تطالبون بشيء، لكن للأسف، أنا مجرد واصية مؤقتة، وكل شيء يجب أن يُحفظ لأطفالي. لذا، لا تتعبي نفسك بالقدوم إلى هنا، وعيشي بهدوء في مكانك مع ابنك الحبيب”.
بينما كنت أتحدث، كان وجه لوكاس يتغير بين الأحمر والأزرق، لكنه بدا يتمالك نفسه، ربما بسبب وجود الفرسان خارج الغرفة. لكن أمي لم تستطع ضبط نفسها. فجأة، انقلبت أكواب الشاي على الطاولة، وفي اللحظة التالية، كانت يدها القوية تمسك بشعري!
“أيتها الجاحدة التي لا تعرف نعمة من أنجبها ورباها، فتاة مثلك، وصلت إلى هنا بفضل وجهها الجميل، لا تعرف حتى أمها…”
مهما كان ما ستنطق به أمي، فقد قُطعت فجأة عندما اقتحم الفرسان الغرفة دون سابق إنذار، وألقوا بها بعنف على الطاولة. رنّ صراخها الحاد في الأرجاء.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
رتبّت شعري المبعثر بيدي وأومأت برأسي. لم أمنح نظرة واحدة للكونتيسة التي كانت تصرخ أو لوكاس المتجمد في مكانه. نظر إليّ الفرسان بنبرة هادئة وباردة وسألوا مرة أخرى:
“كيف نتصرف؟”
“ماذا؟! ما هذا! أيها الفرسان، ما هذه الوقاحة؟! أنا والدة سيدتكم! جدة أطفال هذا البيت!”
“اخرسي”.
عندما تحدث أحد الفرسان ذو الشعر الرملي وهو يشهر سيفه، توقفت أمي عن الصراخ فجأة وهدأت تمامًا.
أشرت للفرسان بعيني أن يتركوها، ثم نهضت من مكاني.
“هل فهمتِ، ايتها الكونتيسة؟ لا تعودي مرة أخرى. إذا اقتربتِ مني أو من أطفالي مرة واحدة أخرى، ستعانين من مصيبة أكبر مما تتخيلين”.
في طفولتي، كنت أحبها بشدة وأتوق إلى حنانها. لكن الآن، يبدو المثل القديم القائل إن الدم أغلى من الماء مجرد مزحة. لماذا سمحت لها بالدخول؟ كنت أعلم جيدًا أن الأمور ستنتهي هكذا…
عندما أُطلق سراح أمي أخيرًا من قبضة الفرسان الحديدية، انهارت على الأرض تلهث. ثم بدأت فجأة في البكاء بصوت عالٍ، متذمرة من مصيرها. بينما كانت تنتحب وتندب حظها، تحرك لوكاس بسرعة، وجثا على ركبتيه ممسكًا بطرف فستاني. رفعت يدي للفرسان القادمين لإبعاده، ومايلت رأسي قليلاً.
“شولي، أختي العزيزة، أرجوكِ، تذكري طفولتنا، لا تطردي أمنا. لقد كانت فقط متضايقة. لقد حاولت منعها، لكن عندما رأتكِ، لم تستطع التحكم بمشاعرها. أنتِ تعرفين كيف هي أمنا. إنها تشعر بالإهانة لأنكِ تتجاهلينها وهي في هذه الحالة…”
فجأة، دوى صوت صراخ مدوٍ من شخص لم نتوقعه. أنا، التي كنت أقف ببرود، ولوكاس الذي كان يتوسل ممسكًا بفستاني، وأمي التي كانت تبكي كأن العالم انتهى، جميعنا انتفضنا وأدرنا رؤوسنا. أما الفرسان، فقد بدأوا يتبادلون النظرات بتعبيرات مرتبكة بشكل غريب.
“مهلاً، سيدي الشاب! لقد أمرتني السيدة بعدم السماح لأحد بالدخول…!”
تلاشى صوت روبرت، الخادم المخلص المسن، وهو يصرخ وهو يحاول اللحاق بالوافد. كان الخادم العجوز يحاول تفادي نظراتي التوبيخية بعينين مليئتين بالتوسل والحزن.
…بالطبع، كان من الصعب على روبرت إيقاف هذا الشخص بالذات. لكن، بحق السماء، لماذا يظهر هذا الفتى هنا؟!
كيف وصل قبل موعده بكثير؟ كان الأمير الصغير “الذئب” يحمل كوب عصير بيد، وفي فمه كعكة ضخمة لا شك أن الخادمات أعطينها له، ومع ذلك كان يصرخ بصوت عالٍ.
“لقد حذرتك بوضوح… اللعنة، انتظر، دعني أنهي هذا أولاً”.
بشكل مذهل، التهم نورا الكعكة الضخمة في لقمة واحدة، ومضغها بسرعة، ثم اقترب منا بخطوات واثقة. ثم زأر بزخم مخيف جعل العمود الفقري يرتجف.
“قلت لك لا تعبث مع هذه الفتاة… أقصد، هذه السيدة مرة أخرى!”
بينما كنت مذهولة، بدا أن لوكاس استعاد رباطة جأشه. نهض فجأة وواجه الأمير بوقاحة. على الرغم من فارق العمر، كانا متقاربين في الحجم، فلم يبدُ المشهد مهيبًا بشكل خاص.
“ما هذا؟! أيها الصغير الذي لم يجف دمه بعد، لا تتدخل في شؤون الكبار! هذه أختي، أفهمت؟!”
“الكبار؟ هل أصبحت أكوام القمامة تُكدس هكذا الآن؟ نسيت تحذيري بألا تفكر أو تحلم بهاذا؟!”
“أيها الوغد الصغير، تجرؤ على التسلل حول أختي…”
“هل وُلدت غبيًا، أم أنك بذلت جهدًا لتصبح كذلك؟”
بعد أن قال الأمير كلامًا غريبًا، وضع كوب العصير بحذر على الطاولة المبعثرة بأكواب الشاي. ثم، بحركة هادئة لا تتناسب مع اندفاعه المفاجئ، رفع ساقه وركل لوكاس في بطنه بعنف، فانهار لوكاس على الأرض وهو يتأوه بألم.
“هل استمتعت بالضرب؟ هل تشعر بالدوار؟ ارفع صوتك، أيها الوغد!”
“لوكاس!”
هرعت أمي إلى ابنها الذي كان يصرخ وهو يُركل، ثم حدقت بي. على الرغم من أن عينيها تشبهان عينيّ، لم أستطع تخيل أن عينيّ يمكن أن تلمعا بمثل هذا الشر.
“هكذا إذن! الآن تجلبين حتى هؤلاء الصغار؟ لمجرد أنكِ استقررتِ في عائلة ماركيز، لم يكفكِ استغلال الفرسان، بل…”
“ما هذا؟ هذه السيدة، وجهها بشع بشكل غير طبيعي!”
كان الفرسان المخلصون يحدقون الآن بالأمير الصغير بتعبيرات مضحكة. في تلك اللحظة، أمسكت ذراع الأمير الذي كان يعبث في منزلي بكل جرأة.
“أمير نورنبيرج؟”
توقف أمير نورنبيرج للحظة، محدقًا في وجهي بعينيه الزرقاوين الصافيتين، ثم قال أخيرًا
“فقط نورا”.
…لا أعرف ماذا أقول. على أي حال، كان الأمر محرجًا بما فيه الكفاية في المرة السابقة، والآن يراني في هذا الموقف! يا للعار!
بينما كنت أكبح دموع اليأس وأتنهد، تدخل روبرت وأشار بسرعة للفرسان. تحرك الفرسان كأنهم كانوا ينتظرون الإشارة، وسحبوا أمي وأخي خارجًا، ولم يتمكنا من إصدار أي صوت آخر. لا، ربما لم يستطيعا حتى لو أرادا.
“إذا قبضت عليك مرة أخرى، سأسلخ جلدك! احفظ هذا جيدًا في رأسك القبيح!”
وجه الفرسان نظراتهم الشرسة نحو الأمير الصغير الذي استمر في التهديد بعنف. لسبب ما، كانت نظراتهم تعبر عن استياء واضح.
” الكبار هذه الأيام لا يفهمون من المرة الأولى…”
“أحم، سيدتي… هل أنتِ بخير؟”
“…أنا بخير. وصلتَ مبكرًا عن موعدك. أعتذر لأنك رأيت هذا المشهد-“
“لماذا تعتذرين لي؟ هناك حدود للتهذيب!”
كيف يتدرب الأطفال هذه الأيام ليصبحوا بارعين في إسكات الآخرين؟
حاولت تهدئة خديّ المحمرّين ورفعت رأسي، فإذا بتلك العينين الزرقاوين الصافيتين، كسماء الخريف، تراقبان وجهي بهدوء. في هذه اللحظة، بدا كما لو كان نفس الشخص الذي ترك انطباعًا أوليًا مختلفًا تمامًا…
“هل هؤلاء حقًا عائلتك؟”
ابتسمت بمرارة وهززت رأسي.
