منذ اندلاع الحرب الأهليّة، كنتُ أحاول العودة إلى المنزل قبل غروب الشمس قدر الإمكان، لكنّ العمل لا يسير أبدًا كما هو مخطّط. وحين استوعبتُ الأمر، كان الخارج قد غرق بالفعل في الظلام.
“يجب أن أُسرع.”
كان من الطبيعيّ أن يكون السير وحدي أمرًا خطيرًا، لذا ومنذ الحرب، كان الكهنة يتناوبون على مرافقتي في طريق العودة. ولحسن الحظ، لم يُلحق الأجانب أيّ أذًى بالمعبد الذي طالما قدّم لهم يد العون.
عندما نظرتُ من النافذة، رأيتُ أحد الكهنة ينتظرني أمام البوّابة، كما توقّعت. طلبتُ منه مرارًا أن يدخل فور وصوله، لكنّه يخشى أن يُزعجني أثناء العمل. أشعر بالذنب في كلّ مرّة أراه ينتظر على هذا النحو.
“عذرًا! هل أنتِ الآنسة أوليفيا؟”
ناداني أحد حرّاس القصر بينما كنتُ أتهيّأ للمغادرة. كنتُ أعرف وجهه لكن لم أتذكّر اسمه.
“من أنت؟”
نظر إليّ بحذر، ثمّ أبرز هويّته وقدّم إليّ مفتاحًا.
“إنّه من الأمير إيدموند. لقد أمر بفتح قلعة كريست لجميع الموظّفين الذين لا يزالون في القصر حتى الآن.”
“قلعة كريست؟”
تلك القلعة كانت تُستخدم عادةً لاستقبال الضيوف الأجانب أو الوفود الرسميّة في المناسبات الكبرى. أذكر أنّ وفد مملكة فوغليش أقام هناك في آخر زيارة. لكنّه الآن فتحها لنا؟
“يبدو أنّ السيّد دانتي هو من اقترح ذلك بعد الحادثة الأخيرة التي تعرّض لها.”
‘إيدموند؟ يُظهر تفكيرًا كهذا؟’، لم أستطع تصديق ذلك.
“أمرني الأمير أيضًا أن أرافقكِ إلى هناك اليوم. يمكنكِ أخذ أغراضكِ وسنذهب معًا.”
‘هل أصبح فجأةً بهذا القدر من اللّباقة؟’
كان الأمر غريبًا، لكنّه مع ذلك مريح. فالغرباء لم يؤذوا الكهنة إلى الآن، لكن لا أحد يضمن المستقبل. كما أنّي كنتُ أشعر بالحرج من جعلهم ينتظرونني كلّ مساء.
“لكنّ أحد الكهنة جاء لاصطحابي اليوم أيضًا. بما أنّني أعرف طريق القلعة، سأذهب غدًا وحدي.”
“لكنّ الأمير قال إنّكِ لا تُجيدين الطريق، لذا يجب أن أرافقكِ بنفسي …”
‘من الذي قال إنّني لا أعرف الطريق؟!’
حسنًا، صحيح أنّني تهتُ مرّة واحدة … في اليوم الأوّل من عملي فقط! لكنّني الآن أحفظ القصر ككفّ يدي.
“لا بأس، أستطيع الذهاب وحدي.”
لم أرغب في أن يُكلّف أحدهم نفسه عناء مرافقتي في هذه الأوقات الصعبة. بعد تردّدٍ قصير، أومأ الحارس موافقًا.
شعر الكهنة بالأسى حين علموا أنّني سأقيم مؤقّتًا في القصر، لكنّهم اطمأنّوا لأنّ المكان أكثر أمانًا من غيره.
***
في الصباح الباكر، خرجتُ من المنزل لأجد وجهًا مألوفًا ينتظرني.
“السيد فاكيل؟”
“مرحبًا، آنسة أوليفيا. هل هذه كلّ أمتعتكِ؟”
رفع حقيبتي بخفّة وفتح باب العربة.
