“هناك وثائق يجب استلامها بشكلٍ عاجل بسبب مسألة الحرب الأهليّة، وهي بحوزة أوليفيا. يجب التحقّق منها فورًا، فابحث عن مكانها وقدّم تقريرًا سريعًا.”
تنفّس فيليكس بعمق قبل أن يتقدّم. فبهذه الطّريقة سيبدو الأمر وكأنّ سيّده قد جاء ليلًا بحثًا عن امرأةٍ مخطوبة لغيره.
“صحيح. قد تزيد الحرب الأهليّة سوءًا فقط لأنّنا لا نملك تلك الوثائق في الوقت المناسب!”
وعندما أضاف إيدموند كلامه بملامح أكثر جديّة، خنق الجنديّ صوته بكلتا يديه.
“مـ … ماذا نفعل؟ آنسة أوليفيا قالت إنّها ستدخل إلى القصر صباح الغد …”
“ماذا؟ ألم أقل لك أن تُجهّز أمتعتها وتأتي بها إلى هنا اليوم؟”
سأل فيليكس باندهاش.
“نـ … نعم، هذا صحيح، لكن … آنسة أوليفيا قالت إنّ الكاهنَ أتى لأخذها على أيّ حال، وإنّي أُزعجها، وطلبت منّي أن أعود … هل أذهب بسرعة إلى المعبد وأُحضِر الوثائق؟”
نظر فيليكس إلى الجنديّ الّذي كان يقف متوتّرًا ثم نظر بطرف عينه نحو إيدموند. لا بدّ أنّ مخطّط إيدموند الكبير الّذي سمّاه “دقّات القلب، استعادة فؤادها من جديد” قد فشل فشلًا ذريعًا.
“يكفي، عُد الآن. ومن اليوم فصاعدًا، لا تُبلّغنا بأنّ المهمة انتهت إلّا إذا كنتَ قد أتممتَها للنّهاية.”
“حاضر!”
وبعد أن عاد الجنديّ منكّسًا كتفيه، التفت فيليكس إلى إيدموند.
“سموّك، ماذا نفعل الآن؟ هل نُرسل عربةً لإحضارها؟”
“لا داعي. لا بدّ أنّها تستريح الآن …”
لكن إيدموند، رغم قوله هذا، ركل الأرض بخفّة كمن يشعر بالأسف لشيءٍ ما.
“كيف تسير الأمور مع غالرهيد؟”
“لقد نفّذنا تمامًا ما أمرتَ به، يا سموّك.”
أمال فيليكس رأسه قليلًا.
“لكن لماذا وسّعت مقرّ الطبيب إلى هذا الحد؟ وفوق ذلك، بجوار منطقة أومفا مباشرة.”
“لقد قلتُ لك من قبل. سأجعله شديد الانشغال.”
قال إيدموند رافعًا زاوية شفتيه.
“ألا يوجد في العاصمة الآن سوى مستشفى واحد فقط؟”
“المستشفى العام الّذي أُنشئ وفق اقتراح أوليفيا في مشروع الرعاية الطبّية الماضي؟”
“صحيح. وجميع العيادات الصغيرة أغلقت أبوابها. فما الّذي سيحدث برأيك؟ فوضى كاملة. سمعتُ أنّه ما لم يكن المريض على شفا الموت فلن يحصل حتّى على مطهّر.”
ورغم إرسال الأطبّاء الإمبراطوريّين للمساعدة دوريًّا، إلّا أنّ الإمداد كان غير كافٍ على نحوٍ يبعث على السخرية.
عشرات وربما مئات المرضى يتدفّقون يوميًّا، مصابين بإصاباتٍ بسيطة وكبيرة على حدّ سواء.
“لا تُخبرني أنّك تريد أن يتولّى غالرهيد علاج مواطني الإمبراطوريّة أيضًا! أحقًّا سيقبل بذلك؟ غالرهيد أيضًا أجنبي.”
هزّ فيليكس رأسه بقوّة بعدما أنهى كلامه.
“غالرهيد قد يفعل ذلك، صحيح. لكن ألا تعتقد أنّ الأجانب سيُهاجمونه؟ سيتّهمونه بالخيانة بلا شك.”