“لم يعودوا كذلك بعد الآن”.
“حسنًا، إذا كنتِ قد قررتِ ذلك، فهذا جيد…”
“يا أمير، بخصوص المرة السابقة وأيضًا اليوم، هل يمكنك التظاهر بأنك لم ترَ شيئًا؟”
“قلت لكِ نورا. ولا تقلقي، من سأخبر؟”
بينما كان يحك رأسه ويجيب بصراحة، بدا نورا مختلفًا تمامًا عن الفتى المتمرد الذي رأيته في قصر الدوق سابقًا. ما هو الوجه الحقيقي لهذا الفتى؟
“بالمناسبة، لماذا أخبرتني والدتي أن ألتقي بكِ؟ شيء عن دروس البلاغة أو ما شابه”.
…يبدو أن الدوقة الهشة اختلقت هذا العذر لإقناع ابنها. بل إنني أنا من يجب أن تتعلم من هذا الفتى ذو البلاغة والتعبير المذهلين!
“حسنًا، من الواضح كيف تفكر والدتي، لكنني أكره أن أكون مقيدًا بهذه الطريقة. لذا، إذا كنتِ تحاولين التقرب مني بسبب طلب والدتي، فأنا أرفض”.
حقًا؟ كان موقفه متعنتًا، لكنني أفهم وجهة نظره. في سنه، من الطبيعي أن يكون كذلك…
“حسنًا، لا يمكن القول إن الأمر يتعلق فقط بطلب الدوقة. لم أقترب منها كثيرًا بعد… والأهم، أردت أن أشكرك على صمتك بشأن ما حدث في المرة السابقة”.
ابتسمت وأنا أتحدث، فحدقت عيناه الزرقاوان في عينيّ بنظرة مليئة بالشك. لكن كلامي كان صادقًا إلى حد ما، فلم أشعر بأي تردد.
“كم مرة أقول لكِ، نورا؟”
“…حسنًا، إذن، نورا. إذا كنت لا ترغب في التحدث معي، فلن أجبرك. فقط… راسلني إذا شعرت بالملل يومًا ما، أو إذا أردت التحدث مع أي شخص”.
ساد صمت قصير. بينما كان الفتى الغامض يحدق بي بعينيه الزرقاوين الحادتين، كنت أفكر في مستقبل هذا الفتى الذي أعرفه.
دعني أرى، لقد تم تنصيبه فارسًا في نفس يوم جريمي، إذن سيكون فارسًا العام القادم… ثم دخل جريمي الحرس الإمبراطوري، لكن إلى أين ذهب هذا الفتى؟…
“لا داعي للتحدث بتكلف معي، هذا غير مريح”.
“على أي حال، سأفكر في الأمر وأقرر. يبدو أن اليوم ليس مناسبًا، فربما الأفضل أن ترتاحي. إذا عاد هؤلاء لإزعاجك، تواصلي معي في أي وقت…”
“هل تحب الشوكولاتة؟”
“هل لديكِ؟”
وهكذا، دمر نورا مخزون الشوكولاتة الخاصة في منزلنا ثم غادر. لحسن الحظ، كان لدينا الكثير من الوجبات الخفيفة الأخرى للأطفال.
بينما كان الأمير الصغير يغادر القصر بسعادة، كانت نظرات فرساننا نحوه مشحونة بالتوجس، كما لو كانوا يراقبون ذئبًا صغيرًا يقتحم عرين أسد بلا مالك ويعبث فيه.
*****
عاد جيريمي وإلياس في وقت متأخر من المساء. وبينما كان التوأمان يصيحان بشأن صغار الثعالب ويتسابقان في الجري نحوهما، قفز جيريمي من على جواده بزخم قائد منتصر، وصاح بصوت مدوٍ:
“انظري، شولي! جلبنا لك وشاح الثعلب!”
كان قد نجح بالفعل في الصيد. ليس ثعلبًا واحدًا، بل ثلاثة! حقًا، كانت خطوة تليق بفارس المستقبل الأعظم. يا لهم من أبطال!
“واحد منهم أنا من صاد!” قال إلياس.
“! توقف عن هذا الكلام الفارغ، أيها الأخ الصغير!”.
“لا، أنا من صاد هذا! لهذا كنت هناك سابقا…”
“أين صغار الثعالب؟! ألم أقل لكما أن تجلبا واحدًا لي ولليون؟!”.
“في هذا الموسم، أين سنجد صغار ثعالب، يا حمقاء؟!”.
“أمي! إخوتي لم يفيا بوعدهما! ألم يقل أبي إن الرجل يجب أن يفي بكلمته؟!”.
“لقد أوفينا بوعدنا! قلنا إننا سنصنع لك وشاح ثعلب، وها نحن فعلنا!”.
بينما كان الأطفال يتجادلون فيما بينهم ويركضون إلى الداخل لتغيير ملابسهم، كنت ألقي التحية على الأمير ثيوبالد، وهو ينزل من جواده بابتسامته الطيبة المعتادة.
“يبدو أنكم متعبون، لمَ لا تذهبون مباشرة إلى القصر؟”.
” بعد أن سمحتم لي باصطحاب أبنائك، لا بد أن أقدم شكري!”.
“هل أنتم جائعون؟ هل تودون تناول العشاء معنا؟”.
“يا لها من دعوة سارة!”.
أومأ ثيوبالد برأسه بلطف، لكنه فجأة عبس قليلاً بعينيه الذهبيتين الناعمتين وهو ينظر إليّ. بدا وكأن لديه شيئًا يريد قوله. وبينما كنت أنظر إليه بتعجب، جاءتني مفاجأة لم أتوقعها أبدًا.
“سيدتي، يبدو أنني وقعت في حبك بالفعل.”
…ماذا؟
قبل أن أتمكن من الرد، احمر وجه الأمير فجأة، وبدأ يتلعثم بعينيه الذهبيتين تومضان بالحرج.
“أوه، أقصد، أعتذر، لم أقصد… هذا التصرف الوقح”
“أرجوكِ سامحيني على هذا الخطأ. لم أقصد المزاح، أنا جاد تمامًا، لكن… يبدو أنني يجب أن أذهب الآن.”
توقفت وأنا أنظر إلى ظهره وهو يغادر مسرعًا بعد كلامه المربك. ماذا حدث للتو؟
“شولي، أنا جائع!” قال ابني الأكبر وهو يركض نازلاً من الدرج، وكأنني طاهية خاصة. لولا صياحه، ربما كنت سأظل واقفة مذهولة طوال الليل.
هززت رأسي بسرعة لأستعيد تركيزي. اهدئي، اهدئي! لا بد أنني سمعت شيئًا خطأ، أو أن الأمير المحير هذا أخطأ في كلامه. نعم، كلمة “وقعت في الحب” قد تحمل معانٍ كثيرة…
“لماذا غادر ثيو فجأة؟ كان يتضور جوعًا!”.
“أنا من طردته”.
“لماذا؟”.
” قال إنه يريد طبقًا من لحم الثعلب، لكنني أخبرته أنني لا أغير قائمة الطعام بمجرد أن أحددها.”
“ماذا؟! هذا الرجل، لم يصطد ولو ثعلبًا واحدًا، والآن يطمع في فريستنا؟!”.
شعرت بالأسف تجاه الأمير الشاب الذي أصبح فجأة في نظرهم طامعًا يريد سرقة فريستهم، ثم توجهت مع ابنيّ إلى غرفة الطعام. بما أن التوأمين تناولا العشاء بالفعل، جلسنا ثلاثتنا فقط على المائدة. على عكسي، حيث فقدت شهيتي بعد الحادثة، كان ابناي يلتهمان الطعام كما لو كانا في معرض للمواشي.
“أقول لك، أنا من صاد واحدًا!”.
“توقف عن هذا الهراء! أنا من صاد الثلاثة، وأنت فقط سرقت واحدًا في النهاية!”.
“لمَ تحاول دائمًا أن تأخذ كل الفضل لنفسك، أيها الأناني؟!.
“يبدو أنكما استمتعتما كثيرًا”.
توقفا عن التهام اللحم للحظة، وبدآ يتباهيان بإنجازاتهما بعيون خضراء متلألئة.
“كان الأمر ممتعًا جدًا! لو لم يكن هذا الرجل وثيو يتذمران كثيرًا، لكان أفضل…”.
“تتذمر؟ أنت من أفسد كل شيء بصياحك عن الأسد وصراخك المزعج!”.
“متى فعلت ذلك؟!” احتج جيريمي.
