“ألم يكن هناك بند يمنع الخطوبة أو الزواج في زمن الحرب؟”
“ذلك ضمن قانونٍ عسكريٍّ يخصّ الجنود فقط. وُضع منذ قرون أثناء حرب القارّة، كي لا يُترَك نساءٌ كثيرات أرامل عبثًا.”
“ألا يمكن تطبيقه على الشعب كلّه في حالة الطوارئ؟”
“لو كان الأمر كذلك، فالأفضل أن نفعل كما قلتُ سابقًا.”
هزّ فيليكس رأسه، فمسح إيدموند جبينه بخجل.
“إذًا، هل أقول إنّه في هذا الوضع لا مجال للخطوبة، وإنّي لا أسمح؟”
“لكنك سمحتَ بالفعل.”
“هاه، لماذا فعلتُ ذلك؟!”
غاص شعره الأسود بين أصابعه وهو يعبث به بعصبيّة.
تنهد فيليكس وهو يراه يتعذّب من جديد.
حتى في يوم اعتراف غالرهيد الأخير، عانى إيدموند بالطريقة نفسها، وها هو يعود إلى بدايته.
“سيدي، في رأيي هناك حلٌّ واحد فقط.”
“وما هو؟”
“سأذهب لأغتال غالرهيد.”
أطلق إيدموند ضحكة قصيرة غير مصدّقة وهو يرى وجه فيليكس الجادّ.
“أيّ هراء هذا؟ ها أنت قد شختَ فعلًا حين تقول مثل هذا الكلام.”
“قاسٍ جدًّا يا سيدي. لقد أفنيتُ شبابي في خدمتك.”
هزّ فيليكس كتفيه بابتسامةٍ متعبة.
“همم، على كلّ حال، هناك ما يمكننا فعله.”
“ماذا تعني؟”
“قيل لي إنّ البُعد الجسديّ يُورث البُعد العاطفيّ.”
قالها إيدموند وهو يرتّب وسادته.
“أين يقع المستشفى الذي يديره غالرهيد؟ يجب أن نجعله مشغولًا إلى درجةٍ لا يجد فيها ثانيةً واحدة ليرى أوليفيا.”
***
انتشرت الحرب الأهليّة بسرعة.
قبل خمسة عشر عامًا فقط، كان الأجانب يعيشون مجتمعين في العاصمة.
لكنّ بعض النبلاء لم يطيقوهم، فارتكبوا مجازر عشوائيّة بحقّهم، فهرب الكثيرون وتفرّقوا في أرجاء الإمبراطوريّة.
لذلك لم تقتصر الحرب هذه المرّة على العاصمة، بل اشتعلت في جميع الأقاليم.
ولم تكن هذه المرة نتيجة مجرّد تمييزٍ أو اضطهادٍ كما في السابق، بل اندلعت بسبب حادثةٍ مؤلمة راح فيها عددٌ من الأبرياء.
بأمرٍ من الإمبراطور، فُرض على الجيش استخدام أقلّ قدرٍ ممكن من القوّة، في حين كان عليهم مواجهة الأجانب يهاجمون بجنون.
فتراجع جنود الإمبراطوريّة غير قادرين على الصمود، و استغلت دولٌ مجاورة الموقف لتثير المشكلات على الحدود.
“آسفة لأنّ الوضع صار هكذا في وقتٍ مزدحمٍ كهذا.”
“ولِمَ الأسف يا ناتاشا؟ احذري على نفسك فقط. تواصلي معنا عندما تصلين، اتفقنا؟”
كان اليوم آخر يوم عملٍ لناتاشا قبل أن تغادر إلى الجنوب مع أسرتها، إذ كان أكثر أمانًا.
بلغت رائحة الدم العاصمة نفسها، وصارت الحياة هناك خطرًا.
كثير من الموظفين الذين لديهم أطفال، مثل ناتاشا، كانوا قد قدّموا استقالاتهم أو أخذوا إجازاتٍ طويلة منذ زمن.
لقد صمدت ناتاشا طويلًا بالفعل.
حتى مارغو عادت إلى مسقط رأسها بسبب إلحاح والديها، و بيكي قدّمت استقالتها الأسبوع الماضي بعد أن قُتلت أختها على يد أحد الأجانب.
<أعرف أنّ جلالته لا ذنب له في ذلك، لكن … لم أعد أستطيع العمل تحت أمره. ربّما أنا ضعيفة فحسب>
تذكّرتُ وجه بيكي حين قالت ذلك بعينين وأنفٍ محمرّين، وأنا أودّع ناتاشا.
كانت الحرب الأهليّة مأساة حقيقيّة.
سواء كانوا غرباء أم إمبراطوريّين، فقد مات كثيرون، ومن نجا ترك موطنه وهرب، وبعضهم صار لصوصًا في الجبال والغابات.
“هل ودّعتِ ناتاشا كما يجب؟”
سألتني إيكلا وهي ترتّب الكتب عندما دخلتُ مكتب العمل.
كانت وحدها في هذا المكتب الواسع، وأدركتُ حينها كم قلّ عدد العاملين.
“نعم. شكرًا لأنّك ساعدتِني فجأة، مع أنّك مشغولة بتمريض جدّك.”
فقد ضُرب دانتي صباح اليوم على رأسه بعصا خشبيّة في طريقه إلى العمل.
حين سمع إيدموند الخبر، أسرع إلى المستشفى العسكريّ،
فاضطررتُ أن أطلب من إيكلا –التي كانت ترعى آسيوس المغمى عليه– أن تساعدني رغم الحرج.
“بل أنا سعيدة بهذا.”
ابتسمتْ إيكلا ابتسامةً ملائكيّة.