“لقد مرّوا بالتّجربة ذاتها قبل خمس عشرة سنة. كما أنّ غالرهيد قال بنفسه إنّه، رغم رغبتهم في تلقّي العلاج، لم يكن هناك أيّ طبيبٍ من الأجانب يعالج مواطني الإمبراطوريّة آنذاك. لذا سيتفهّمون الأمر.”
رفع إيدموند رأسه.
كان الدّخان الّذي خلّفته النّيران الّتي اشتعلت في أماكن متعدّدة طوال النّهار يحجب الضّوء عن النّجوم.
“ثمّ إنّ أوليفيا كانت ستقول إنّه قرار ممتاز. فالناس سيتلقّون العلاج عند طبيبٍ أجنبي، وقد يُحسّن هذا العلاقة بين الطرفين ولو قليلًا.”
كانت مجرّد آمال صغيرة، لكن إيدموند توقّع ردودًا إيجابيّة مهما كانت ضئيلة. فكما لا تُقصَف المستشفيات أثناء الحرب، فربما سيرفض بعض مواطني الإمبراطوريّة العلاج عند طبيبٍ أجنبي، ولكن ربما، فقط ربما، قد يُفكّر بعضهم بطريقة مختلفة.
“آمل أن يكون الأمر كما تتمنّى يا سموّك.”
ومع كلمات فيليكس الأخيرة، عاد إيدموند إلى قصره.
***
وفي صباح اليوم التّالي، وبينما كانت إيكلا تُغرّد شاكرةً، لم تتفوّه أوليفيا بكلمة واحدة.
وكلّ ما فعلته هو تقديم تقريرٍ هادئ عمّا حدث ليل أمس من أحداثٍ إضافيّة.
غابت الشّمس مع تزايد التوتّر في قلبه.
“وأوليفيا؟”
أجاب فاكيل فورًا على سؤال إيدموند.
“إنّها في الداخل. دخلت قبل ساعة، وراقبنا هذا المكان طوال الوقت، ولم تخرج إطلاقًا!”
كان من الطبيعي ألّا تخرج ما دام كلّ شيء يُحلّ من داخل الغرفة.
أومأ إيدموند برضا، ووقف أمام الباب بملابس اعتنى بتنسيقها أكثر من الأمس.
طرق—
“… مَن هناك؟”
وصل إليه صوتٌ صافٍ. خفق قلب إيدموند بعنف.
لكن يبدو أنّ الباب السّميك جعل صوت أوليفيا يبدو مختلفًا قليلًا عن المعتاد.
وقبل أن يُدرك غرابة الأمر، انفتح الباب المزخرف. وتدفّق ضوءٌ ساطع من الفجوة. تحرّك حلق إيدموند إلى أعلى.
ماذا سيقول؟ «رغم ما قلتِه فإنّني ما زلتُ أحبّك كثيرًا، ولن أسمح لنفسي بالنّدم مرّة أخرى» ، نعم، سأقول ذلك.
رفع إيدموند رأسه بهذا العزم، لكنّه تراجع خطوة إلى الوراء عندما اصطدمت عيناه بخصلاتٍ فضّيّة تنهمر أمامه.
“أوه، سموّك! ما الّذي أتى بك إلى هنا؟”
إيكلا، وهي تهزّ خصلات شعرها المبتلّة، رمقته بابتسامةٍ ساحرة.
“أنتِ… لماذا…”
وبينما كان إيدموند يختار كلماته بحذر، أمالت إيكلا رأسها مستغربة.
“أوه، ألم تعلم؟ يبدو أنّ أوليفيا لم تُخبرك. إنّها قالت إنّ هذا المكان مُخيف قليلًا بعد أن علمت أنّه غرفة أعدّها إيدموند خصّيصًا لها.”
“مُخيف؟”
“نعم. قالت إنّك لا تتقرّب منها إلّا بعد أن ترفضك، وإنّ هذا… غريب قليلًا… آه، كان يجب ألّا أقول هذا…”
غطّت إيكلا شفتيها الحمراء بإصبعٍ طويل وهي تراقب ردّة فعله.