تخيلت المشهد: جيريمي منتفخ الفخر وهو يطلق زئير الأسد على الحيوانات المسكينة في الغابة. يا لها من صورة! ثم التفت إلياس نحوي فجأة بعيون متلألئة وقال:
“على أي حال، شولي، المرة القادمة يجب أن تأتي معنا…”
“قطعا لا!”
قاطعه جيريمي بصوت مدوٍ، حتى أن إلياس أسقط الشوكة، وكادت الخادمات تسكب زجاجة الحليب على مفرش المائدة.
“يا إلهي، لمَ تصرخ فجأة؟!”.
“لأنك تتفوه بكلام فارغ! على أي حال، ممنوع، إنه خطر!”.
“يا إلهي، حتى السيدات الشابات يشاركن في الصيد هذه الأيام، أيها الاحمق!”.
“هذا شيء وهذا شيء آخر!”.
“ما الفرق؟! توقف عن التدخل! أنا سأحميها!”.
“أوه، حقًا؟ أنت الذي قد يصيب نفسه بسهم وهو يحاول التصويب!”.
في الواقع، بدأت السيدات النبيلات، وليس فقط الشابات، في الانضمام إلى رحلات الصيد، لكنهن غالبًا كن يشاهدن الرجال وهم يصطادون ثم يستمتعن بالمأدبة. لكن هذا لم يكن شائعًا بعد. وأنا، امرأة فقدت زوجها مؤخرًا، لم أكن مستعدة لذلك.
“حسنًا، عندما تكبران قليلاً، ربما أنضم إليكما”.
تحولت تعابير وجهيهما إلى صدمة مضحكة. كيف كان شعوركما؟ لا يزال أمامكما الكثير لتحمياني!
*****
حاولت أن أتجاهل الأمر معتبرةً أنني بالتأكيد قد بالغت في ردة فعلي، لكن على عكس ما كنت أظن، يبدو أن الأمير الإمبراطوري تيوبالد لم يكن قد ارتكب زلة لسان في ذلك اليوم. وإلا، فلماذا يأتي إليّ في هذا اليوم المشمس الجميل بعد الظهر، جالسًا بمثل هذا التوتر الشديد على وجهه؟
كانت نوافذ غرفة الاستقبال مغلقة بإحكام، وقد تكوّن عليها بخار أبيض. كان هذا هو الوقت الذي تتفتح فيه زهرة الأماريليس، التي تُعرف بالتقويم الحي، بكامل بهائها، وهو الوقت الذي يبدأ فيه الجميع بالتطلع إلى عيد الميلاد القادم.
لم يفتح تيوبالد فمه بتردد إلا بعد أن انسحبت الخادمات اللواتي قدمن الشاي الدافئ والحلويات بالكامل.
“سيدة نوشفانستاين، أرجو أن تسامحيني على وقاحتي السابقة. أعني، أنا أعلم جيدًا كم تعانين الآن من مضايقات العديد من… الأشخاص. لم يكن في نيتي أبدًا أن أكون واحدًا منهم.”
كيف يفترض بي أن أرد على مثل هذا الكلام؟
كما قال، كان هناك الكثيرون ممن يحاولون الاقتراب مني، أنا الوصية المؤقتة لعائلة نوشفانستاين. كان هناك أشخاص من مختلف الطبقات والأعمار يتقربون مني بشكل صريح ومباشر. بل إنني اضطررت في الماضي إلى اللجوء إلى خطوة متهورة بتوظيف عشاق بعقود!
بالطبع، الآن أمتلك الخبرة الكافية لصد هؤلاء الأشخاص بمهارة… لقد أمرت روبرت بحرق جميع الرسائل التي تبدو كرسائل حب، ويبدو أن روبرت ينفذ هذه المهمة بحماس بالغ. لكن…
رفع الأمير الإمبراطوري، الذي كان يتحدث بتلعثم وهو مطأطئ رأسه، وجهه أخيرًا. حدّقت عيناه الذهبيتان الناعمتان، رمز العائلة الإمبراطورية، في وجهي بمشاعر غريبة للغاية. كانت نظرة تبدو رقيقة، كأنها ترسم شيئًا ما، لكنها في الوقت ذاته غائبة بعيدًا.
“أنا أيضًا لم أمر بمثل هذا من قبل، فأنا في حيرة من أمري… لكن عندما أراكِ، أتذكر والدتي الراحلة.”
“…ماذا؟”
“أقول الحقيقة. أنتِ… تجعلينني أتذكر والدتي التي لم يعد وجهها واضحًا في ذاكرتي. لذلك، عندما أكون معكِ، أشعر بالحنين والدفء في آن واحد.”
أنا، التي جعلت الأمير الإمبراطوري الجليل يتذكر الإمبراطورة الراحلة، هل ينبغي أن أعتبر هذا شرفًا لعائلتي؟ لا أعرف كيف كانت تبدو الإمبراطورة الراحلة، لكنني أعلم أن الإمبراطورة الحالية إليزابيث تفضل ابن زوجها على ابنها البيولوجي. بالطبع، هذا لا يعني أن المرء يستطيع نسيان والدته تمامًا. كما كان الحال مع أطفالي. تربية أطفال الآخرين ليست بالأمر السهل…
على أي حال، كانت لحظة محرجة للغاية. ها هو النسر الشاب، الذي سيحمل على عاتقه مستقبل الإمبراطورية وخليفة العرش، يجلس أمامي اليوم بعيون صبي وقع في الحب لأول مرة. لماذا أنا، من بين كل تلك الآنسات اللواتي أعددن أنفسهن منذ الطفولة ليصبحن شريكة الأمير الإمبراطوري؟
كنت في حيرة وذهول، لكن في الوقت ذاته، شعرت بقلبي يتحرك بشكل غريب، ربما لأنني لم أواجه مشاعر نقية كهذه منذ زمن طويل.
“إنه لشرف عظيم أن أشبه والدتك، يا صاحب السمو. لكن، كما تعلم، أنا الآن…”
“نعم، لا داعي للتوضيح، أعلم. أدرك جيدًا أن تصرفي المتهور قد يسببب لكِ الحرج. لكنني… لا، أنا لا أنوي إجباركِ على أي شيء. فقط أتمنى أن تعرفي أن ي في هذه اللحظة جاد وصادق بقدر ما أشعر أنني على وشك الموت.”
بالفعل، بدا جادًا إلى درجة الموت. لكن المشكلة ليست في صدق مشاعره من عدمها.
“يا صاحب السمو، من وجهة نظري… أخشى أن أقول إنكم الآن، ربما، تحت تأثير وهم مؤقت. لا أعرف أي جانب أشبه فيه الإمبراطورة الراحلة، لكن الحنين إلى الوالدة والحب بين رجل وامرأة هما أمران مختلفان تمامًا…”
“أنا لست في وهم على الإطلاق!”
يا للهول! كنت معتادةً على رؤيته دائمًا بهدوء ووقار، فكان من المدهش رؤيته ينفعل هكذا. بينما كنت أحدق فيه بعينين متسعتين، بدأ تيوبالد، الذي ربما تفاجأ بنبرته العالية، يفرك زاوية فمه بحرج وكأنه لم يهدر للتو.
“آه، أعتذر.”
“لا بأس، ولكن…”
“ليس الأمر أنني أتصرف هكذا فقط لأنكِ تجعلينني أتذكر والدتي. لم يسبق لقلبي أن خفق بهذا الشكل من أجل شخص ما من قبل. إذا اعتبرتِ مشاعري وهمًا، فهذا يحزنني حقًا.”
كان تيوبالد يتحدث بنبرة حماسية لا تناسبه على الإطلاق.
حسنًا، مهما كان الأمر، فكيف يمكنني أن أعرف الكثير عن الحب بين الرجل والمرأة؟ لم أجرب علاقة حب حقيقية في حياتي!
“حسنًا… أفهم. أعتذر على كلامي الطائش.”
“لا، من الطبيعي أن تري الأمر هكذا… أعني، ليس أنني لست جادًا، لكن أفهم أنكِ قد تشعرين بالحرج والارتباك. ما أريده منكِ فقط هو…”
تنفس تيوبالد بعمق، ثم قبض على يده بقوة وهو يبدو الآن بجدية بالغة، كقائد يستعد للمعركة.
“فقط، إذا ما شعرتِ يومًا بالاستعداد لقبول شخص ما، أتمنى أن تضعيني في أولوياتكِ.”
“أكرر مرة أخرى، لست أجبركِ! فقط أتمنى أن يكن الأمر كذلك.”