“سعيدة؟”
“نعم. كما قلتُ من قبل، أنا أحبّ سموّه إيدموند.”
“آه … صحيح، قلتِ ذلك فعلًا.”
جوابي الفاتر جعلها تسرع في الكلام.
“لا تقلقي! سأركّز في عملي. أنا أيضًا أريد إنهاء هذه الأزمة بسرعة وبسلام.”
لكنّني لم أكن أقلق على ذلك أصلًا.
ما كان يشغلني هو: ماذا لو وقع إيدموند في حبّها كما في الرواية الأصليّة، حين ينجذب لامرأةٍ تعمل معه بإخلاص؟
يا إلهي، أفكارٌ بائسة مجدّدًا.
ليت كلّ شيء ينتهي بسرعة.
أريد أن أخرج من هنا، أن أعيش بهدوء مع أمّي فقط.
مسحتُ وجهي بيدي وأنا أمسك الأوراق بيدي الأخرى.
كان عليّ أن أستعيد هدوئي قبل أن يعود إيدموند.
“أوليفيا، هل تساعدينني قليلًا؟”
“هل هناك شيء لا تفهمينه في العمل؟”
سألتها ظنًّا منّي أنّها تحتاج مساعدة إداريّة، لكنّ إيكلا بدت متردّدة وهي تعبث بأصابعها.
“كما تعلمين، سموّ الأمير يفضّل العاملين الأكفاء.”
“صحيح؟”
أجبتها بلا حذرٍ، فمرّرت شعرها الفضيّ الطويل خلف أذنها بنعومة.
“وأنتِ أكثر مَن نال اعترافه في كفاءته. لذلك … هلّا أخبرتِني أولًا بأيّ فكرةٍ جيّدة تخطر لكِ؟ لأقدّمها له أنا.”
هل سمعَت أذناي خطأ؟ حدّقتُ بها طويلاً دون أن أستوعب.
وحين ساد الصمت، وضعتْ كتابها جانبًا واقتربت منّي.
“على أيّ حال، لم تعودي بحاجةٍ إلى نيل إعجابه. أليس كذلك؟”
“ماذا تعنين؟”
رفعتْ عينيها الحمراء نحوي وقالت بحدّةٍ مفاجئة: “لقد تردّدتِ بين سموّه وبين غالرهيد، وفي النهاية اخترتِ غالرهيد، أليس كذلك؟ كنتِ تعرفين أنّ من الصعب أن تصبحي أميرةً وأنتِ من عامّة الشعب، فاخترتِ الطريق الأسهل. لكن بما أنّكِ اخترتِ، فاتبعيه للنهاية. لا تحاولي التودّد مجدّدًا لذلك الرجل.”
“ما هذا الكلام؟! ليس الأمر كما تقولين!”
ضربتُ الطاولة ونهضتُ، فارتدّتْ إلى الخلف وسقطت فجأة.
“آسفة، أوليفيا … أنا فقط … ظننتُ أنّني، بصفتي من قوم فوغليش، يمكن أن أكون عونًا للأمير.”
ما هذا الآن؟
نظرتُ إليها مذهولة وهي تمسح دموعها فجأة، وهممتُ بالصراخ حين جاء صوتٌ من خلفنا: “ما الذي تفعلانه؟”
كان إيدموند واقفًا عند الباب ومعه دانتي، رأسه مغطّى بالضماد، ونظراتهما مشدوهة.
“هاه…”
حقًّا؟ هل وقعتُ في فخٍّ سخيف من تلك التي تراها فقط في الدراما؟
“هيا، كلّنا في فريقٍ واحد، أليس كذلك؟ سواء كنّا إمبراطوريّين أو غرباء أو من فوغليش، لا فرق!”
قال دانتي وهو ينظر إلينا بالتناوب محرجًا.
كيف تورّطتُ في هذا الموقف الغبي؟
“صحيح، أوليفيا! لننهي هذه الحرب بسرعة!”
مدّت إيكلا يدها نحوي مصطنعةً روحَ المصالحة.
نظرتُ إلى يدها لثوانٍ، ثمّ صافحتها في النهاية.
أنا أكبر منها بعشر سنوات على الأقل، ولن أنحدر لمستواها.
“نعم، فلننتهِ بسرعة.”
ربّما كانت هذه طبيعتها الحقيقية، أو لعلّها بطلةٌ جانبيّة تحوّلت إلى شريرة بعد أن لم تنل حبّ البطل، لكن لا بأس.
سأتفهّمها لأنّي الناضجة هنا.
“بالطبع، يجب أن ننتهي سريعًا … لتتمكّني أنتِ أيضًا من إقامة زفافك، أليس كذلك؟ سمعتُ من غالرهيد أنّكما اتفقتما على الزواج. مبروك سلفًا!”
آه، كفى!
أريد أن أصفعها حقًّا الآن.
“عُدْنَا إلى العمل.”
قالها إيدموند ببرود، فتركنا أيدينا فورًا بعصبيّة.
“هل أنت بخير، دانتي؟”
“لحسن الحظ، الجرح سطحيّ فقط. قالوا إنّي أحتاج بضعة أيّام راحة. من الجيد أن الأمر لم يكن أسوأ.”
ابتسم دانتي وهو يلمس الضماد على رأسه.
“كدتُ أموت خوفًا حين سمعتُ بما جرى. فالوضع الآن مخيف حتى في طريق الذهاب والإياب.”
قالت إيكلا بصوتٍ مرتجف وهي تنظر إلى إيدموند برجاء، لكنّه لم يُبدِ أيّ ردّة فعل.
التعليقات لهذا الفصل " 89"