“سموّك … أوليفيا ستتزوّج غالرهيد قريبًا. مهما كان في نفسك شيءٌ تجاهها، أليس من الأفضل أن تتركها الآن؟”
“لا. لا أحد يعلم ما سيحدث قبل دخولها قاعة الزّفاف.”
ثمّ استدار إيدموند بقوّة. وما إن التفت حتّى تفرّق الموظّفون الّذين كانوا يُراقبونهما واحمرّت وجوههم.
“يا للمصيبة، لقد دعوتُ زميلاتٍ أخريات إلى تفقد الغرفة اليوم … أرجو ألّا يسيئوا الظنّ بنا.”
وضعت إيكلا يدها على خدّها بانزعاجٍ خفيف.
لكنّ كلماتها كانت بالكاد تصل إلى أُذُن إيدموند.
***
اضطررتُ أنا إلى إنهاء ما أجلتُه صباحًا، فتنفّست بعمق وأنا أرتّب الكتب في رفوف المكتبة.
لماذا جلبتُ كلّ هذا العدد أصلًا؟ قد تنتهي الحرب الأهليّة خلال أيّام. كان بإمكاني إحضارها قليلًا قليلًا.
“يا لي من حمقاء.”
زفرتُ وأنا ألتقط دفترًا وقع بين الأمتعة.
“هذا ملخّص دراستي للامتحانات.”
ما زلتُ أحتفظ به.
تُرى، هل يُمكنني بيعه في التّداول المستعمل تحت اسم “مذكّرات المتفوّقة الوحيدة بدرجةٍ كاملة”؟ لا، لا أحد سيشتريه الآن في ظلّ الحرب.
قلّبتُ الصفحات بملل، فتدفّقت الذّكريات القديمة.
بما أنّ موظّفي القصر الإمبراطوري يُعيَّنون حسب الترتيب الدّرَاسيّ، فالامتحانات تشمل جميع المواد. لقد درستُ بجدّ فعلًا في ذلك الوقت.
“آه؟”
وقع بصري على سطرٍ ما عن طريق الصّدفة.
[هناك نوعان من المسدّسات المخصّصة لحرس العاصمة: M987BS و N764QA. الأوّل تكون طلقته الأولى رصاصة صوتيّة إلزامًا، أمّا الثاني فمزودٌ بجهاز أمانٍ يستشعر الصّدمات والاهتزاز لمنع الإطلاق الخطأ.]
“هذا غريب. هذا غريب بالفعل.”
بحثتُ بيأسٍ في الأدراج.
ثمّ أعدتُ مطالعة الملاحظات وشرح المسدّسات الّذي كنّا قد جمعناه أنا وفاكيل في القرية.
“قال إنّه عندما حاول إعادة المسدّس إلى مكانه، سقط من يده … وانطلقت الرّصاصة.”
أيًّا يكن نوع المسدّس المُعطى للحرس، فهذا مستحيل.
فلو كان من طراز M987BS لكان الطلقة الأولى رصاصة صوتيّة، ولو كان من طراز N764QA لكان جهاز الأمان قد منع الإطلاق.
كيف لم ألاحظ ذلك من قبل؟ هذا قتلٌ مُتعمَّد، وليس خطأ!
“إذًا، بورياس مُذنب حتمًا!”
صرختُ بفرح، لكنّني سرعان ما أدركت أنّ الوقت ليس مناسبًا.
ثمّ إنّني أقيم في القصر من اليوم فصاعدًا، فيمكنني إبلاغ إيدموند فورًا. وسيُسعده بالتّأكيد أنّني وجدتُ دليلًا جديدًا.
ارتديتُ ثيابي على عجل وفتحتُ الباب، فإذا باثنتين من الموظّفات، بوجوهٍ متورّدة أكثر من وجهي، تصرخان بخفوت وهما تهرولان نحو الدّرج.
“يا إلهي، لم أعلم أنّ سموّه بهذه الجرأة!”
“يبدو أنّه وإيكلا على علاقة بالفعل!”
“عمّ تتحدّثان؟”
أمسكتُهما بسرعة، فاقتربت هيلينا من أذني وهمست بخجلٍ وقد اشتعل خدّها.
“تخيّلي! إيدموند دخل غرفة إيكلا في هذا الوقت من الليل، وكانا وحدهما!”
التعليقات لهذا الفصل " 91"