هل يدرك هذا الأمير الجليل كم يمكن أن يكون قول “فقط أتمنى” عبئًا على الطرف الآخر؟ من الناحية المنطقية، كيف يمكن لأمير إمبراطوري، سيصبح إمبراطور الإمبراطورية يومًا ما، أن يغازل أرملة مثلي، مهما كانت عائلتي مرموقة؟
بالطبع، لم تكن هناك أمثلة على زواج يتجاوز الفروقات الطبقية في العائلة الإمبراطورية معدومة. حتى الإمبراطورة الراحلة، والدة هذا الأمير الساذج، كانت مجرد آنسة من عائلة بارون عادية عندما تزوجت الإمبراطور. تسبب هذا في جدل كبير، لكن في النها، قال الجميع: “الآن نفهم لماذا وقع الإمبراطور في حبها.” لكنها كانت آنسة، وليست أرملة مثلي.
“يا صاحب السمو، أنا ممتنة حقًا ويشعرني بالشرف المشاعر التي تكنزنها تجاهي الآن، لكنها ستتلاشى قريبًا. إذا التقيت بآنسات أخريات، ستجدها بالتأكيد…”
“لن يحدث ذلك. قلبي ليس خفيفًا إلى هذا الحد.”
“يقال إن المرء قد يعرف أعماق البحر، لكن لا يمكنه توقع ما سيحدث لمشاعره. إذا كانت كلماتك اليوم حقيقية، فأرجوك، حاول النسيان. أنا لست الشخصية القادرة على تحمل الأمير الإمبراطوري.”
من أهم شروط أن تكون شريكة الأمير الإمبراطوري هو أن تكون عذراء خالية من أي شائبة. بل إن هناك كائنًا يُدعى الكاهنة البيضاء تتحقق من عذرية العروس المستقبلية أو الإمبراطورة. إدخال امرأة لها تجربة زواج سابقة إلى مثل هذا المنصب أمر لا يمكن تصوره. لذا، كان علي أن أكون حاسمة.
بدت كلماتي القاطعة وكأنها أحبطت تيوبالد للحظة. بدت عيناه الذهبيتان الطيبتان مطأطئتين بشكل يثير الشفقة، لكن لم يكن هناك خيار آخر. أنا والأمير الإمبراطوري؟ كيف يمكن أن يكون ذلك منطقيًا؟ لماذا تحدث كل هذه الأمور المعقدة التي لم تحدث في الماضي؟
“سأحاول… لكن، أرجوكِ، لا تنسي طلبي الذي قدمته للتو.”
“طلبك؟”
“أن تضعيني في أولوياتك إذا شعرتِ يومًا بالاستعداد لقبول شخص ما. سأبذل قصارى جهدي في كل شيء لأجل ذلك. لذا، أرجوكِ…”
لم يبدُ كذلك، لكنه كان مثابرًا. أن يتوسل إليّ أمير إمبراطوري بعيون مليئة بالعاطفة بهذا الشكل… ما الذي يجعلني أستحق كل هذا؟
“سأفكر في الأمر. لكنها مجرد فكرة فقط.”
عندما أجبت بتأوه، أضاء وجه تيوبالد على الفور. كأن بوابات الجنة قد فُتحت وتدفق نور المجد. أنا فقط قلت إنني سأفكر، فلماذا يفرح بهذا الشكل؟
استعد تيوبالد لمغادرة القصر بوجه أكثر إشراقًا مما كان عليه عندما وصل، لسبب غريب لا أفهمه. كنت أودعه عندما رأيت شعار النسر الأبيض على العربة الإمبراطورية المنتظرة عند المدخل، مما جعلني أدرك مرة أخرى المسافة بيننا. لكن يبدو أن الشاب ذا الشعر الفضي، المفتون بحبه الأول، لم يفكر بهذه الطريقة.
“أعتذر عن الإزعاج اليوم. آمل أن نلتقي كثيرًا في المستقبل. سأكون حذرًا للغاية، لذا أرجوكِ، لا تتجنبينني خوفًا من أي عبء.”
“…حسنًا. اعتنِ بنفسك في طريق العودة.”
“هاها، ما الذي قد يشكل خطرًا في الطريق من هنا إلى القصر؟”
بينما كان تيوبالد يجيب بمرح ويتردد في المغادرة، وكأن لديه المزيد ليقوله، وهو ينظر إليّ بنظرات جانبية، دوت فجأة أصوات فرساننا الذين يحرسون مدخل القصر بهدوء، بنبرة استجواب.
“ها قد عدتَ مجددًا. ما الذي يجلبك هنا؟”
“لم آتِ لرؤيتك، لذا لا تهتم.”
…من صاحب هذا الصوت الوقح؟ يبدو كشخص أعرفه.
تفاجأت عندما رأيت فتى بشعر أسود شائك يصعد السلالم بخطوات واثقة. لم يُعلمنا بقدومه، ومن مظهره، لا يبدو أنه جاء بعربة. علاوة على ذلك، كانت هالته مظلمة بشكل غير معتاد، ووجهه يحمل تعبيرًا مقلقًا، كما لو كان مريضًا أو حدث له شيء سيء.
“نورا؟”
نادى تيوبالد، الذي بدا مرتبكًا مثلي، على اسم ابن عمه وهو يميل رأسه. في تلك اللحظة، رفع نورا، الذي كان قد صعد نصف السلالم، رأسه لينظر إلينا ونحن نقف جنبًا إلى جنب. رمش بعينيه الزرقاوين باستغراب، ثم برقتا فجأة بنظرة شرسة!
“ما هذا؟ ماذا يفعل سموك هنا؟ يبدو أن منصب الأمير الإمبراطوري مريح للغاية!”
“أنا… لا، بل أنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“هل يجب أن أفصح عن كل أموري الشخصية لسموك؟”
“لم أقصد ذلك، أيها الأخ العزيز المتعنت. لماذا أنت هنا…؟”
“شولي، ماذا تفعلين؟ أنا جائع! أوه، متى وصل سموك؟”
مع ظهور جيريمي، الذي جاء ركضًا وهو غارق في العرق ويحمل سيفًا، بدأ تيوبالد، الذي كان يتحدث إلى ابن عمه الذي يكرهه، يرمش بعينيه بحرج. نظر جيريمي إلى تيوبالد بنظرة غامضة، ثم حول بصره. لأكون دقيقة، نظر إلى عدوه اللدود الواقف في منتصف السلالم البيضاء المصنوعة من الجرانيت والممتدة إلى الحديقة.
“ما هذا؟ لماذا تبعتنا؟”
ساد الصمت للحظة. بينما فات ثيوبالد توقيت الاعتراف بأنه لم يصل للتو بل كان على وشك المغادرة، نظر جيريمي باستغراب بين ثيوبالد وعدوه اللدود، ثم أدار السيف في يده وسأل بنبرة حادة.
“لماذا أنت هنا أيضًا؟ سموك، ألم تكونا غير مقربين؟ كيف انتهى بكما الأمر معًا؟”
“لا، الأمر، حسنًا، إنه معقد بعض الشيء…”
مهما كان التفسير الذي كان ثيوبالد، النسر الشاب الجليل، على وشك تقديمه بمظهر محرج، فقد قُطع بوقاحة عندما قال الذئب الصغير (نورا)، الذي كان يحدق بنا نحن الثلاثة بالتناوب، فجأة للأسد الصغير (جيريمي):
“يا له من وغد…”
“ماذا؟ هذا الوغد يأتي إلى منزل الآخرين ويبدأ بالاستفزاز؟ هل نشأتَ محرومًا من اهتمام والديك؟”
“جيريمي!”
لم أتمالك نفسي، فرفعت صوتي بشدة. توقف جيريمي، الذي كان يزمجر بنية ضرب عدوه اللدود بسيفه التدريبي، ونظر إليّ بعينين متسعتين، ثم بدا وكأنه مصدوم.
“يا إلهي… أيها الوغد، بسببك أمي تغضب مني، أيها المدمر للأسر! كيف ستتحمل مسؤولية هذا؟!”
لم يرد نورا على صراخ جيريمي المحرج. استدار الأمير المتعجرف فجأة وغادر البوابة الرئيسية دون النظر إلى الخلف. بدا ظهره مقلقًا بطريقة ما وأنا أحدق فيه، بينما عبس ابني الأكبر وهو يهز لسانه.
“ما هذا؟ يهرب مجددًا؟ لماذا هذا الرجل واثق جدًا؟”
“هه، شولي، هل أنتِ غاضبة؟”
“…لا.”
تنهدت وأجبت، فبدأ جيريمي يفرك شعره الذهبي ويتفحص تعابير وجهي بحذر، ثم ابتسم فجأة كما لو كان ينتظر هذه اللحظة.
يا للذكاء! حقًا، يا له من شاب ماكر.
“أنا جائع حقًا.”
إذا كنت جائعًا، فاذهب وازعج الطهاة أو الخدم، لماذا تتشبث بي؟ يبدو أنه لا يستطيع الراحة إلا إذا أزعجني ولو للحظة.