“نعم، هذا كلّ شيء، لكن … ما الذي تفعله هنا؟”
“جئتُ لأرافقكِ إلى القلعة.”
‘يرسل فارسًا لمرافقتي شخصيًّا؟’
بدا الأمر مبالغًا فيه. لم أتمالك نفسي من التفكير بأنّ إيدموند ما زال يهتمّ لأمري … ثمّ سرعان ما كرهتُ نفسي لأنّي فرحتُ بذلك.
قلعة كريست كانت أصغر قلاع القصر الملكيّ، لكنها تحتوي على مئات الغرف. وعند وصولي، كان الموظّفون يتناولون الإفطار في قاعة الطعام الكبرى استعدادًا ليوم العمل.
“أوه، أوليفيا! أنتِ هنا أيضًا؟”
“إيكلا؟”
ركضت إليّ بوجهٍ متحمّس.
“هل رأيتِ ما فعله الأمير؟ كان قلقًا عليّ كثيرًا، فرتّب لي مسكنًا خاصًّا هنا، ثمّ شعر بالإحراج، فسمح لجميع الموظّفين بالإقامة أيضًا! أليس لطيفًا؟”
ارتفعت الأصوات حولنا.
“هذا بفضل الآنسة إيكلا إذًا!”
“نعم، والآن لا داعي للقلق من أيّ هجوم من الخلف.”
ابتسمت إيكلا بفخرٍ حينها.
“لكن، أليست أفضل غرفة من نصيب الآنسة أوليفيا؟”
“أفضل غرفة؟”
كانت المتحدّثة موظّفة من وزارة الخارجيّة تُدعى آني.
“المفتاح الذي معكِ ذهبيّ اللون، أليس كذلك؟”
نظرتُ إلى يدي.
صحيح، كان مفتاحي ذهبيًّا تعلوه شرّابة زرقاء.
“يا للعجب، إنّه بالفعل ذهبي!”
“أعرف تلك الغرفة! تلك مخصّصة عادةً للعائلات الملكيّة الزائرة!”
“إذًا ليست بفضل إيكلا، بل بفضل أوليفيا!”
“طبعًا، الجميع يعلم أنّ الأمير يُقدّرها كثيرًا لذكائها وكفاءتها.”
احمرّ وجه إيكلا بشدّة.
حسنًا، في الحقيقة يمكنني تفهّم إحراجها.
“آه، سمعتُ البارحة أنّ المفاتيح قد تبدّلت.”
حاولتُ تغيير الأجواء بابتسامةٍ مصطنعة. فغرفة كهذه ستكون في الطابق العلويّ، ولا رغبة لي في تسلّق السلالم يوميًّا. جسد أوليفيا ضعيف، بعد كلّ شيء.
“تبدّلت المفاتيح؟”
“نعم. إيكلا، أعلم أنّكِ قد وضعتِ أمتعتكِ، لكن يبدو أنّ مفتاحينا قد تبدّلا، وهذا المفتاح لكِ.”
نظرت إليّ بحيرة، ثمّ أخذت المفتاح دون تردّد.
“سأنقل أمتعتي حالًا. أريد إنهاء ذلك قبل الدوام.”
“حسنًا.”
تحرّكت بسرعةٍ، وتفرّق الناس بعدها.
لم أُرِد أن أكون محور اهتمامهم، خاصّةً في ما يشبه منافسةً بين امرأة كانت تُعجب بالأمير وأخرى يظنّها الجميع حبيبته الآن.
“يا إلهي، متى سأُنهي كلّ هذا؟”
رغم أنّني أحضرتُ القليل فقط من الأغراض، بدت لي كثيرة.
لو بدأتُ الآن بترتيبها، فلن أتناول الفطور قبل الذهاب للعمل.
العمل منهك هذه الأيّام حتى إنّنا لا نكاد نجد وقتًا للغداء.
“همم … سأؤجّلها إلى بعد الدوام.”
كنتُ أعلم أنّني سأؤجّلها مجدّدًا مساءً، لكن تجاهلتُ ذلك التفكير عمدًا.