“هيا بنا لتناول بعض الحلويات. سموك، هل ستشاركنا؟”
“ماذا؟ آه، بالطبع، هذا جيد. هاها!”
“لكن، سموك، ما الذي جاء بك حقًا؟ لم أكن أعلم أنك ستأتي اليوم.”
“هاها، بالطبع… جئت لأتسكع معك.”
“ألا تمل؟ لو رآك أحدهم، لظن أنك واقع في حب أحد من عائلتنا وتأتي باستمرار.”
“…كح كح!”
كدت أنسى. هذا الابن الأكبر الساذج يتمتع بحدس حاد بشكل غير متوقع. كان تيوبالد، الذي كان يحتسي الشاي الذي شرب منه عدة أكواب بالفعل، قد اختنق على الفور. يبدو أنه ليس جيدًا في الكذب على الإطلاق.
“جيريمي، يا له من كلام سخيف…”
“كلام سخيف؟!”
يبدو أن الأمير الطيب لا يدرك أن نفيه الشديد يجعل الأمر يبدو أكثر غرابة. توقف جيريمي، الذي كان يضع قطعة حلوى في فمه، ونظر إليه بشك بينما يضيق عينيه، ثم نهض فجأة وهو يصرخ. كانت ردة فعل غير متوقعة من شخص يحب مضايقتي في كل فرصة.
“ماذا؟! ما الخطب مع شولي؟!”
“كح، لا، أعني، لم أقصد ذلك، سؤالك كان مفاجئًا جدًا!”
“إذا لم يكن كذلك، فلماذا تنفعل هكذا؟! يا للسخافة، أنا مصدوم! المشكلة أن هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يعرفون حدودهم!”
ربما لا يوجد سوى جيريمي من يستطيع التحدث بهذا الشكل إلى ثاني أقوى شخصية في الإمبراطورية.
…جيريمي ونورا فقط.
بالمناسبة، ما الذي جاء بنورا ثم غادر هكذا؟ بدا وكأن هناك شيئًا سيئًا قد حدث، وأشعر بالقلق لأنني تركته يذهب هكذا.
*****
“… ما هذا الهراء عن تقليص ميزانية مأدبة عيد الميلاد؟”
“هذا الموقف الرسمي للفاتيكان. من الأفضل تقليص ميزانية المآدب الفاخرة وتوجيه الأموال لإغاثة العامة…”
“مهما كان الأمر مقدسًا، كيف يمكن لجلالة الإمبراطور، الذي يرعى المأدبة بنفسه، أن يقبل بتقليص ميزانيتها؟”
“كما يعلم الجميع، ألم تُسبب المجاعة غير المتوقعة هذا العام صدعًا كبيرًا؟ في وقت تكون فيه القلوب مضطربة، إذا أقمنا احتفالًا فخمًا كما في العام الماضي، فإن ردود فعل العامة لن تكون هينة.”
“بعبارة أخرى، تريدون تحميل دور الأشرار للعائلة الإمبراطورية والنبلاء، بينما تتظاهر الكنيسة بأنها الوحيدة التي تهتم بالشعب، أليس كذلك؟”
“كلامك مبالغ فيه، يا دوق هاينريش.”
“هيا، هدوء من فضلكم. ألا رأي لكِ في هذا الأمر، يا سيدة نوشفانستاين؟”
تدخل دوق نورنبيرج بنبرة ودودة لكنها آمرة، مانحًا إياي حق الكلام، مما جعل النبلاء الذين كانوا يعبرون عن استيائهم بحماس، والكرادلة الذين كانوا يردون بنبرة رسمية، يلتفتون جميعًا نحوي. تحت وطأة اثنتي عشرة زوجًا من العيون التي تحمل معظمها نظرة ازدراء واضحة، ابتلعت تنهيدة داخلية وابتسمت ظاهريًا قبل أن أفتح فمي.
“موقف الكنيسة ليس بلا سبب. فهي المكان الذي يجب أن يكون محور إيمان جميع الناس بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية. يجب تجنب أي شيء قد يثير غضب الشعب تجاه الكنيسة، حتى لو اندلعت شكاوى.”
“لكن، يا سيدتي، هل تعنين…”
“ستتكفل عائلة نوشفانستاين بميزانية مأدبة عيد الميلاد هذا العام، بشرط أن تستخدم الكنيسة الأموال المتبقية في أنشطة الإغاثة.”
في الماضي، أدت الخلافات حول هذه المسألة إلى قرار نهائي بالإبقاء على نفس الميزانية كما في العام السابق.
وكانت نتيجة ذلك تراكم السخط الذي انفجر في أحداث صوت الشعب في أوائل عام 1116. تم قمع الاضطرابات بسرعة نسبية، لكن معظم النبلاء في العاصمة لم يجرؤوا على مغادرة منازلهم لفترة. حتى مع وجود فرسان مرافقين، لم يكن هناك نبيل قادر على تحمل رجم الحجارة والشتائم والبيض الفاسد الذي ينهال من كل صوب. أعتقد أنه حتى لو تم الاتفاق بالأغلبية على تقليص الميزانية، كانت الاضطرابات ستحدث على أي حال.
أنشطة إغاثة؟ أي هراء! خلال موسم أعياد الميلاد الذي يستمر حتى نهاية العام، كان رجال الدين هم الأكثر فسادًا. حتى في هذه اللحظة الحامية في قاعة البرلمان، كان الكاردينال ريتشليو يحافظ على صمته المعتاد ويراقبني بنظراته الغامضة. أتساءل عما إذا كان هو نفسه متورطًا في هذا الأمر.
على أي حال، كان اقتراحي جريئًا إلى حد ما. حتى عائلة نوشفانستاين لم تتطوع من قبل لتحمل مثل هذه النفقات الإضافية بمفردها. سيتمكن كل من العائلة الإمبراطورية والكنيسة من تجنب النفقات غير المتوقعة، لكنهما سيتحملا عبئًا نفسيًا مقابل ذلك. هل يختارون الفائدة العملية أم الحفاظ على ماء الوجه؟ هذه هي المسألة.
من وجهة نظري الشخصية، لم يكن هناك أي خسارة. مثل هذه النفقات لم تكن لتعني شيئًا بالنسبة لي. علاوة على ذلك، بدعمي لموقف الكنيسة المتعلق بالإغاثة، يمكن القول إنني حافظت على ماء الوجه أيضًا. أليس هذا ما يسمونه بسلطة المال؟ في الماضي، لماذا لم أفكر في استغلال هذه الثروة الهائلة بهذه الطريقة؟
في تلك اللحظة، تحدث الماركيز شفايك، الذي كان يرمقني بنظرات استياء، مبتسمًا بخفة.
“اقتراح جريء حقًا، يا سيدتي. لم يكن بإمكان الماركيز الراحل حتى أن يتخيل مثل هذا الاقتراح.”
“يبدو أن الماركيز شفايك يريد أن يعبر عن انطباعه بأنني، على عكس زوجي، لا أتردد كثيرًا في الإنفاق.”
بدأت أصوات السعال المتظاهر تنتشر هنا وهناك. لقد سئمت منذ زمن من المبارزات اللفظية الملتوية التي تلمح وتطعن بطريقة غير مباشرة، لذا رددت بنبرة مباشرة. وكما توقعت، بدأ قناع اللباقة على وجه الماركيز شفايك يهتز قليلًا. بالطبع، قناعه الاجتماعي، الذي صيغ بعناية منذ الطفولة، لم يكن لينهار بسهولة، لكن حقيقة أن الطرف الآخر امرأة شابة مثلي جعلت رد فعله سريعًا. شعروا أن امتيازاتهم الأعز، التي يقدسونها، قد انتهكت بسبب وجودي، وكان جلوسي معهم بحد ذاته إهانة كافية.
“كلامك مبالغ فيه. كنت أعبر عن قلقي فقط، فأرجوكِ تجنبي التفسيرات المفرطة. يبدو أنكِ في فترة حساسة…”
“إذا كنتَ قلقًا حقًا، يمكن لعائلة شفايك أن تظهر كرمها بتحمل جزء من الميزانية. ستقوم نوشفانستاين بتغطية ثمانين بالمئة، وأطلب من شفايك تغطية الباقي.”
أصدر الماركيز شفايك سعالًا مترددًا، كما لو كان لديه الكثير ليقوله. بتحمله فجأة جزءًا كبيرًا من الميزانية، كان الأمر مزعجًا له، لكن بما أنني تقدمت أولًا لتحمل ثمانين بالمئة، فإن الاعتراض سيجعل ماء وجهه في الحضيض.
دوق نورنبيرج، الذي كان يراقبني بابتسامة غامضة، أومأ أخيرًا برأسه وتدخل للتوفيق.
“حسنًا. يا ماركيز شفايك، دعونا نكتفي بهذا القدر من المعاملة بالمثل. إذن، سنعتبر أن عائلة نوشفانستاين ستتحمل ثمانين بالمئة من ميزانية مأدبة عيد الميلاد. الأسد الذهبي لن يجد صعوبة في شراء هدايا الأطفال بهذا المبلغ. أما الكنيسة، فأرجو منها الكشف عن تفاصيل أنشطة الإغاثة المذكورة بحلول اليوم الأول من العام الجديد. تنتهي هذه المناقشة هنا.”
بينما كنت أبتسم للدوق الذي بدا لطيفًا لسبب لا أعرفه، استمر الكاردينال ريتشليو، الملقب بجرس الصمت، في توجيه نظراته الغامضة نحوي. في الماضي، كنت أعتبر أن نظراته تعبر عن استياء محض ولم أكترث، لكن تجربتها الآن جعلتني أشعر بثقل كبير. متى سيعبر هذا الرجل عن استيائه بصراحة؟ يبدو أن الجميع يتوق للنيل مني…
انتهى البرلمان، وتبادل الجميع التحيات وغادروا واحدًا تلو الآخر. بقيت وحدي قليلًا، ليس عن قصد، بل لأنني كنت أفكر. كنت أتأمل في اعتراف الأمير تيوبالد المفاجئ، وكيف يمكنني جعل عيد الميلاد هذا أكثر تميزًا. ماذا عن هدايا الأطفال؟ جيريمي بالتأكيد سيفضل سيفًا، لكن هل يجب أن أشتري سيفًا لإلياس أيضًا؟ إذا أعطيتهما نفس الهدية، ستنشب معركة. لحسن الحظ، كتب التوأمان بالفعل قائمة هداياهما. بما أن هذا أول احتفال مع الأطفال منذ عودتي إلى الماضي، أتمنى أن يكون هناك شيء مميز…
بينما كنت غارقة في التفكير في الأطفال، نسيت تمامًا اعتراف ثيوبالد. وأثناء عبوري الرواق الهادئ، فاجأني شخص غير متوقع.
كأنه كان ينتظرني، ظهر كاردينال شاب فجأة وواجهني، مما كاد يجعلني أصرخ.
“سيادة الكاردينال…؟”
“أفزعتني. ما الأمر؟”
ساد صمت قاتم ومقلق للحظات. الكاردينال ريتشليو، الملقب بجرس الصمت، الذي كان يتفحص وجهي بعينيه السوداوين، فتح فمه أخيرًا، وتردد صوته المنخفض الغريب.
“سمعت أن زيارات سمو الأمير أصبحت متكررة مؤخرًا.”
“… إنه قريب من ابني الأكبر. هل هناك مشكلة…؟”
توقعت نوعًا من المواجهة، فرددت بهدوء. للحظة، بدا أن حاجبيه البنيين ارتعشا. لو كان بإمكانه أن يعبر عن استيائه بصراحة، لكان ذلك أفضل. لكن، كما يليق بلقبه، استدار الكاردينال ريتشليو وابتعد عني.
شعرت بالذهول وأنا أراقبه. ما الذي يجعل رجال هذا البلد، بغض النظر عن أعمارهم، يتصرفون بهذا الشكل العشوائي؟ هل أنا الوحيدة التي يعاملونها هكذا؟ لماذا يعاني الجميع من مشاكل عاطفية؟
شعرت وكأنني تأثرت بالجو المظلم والكئيب الذي يفرضه جرس الصمت. لو عدت إلى المنزل بهذا المزاج، قد أنقل هذا الشعور إلى الأطفال الذين يزعجون معلميهم الخصوصيين. لذا، بدلاً من التوجه مباشرة إلى العربة المنتظرة عند مدخل قصر بابنبرج، اتجهت إلى الكنيسة القريبة من قاعة البرلمان. حسنًا، طالما وصلت الأمور إلى هنا، سأصلي من أجل مستقبلي ومستقبل أطفالي.
كانت الكنيسة، بزجاجها الملون العالي، هادئة تمامًا. لا عجب، فمن المفترض ألا يأتي أحد إلى هنا في هذا الوقت.
… أم أن هناك أحدًا؟
في البداية، ظننت أن شخصًا ما يصلي بحماس بعيدًا عن الأنظار، ففكرت في المغادرة بهدوء. لكن الفتى الذي كان راكعًا على الدرج، منبطحًا على المذبح بلا مبالاة، لم يكن يصلي بالتأكيد.
“… نورا؟”
لماذا كان نورا هنا؟ ربما جاء لمقابلة والده، دوق نورنبيرج؟
“هل جئت لمقابلة والدك؟”
ملت رأسي وأنا أسأل، فنظر إلي الفتى ببطء. أضاءت أشعة الشمس المتسللة عبر الزجاج الملون وجهه الناعم، مما جعل شعره الأسود يبدو بنيًا فاتحًا.
“… لم آتِ لمقابلة ذلك الرجل.”
هل كنت أتخيل أن عينيه الزرقاوين الغارقتين في الحزن بدتا رطبتين؟ اقتربت منه بخطوات سريعة دون وعي. تذكرت مظهره المقلق منذ وقت ليس ببعيد، فتسلل القلق إلى قلبي.
“نورا، ما الذي حدث؟ لماذا أنت هنا وحدك؟ هل أنت مريض؟”
لم يجب نورا. مر صمت قصير ومحرج. كم من الوقت مر وهو جالس مطأطئ الرأس، يتنهد من الإرهاق؟ فجأة، بدأت كتفاه ترتجفان بعنف. يا إلهي! شعرت وكأن قلبي توقف للحظة.
في الماضي، لم أكن لأتخيل هذا المشهد. أن يبكي وريث نورنبيرج، السياف الأقوى في الإمبراطورية، منافس جيريمي الوحيد، الذئب الجائع، بهذا الشكل الصبياني أمامي!
“نورا… ما الذي حدث؟ ما الأمر؟”
دائمًا ما يكون بكاء الفتيان محيرًا. مثلما شعرت يومًا ما عندما رأيت جيريمي يبكي مختبئًا، غمرتني الشفقة مع الحيرة حول ما يجب فعله.
أن يبكي فتى قوي كهذا! ما الذي يسبب له هذا؟ سألته بحذر، لكنه لم يجب. الشيء الوحيد المطمئن هو أنه لم يرفض يدي.
جلست على ركبتيّ بجانب الفتى الذي كان يبكي، وربت بحذر على كتفه وظهره. لم أعرف سبب بكائه، لكنني أردت مواساته.
“لا بأس، نورا. كل شيء سيكون على ما يرام…”
سمعت صوت شهيق عميق. رفع الفتى رأسه قليلًا، ونظر إلي بعينين زرقاوين مليئة بالدموع، ثم قال بنبرة مكتومة كمن يكبح غضبه:
“نونا… ما معنى أن يصبح المرء ناضجًا؟”
كيف يمكنني الإجابة على مثل هذا السؤال؟ وما هذا بـ”نونا” فجأة؟ لم أتوقع أن أسمع مثل هذه التسمية العفوية من دوق صغير. بدلاً من الإشارة إلى ذلك، ابتسمت بتكلف.
“حسنًا، لا أعرف حقًا.”
ما الذي يمكنني قوله في مثل هذا الموقف؟ حتى في هذه الحياة التي عدت إليها، أواجه مفاجآت جديدة باستمرار…
ابتلعت كلامي وأخرجت منديلًا، ووضعته بلطف على خده الحار. توقف للحظة، ينظر إليّ بعينيه مباشرة، ثم انزل رأسه مجددًا. فرك عينيه المبللتين بظهر يده، وتنهد بإرهاق.
“لو… كان ذلك الأمير ابن والدي، لكان ذلك أفضل للجميع.”
“سموه؟ لكن أنت…”
“هل تعتقدين ذلك أيضًا…؟ أنني فتى طائش لا أمل له، وكلما فتحت فمي لا أنطق إلا بالأكاذيب؟”
“لا، مطلقًا.”
أجبت بحزم دون تردد. كأنني الوحيدة التي أؤمن بصدقه، نظر نورا إليّ بعينين زرقاوين تحملان تعبيرًا يائسًا.
“لماذا تسأل هكذا…؟”
“… لأن الجميع يقولون ذلك.”