***
“قالت لي: أشعر بالخوف في طريقي من وإلى العمل.”
نقر إيدموند على قلمه الذهبيّ وهو يتنهّد.
‘هل ستكون أوليفيا بخير؟’
رغم أنّه أرسل فاكيل لمرافقتها، فإنّ دانتي تعرّض لهجومٍ مباغت رغم الحرس المرافقين له.
“دانتي.”
“نعم؟”
رفع رأسه وهو يضغط على ضمادة رأسه التي سبّبت له صداعًا.
قطّب إيدموند حاجبيه.
“إن كان الألم شديدًا، يمكنك المغادرة. لقد سلّمتَ كلّ التقارير بالفعل.”
“صحيح، لكنّ الآنسة إيكلا ليست دقيقة في عملها. أردتُ التأكّد مرّة أخرى، وإلاّ ستتعب أوليفيا كثيرًا.”
“ولمَ تقلق على أوليفيا بالذات؟”
نظر دانتي إليه نظرةً جانبيّة حذرة.
“ما بكَ الآن؟”
“لا شيء … فقط إنّ التنقّل خطر هذه الأيّام.”
“صحيح.”
تطلّع دانتي حول المكتب الفارغ تقريبًا. خلال أسابيع قليلة فقط، غادر الجميع: ناتاشا، مارغو، بيكي، وحتّى كامبيل. بعد أن كان المكان يعجّ بالحركة، لم يبقَ سوى ثلاثة أشخاص.
“أوليفيا ضعيفة البنية. لو أصابها أحدهم على الرأس كما حدث لي، فقد لا تنجو.”
أراد دانتي أن يذكّره بأنّ جمجمته ليست من الفولاذ أيضًا، لكنّه آثر الصمت. من في الحبّ لا يهتمّ لتلك التفاصيل.
“وماذا لو جعلنا الجميع يبيتون في القصر؟”
“غرف المناوبة؟ لكنها قليلة، وسيتوجّب علينا جمع الرجال والنساء فيها … انتظر. كيف لم أفكّر بهذا من قبل؟”
“غرف المناوبة؟”
تجمّد دانتي من المفاجأة. لم يكن جادًّا، لكنّ الأمير بدا مأخوذًا بالفكرة.
“لا، ليس هناك. لدينا قلعة خالية يمكن استخدامها.”
“قلعة خالية؟”
“قلعة كريست.”
“آه، صحيح! فكرة ممتازة!”
وهكذا جرى الإعداد بسرعة.
كان استخدام قلعة مهجورة أمرًا بسيطًا، فوزّعوا المفاتيح على الموظّفين، الذين غمرهم الامتنان تجاه الأمير.
“سلّمتَ المفتاح لأوليفيا، أليس كذلك؟”
“نعم، أعطيتها المفتاح الذهبي.”
ناول الأمير الحارس مكافأة صغيرة، ثمّ توجّه إيدموند بهدوء نحو الغرفة التي تعرفها أوليفيا بـ”غرفتها الجديدة”.
لم تكن تعلم أنّ الغرفة ذات المفتاح الذهبي في قلعة كريست مخصّصة عادةً للملوك والأمراء الأجانب، وأنّها تتّصل ببابٍ سرّيّ خفيّ يُستخدم لعقد الاجتماعات الخاصّة.
إيدموند، بالطبع، كان يعلم ذلك. وقد منحها تلك الغرفة خصيصًا كي يتمكّن من الوصول إليها متى شاء.
طرق الباب بخفّة.
“…”
لم يأتِه جواب. عبس قليلًا. ‘هل نامت باكرًا؟ لا يُعقل. فالحارس عاد لتوّه من القصر، ما يعني أنّها وصلت للتوّ.’
طرق الباب مرّة أخرى، ولم يُجب أحد.
“عذرًا.”
فتح الباب ببطء، فاستقبلته غرفةٌ فخمةٌ باردة، أنيقة الزخرفة … خالية من أيّ أثرٍ للدفء أو الحياة.
التعليقات لهذا الفصل " 90"