“من يقول هذا؟”
لم يجب نورا. فقط أدار بصره إلى الأرض وتنهد بصوت خشن. لم يكن بإمكاني معرفة التفاصيل، لكنني خمنت شيئًا ما. تذكرت مشهدًا من مأدبة تأبين سابقة، مظهر عائلة نورنبيرج، وأدركت أن شيئًا ما حدث بين نورا ووالده. كان دوق نورنبيرج لطيفًا معي بشكل غريب، لكنه، بصفته شقيق الإمبراطورة الحالية وزعيمًا في المجتمع الأرستقراطي، لم يكن شخصًا ودودًا ومتعاطفًا تمامًا. مع زوجة مريضة وطفل وحيد هو نورا، ليس من الغريب أن يكون صارمًا مع ابنه الوحيد. لكن…
“مهما قال الآخرون، لا أعتقد أنك هكذا.”
“… كيف تكونين متأكدة هكذا وأنت لا تعرفينني جيدًا؟”
شعرت وكأنني أصطدم بجدار. أنا معتادة على هذا النمط المتعجرف من الحديث، لكن…
“أنت أيضًا ساعدتني دون أن تعرفني جيدًا، أليس كذلك؟”
“لذلك أنا أؤمن أنك بالتأكيد فتى طيب.”
“… حسنًا، إذا.”
تمتم بشيء غامض وهو يفرك عينيه بقوة. بينما أراقبه، حاولت تذكر مستقبله الذي أعرفه بتفصيل أكبر. هذا الدوق الصغير سيحصل على وسام الفروسية العام القادم، وسيتنافس مع جيريمي في بطولة السيف في عيد تأسيس الإمبراطورية بعد عامين. و… إذا كانت ذاكرتي صحيحة، انضم إلى شرطة الإمبراطورية السرية، سترايب. كان هناك الكثير من الحديث حول سبب انضمام وريث دوق نورنبيرج العظيم إلى سترايب، وهي وحدة معروفة بقسوتها.
“ها… لم أكن أنوي هذا، لكنني جعلت نفسي أبدو مضحكًا.”
كان يتمتم بصوت مختنق لا يزال يحمل أثر البكاء، يبدو مضحكًا ومثيرًا للشفقة في آن واحد. لكنه استعاد عافيته أسرع مما توقعت، وهذا مطمئن.
“الجميع قد يمر بمثل هذا. أنا أظهرت لك جانبًا مضحكًا مرتين، أليس كذلك؟”
“هذا مختلف تمامًا. أن يبكي رجل دون خجل، لو عرف والدي، لأصيب بالذهول.”
“إنها ميزة أن تتمكن من البكاء هكذا. فيما بعد، ستجد أوقاتًا تريد فيها البكاء لكن الدموع لن تأتي.”
عندما تحدثت بلطف، رمش بعينيه الزرقاوين الرطبتين وراقب وجهي مجددًا. عينان صافيتان تحملان براءة صبيانية. لم يكن هناك أثر بعد لظلال الرجل المظلم والخطير. شعرت ببعض الحرج لأنني تحدثت كعجوز، لكن ما قاله بعد ذلك فاجأني.
“لكنكِ، نونا، تبدين حزينة في كل مرة أراكِ.”
“… ماذا؟”
“حسنًا، ليس لي أن أقول هذا وأنا من كنت أبكي، لكن لماذا تملكين عينين حزينتين، لكن يبدو أن بإمكانكِ رفع رأسكِ أكثر. حتى لو فعلتِ، لا أعتقد أن ذلك سيجعلكِ تبدين سيئة…”
هل كان يحاول الإطراء أم السخرية؟ متى كان يبكي كطفل، وكيف أصبح هؤلاء الأطفال المعاصرون بهذه العفوية؟
“ظننت أنني بدوت وقحة بما فيه الكفاية.”
“لكي تكوني وقحة، يجب أن تصلي إلى مستواي.”
هز كتفيه، وقام بنشاط كأنه لم يكن يبكي للتو، ومد يده. ترددت للحظة، ثم أمسكت يده ووقفت.
“شكرًا لمقابلتي اليوم. تمني لي بعض الحظ.”
“الحظ؟”
“لأنني سأذهب الآن إلى المنزل لمواجهة والدي. إذا عدت حيًا، سأعطي الفضل إليكِ.”
“ما الذي حدث…؟”
“لا شيء كبير، نفس الأمور المعتادة. على أي حال، هذه مشكلتي، وليست مشكلتكِ.”
على الرغم من نبرته التي بدت غير مبالية، لم أستطع منع القلق. هناك حدود للتدخل في شؤون عائلة الآخرين، لكن…
“نورا، هل تتذكر ما قلته لك آخر مرة؟ إذا أردت التحدث إلى أي شخص، يمكنك التواصل معي في أي وقت.”
كان ذلك أقصى ما يمكنني فعله. ورد الدوق الصغير بابتسامة خفيفة فقط.
*****
بعد أيام قليلة من بدء تساقط الثلج الأول، اقتربت مأدبة عيد الميلاد بسرعة.
يوم عيد الميلاد، كان مشهدًا ممتعًا حقًا أن أرى التوأم يفركان عينيهما الناعستين صباحًا، ثم يفتحان عينيهما بدهشة عند رؤية كومة صناديق الهدايا التي ملأت القاعة. هل هذا هو شعور تلقى الأطفال الطيبين للهدايا ليلة عيد الميلاد؟
انظر فقط إلى سلوكهما الذي يبدو وكأنهما مصممان على إفساد مزاج أخويهما الصغيرين منذ الصباح. لا أثر لروح عيد الميلاد فيهما!
“واو، أخي، انظر إلى هذا! يبدو أن امي عرفت أنني طفل طيب!”
“من قال إنك طيب؟”
“ما الذي يجعلها قديمة؟ أنتما تغاران لأنكما لستما طيبين ولم تحصلا على هدايا!”
“من الذي يغار؟ ولديّ هدية أيضًا!.”
“أمي، أخواي يغاران من الهدايا التي تلقيناها منك!”
وضعت يديّ على خصري وحدقت في ولديّ المشاغبين. يا لهما من مزعجين!
“جيريمي، إلياس، إذا لم ترغبا في خسارة هدايا عيد الميلاد، كونا طيبين قليلًا.”
“بالضبط! إذا أصبحت غبيًا مثلهما تمامًا، فلن أتمنى شيئًا أكثر من ذلك!”
عندما صاح التوأم بغضب، تبادل جيريمي، الذي كان يضحك بسخرية، وإلياس، الذي كان يوبخ التوأم، نظرات مذهولة. ثم بدآ، بتكلف واضح، يخمشا رأسيهما ويساعدان أخويهما الصغيرين في فتح هداياهما. يا لهم من أولاد مضحكين!
“أخي الكبير، أليس هذا لك؟”
“ماذا…؟ ما هذا؟!”
وما عساه يكون؟ إنه سيف مصنوع خصيصًا لابني الأكبر، مهووس السيف الذي سيصبح أسطورة في المستقبل. سيف طويل من صنع لانجنيس النادر. بشفرة بيضاء ناصعة، ومقبض مزين بالذهب والياقوت، وقراب مرصع بالزمرد والياقوت اللامع. لقد أذهل رئيس الخدم المخلص، روبرت، حجم الميزانية التي أنفقتها للحصول عليه.
أمسك جيريمي السيف بحركة ماهرة، يتفحص الشفرة البيضاء المتلألئة بعناية، ثم نظر إليّ بوجه شبه مذهول، وهو أمر لا يشبهه على الإطلاق. كاد الضحك يفلت مني وهو يتلعثم.
“آه… حسنًا، أعني… شكرًا…”
كان هناك هدية منفصلة لإلياس، الذي تلقى ضربة من أخيه بسبب تهكمه. تذكرت أن ابني الثاني، رغم كونه محاربًا مثل أخيه، كان موهوبًا أكثر في مجال آخر، فاخترت له قوسًا نبالًا مخصصًا، مزودًا بسهام فضية. مع هذا، سيتمكن من منافسة أخيه في صيد الثعالب مستقبلًا.
“هاهاها! تعال واجهاني، أيها الأخ الغبي! المبارزة الحقيقية تعتمد على الهجوم من مسافة بعيدة!”
“لا تطلق النار على وجهك بحماستك، أيها الأخ الأحمق. الرجل الحقيقي يقاتل بالسيف! شولي، هل يمكنني أخذ هذا إلى المأدبة؟”
“أنا أيضًا!”
بينما كان ولداي يتصرفان بتلك السخافة، تجاهلتهما ووجهت انتباهي إلى التوأم اللطيفين.
على عكس أخويهما العضليين، كان ليون الصغير، الذي أظهر منذ الصغر ميولًا فكرية، يعانق تلسكوبه الجديد وموسوعته المرغوبة بسعادة غامرة. أما ريتشل، فقد كانت تقيم عرض أزياء أمام المرآة بأحذية اخترتها لها بعناية. كانت ريتشل دائمًا تهوى الأحذية. كانت تفضل ارتداء فستان قديم على الخروج دون حذاء جديد.
على أي حال، قد يكون عيد الميلاد ممتعًا للأطفال، لكنه مكلف جدًا. لم يقتصر الأمر على هدايا الأطفال، بل شملت هدايا الخدم والفرسان، بالإضافة إلى الهدايا التي يجب إرسالها إلى الكنيسة والقصر الإمبراطوري. ناهيك عن ميزانية مأدبة عيد الميلاد التي ستُقام اليوم، والملابس والمجوهرات التي يجب تحضيرها. لحسن الحظ، كانت ثروة عائلتنا وفيرة. حقًا، المال يحل كل شيء.
ثم حدث شيء مذهل. بينما كانت ابنتي الصغيرة تتباهى بحذائها الحريري الرقيق، اقتربت مني فجأة، وأخرجت شيئًا من جيب ردائها.
فقدت النطق للحظة. حدقت بدهشة، أتفقد ما إذا كان بقية الأولاد متورطين في هذا. ومما زاد دهشتي، كان لدى أبنائي جميعًا تعبيرات متكلفة تؤكد ذلك! هذا حقًا شيء مذهل.
في يد ريتشل الصغيرة كان منديلًا مطرزًا بطريقة غير متقنة. على المنديل الأخضر الفاتح، كانت مطرزة أربعة أشبال أسد وأرنب واحد يتعايشون بسلام.
… كل شيء جميل، لكن لماذا أنا الأرنب؟
“شكرًا… يا ريتشل. إنه منديل رائع حقًا.”
“أخوتي أخبروا ماذا أطرز، وليون اختار ألوان الخيوط. كل ما فعلته هو التطريز.”
بمعنى آخر، هي من قامت بكل شيء. بينما كنت أبتسم بمعرفة، ألقت ريتشل نظرة متفاخرة، تنظر إلى إخوتها الثلاثة غير المفيدين بالتناوب. لو رأى زوجي الراحل هذا المشهد، لكان تعبيره يستحق المشاهدة.
*****
أقيمت مأدبة القصر الإمبراطوري، التي تكفلت عائلتا نوشفانستاين وشفايك بتمويلها، بفخامة تفوقت كثيرًا على ما كنت أتذكره. ربما أرادوا إظهار التقدير للعائلتين اللتين تطوعتا بالتمويل، أو ربما كان هناك سبب آخر، لكن شجرة الصنوبر الشاهقة التي تزينت بجواهر متلألئة تحت سقف بثريات خماسية الطبقات بدت وكأن إحدى جواهرها وحدها كافية لتمويل إغاثة الفقراء لعام كامل.
عند مدخل قصر الكريستال، حيث أُقيمت المأدبة، كان هناك منصة صغيرة للعبة السهام. كانت اللعبة تتضمن إصابة مركز هدف مطاطي مرسوم عليه دوامة بسهم خشبي، ليفوز اللاعب بجائزة مغلفة بورق براق.
بينما كان الواصلون مبكرًا يلعبون السهام أو يتبادلون الأحاديث، كان أول من حياني بعد وصولي مع أطفالي هو الكونت مولر.
… أجل، ذلك الرجل، الأخ الأكبر لزوجي.
“لم نلتق منذ زمن، يا سيدة نوشفانستاين.”
حقًا. وبما أن مأدبة عيد الميلاد تجمع معظم نبلاء العاصمة، فكان من المتوقع أن أصادف أشخاصًا من الفروع الجانبية للعائلة. لذا، ابتسمت متعمدة وأجبت:
“نعم، مر وقت طويل.”
“كح، هـم، هل يمكننا التحدث قليلًا؟ لن يستغرق الأمر طويلًا.”
ألقيت نظرة سريعة عبر كتفي نحو الأطفال الذين هرعوا نحو تمثال ينبع منه المشروبات، ثم أومأت برأسي. قادني الكونت مولر إلى مكان قريب من منصة لعبة السهام، حيث كان الشباب والشابات يضحكون ويستمتعون، وبدأ حديثه بنبرة منخفضة وماكرة.
“سيدتي، سمعت عن ذلك الحادث المؤسف السابق. كنت أنوي زيارتكم للاعتذار مبكرًا، لكن الظروف لم تسمح…”
“حسنًا، إذا كان الأمر يتعلق بالاعتذار، فعلى الأطراف المعنية تقديمه بأنفسهم.”
شعر بلسعة نبرتي الحادة، فتضيقت عيناه الخضراوان للحظة. لماذا يملك هؤلاء نفس عيون أطفالي تمامًا؟ مهما كانت صلة الدم، لم يعجبني الأمر.
“إذا رغبتِ، سآمر أولئك الشباب بالاعتذار.”
“لا أتوق إلى اعتذار غير صادق.”
“سيدتي، أعلم جيدًا ما تفكرينه فينا، لكن…”
“أنت مخطئ، يا كونت. أنا لا أفكر فيكم أصلًا، فلا داعي للتخمين. ما الذي تريده؟”
في عيون الآخرين، كنا مجرد زوجة أخ وسلف يتبادلان التحيات في موقف عائلي معقد. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا.
توقعت سرًا أن يفقد الكونت مولر أعصابه ويظهر مزاج عائلة نوشفانستاين الناري مثل أشقائه، لكنه، بشكل مفاجئ، أظهر ضبط نفس كبير.
بمعايير نوشفانستاين، بالطبع. لمعَت عيناه الخضراوان الداكنتان، الشبيهتان بعيني يوهانس، للحظة، ثم استعادا برودتهما الرسمية بسرعة.
“حسنًا، سيدتي. بما أن الأمور وصلت إلى هنا، دعينا نتحدث بصراحة…”
صرخ العديد من الأشخاص في آن واحد. كدت أنا أيضًا أصرخ، مما يوضح كل شيء.
كان السبب أن سهمًا فضيًا، وليس سهمًا خشبيًا للهدف، مر بسرعة بالقرب منا، بل تحديدًا أزيزًا بجانب أذن الكونت مولر، ليستقر في جدار الداماسك!
“لقد أخطأت. كنت أنوي التباهي بإصابة الهدف، لكن…”
كانت لحظة اضطراب قصيرة. بدأت الضحكات المرحة من شخص ما، وسرعان ما عاد المكان إلى صخبه. رمشت بعينيّ وأدرت رأسي. فعل الكونت مولر، الذي بدا متجمدًا للحظة، الشيء نفسه. هل كان خطأي أن تركته يحضر قوسه بعد إصراره؟ في مجال رؤيتي المذهولة، ظهر جيريمي، ممسكًا بقوس أخيه.
“مر وقت طويل، يا عمي. يبدو أنك أصبحت أكبر سنًا. لكن لماذا هذا التعبير؟”
حدق الكونت مولر في ابن أخيه، عاجزًا عن الكلام. في المقابل، كان جيريمي يبتسم بثقة مبالغة، ابتسامة بدت غريبة بالنسبة لي.
“آه، يبدو أنك فوجئت كثيرًا. لا تعكر مزاجك. هل تعتقد أنني كنت سأصيب عمي العزيز عن قصد؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 22 - [ القصة الجانبية السادسة و الأخيرة ] فرقة البحث عن الخاتم والعروس الذهبية [ الخاتمة ] 2025-08-24
- 21 - القصة الجانبية الخامسة [فوضى يوم ربيعي] 2025-08-22
- 20 - [ القصة الجانبية الرابعة ] فصل خاص ب عيد الاب 2025-08-21
- 19 - [ الفصل الجانبي الثالث ] فوضى عيد الميلاد 2025-08-21
- 18 - [ القصة الجانبي الثاني ] كان يا ما كان 2025-08-21
- 17 - [ القصة الجانبية الأولى ] شهر العسل 2025-08-21
- 16 - النهاية [نهاية القصة الأساسية] 2025-08-20
- 15 - موسم الحصاد 2025-08-20
- 14 - غروب الشمس، شروق الشمس 2025-08-20
- 13 - ضوء الشمس وضوء القمر 2025-08-20
- 12 - افتتاح 2025-08-20
- 11 - الفتيل 2025-08-20
- 10 - رياح اللإصلاح 2025-06-23
- 9 - 9- الخطيئة الأصلية 2025-06-23
- 8 - كذب لاجلك 2025-06-23
- 7 - ذلك الصيف (2) 2025-06-23
- 6 - 6- ذلك الصيف (1) 2025-06-23
- 5 - الرحلة العائلية الأولى 2025-06-23
- 4 - أًم 2025-06-23
- 3 - حلم الشتاء (2) 2025-06-23
- 2 - حلم الشتاء (1) 2025-06-23
- 1 - إعادة البدء محض هراء 2025-06-23
- 0 - المقدمة زوجة أب معيَنة 2025-06-23
التعليقات لهذا الفصل " 3"