دَوّى صوت كعبَي حذاء إيدموند في ممرّات الفجر بسرعةٍ تشبه رقصة التّاب. كان دانتي يجري بجانبه محاولًا مجاراة خطواته وهو يقدّم التّقرير.
“في الفجر، أحد الحرّاس ضرب طفلًا من الأجانب حتّى الموت.”
“ماذا؟”
تجمّد كلٌّ من إيدموند وأنا في مكاننا. كنت أتوقّع شجارًا لا أكثر، لكنّها جريمة قتل؟
“ضرب طفلًا … حتّى الموت؟”
“أيّ مجنونٍ هذا؟”
“الحارس يُدعى لوهاس. كان يَكره سكّان منطقة أومفا أصلًا، ويبدو أنّه أفرغ كراهيته بهذه الطّريقة.”
حتى لو كان يكرههم، كيف يمكن لإنسانٍ أن يقتل طفلًا؟ أهذا جنون؟
“يضرب طفلًا لمجرّد الكراهية؟”
تمامًا ما كنتُ أفكّر به. ما الذّنب الّذي اقترفه الطّفل ليُقتل؟
“هل تعرف ما الّذي حدث فجأة؟ هل كان غريب الأطوار أصلًا؟”
“ذاك هو الغريب …”
قلّب دانتي بضع أوراقٍ ثمّ تابع: “الطفل كان ينتظر والده أمام المنزل، لأنّه لم يعد طوال اللّيل. صادف أنّ لوهاس مرّ بجانبه.”
وبحسب شهادة موزّع الصّحف الّذي شهد الحادثة، فإنّ لوهاس اقترب فجأة من الطّفل الّذي كان جاثيًا على الأرض، أمسكه من ياقة ثوبه، وبدأ يلكمه بعنف.
“صحيح أنّه كان معروفًا بتلفّظه بالكراهية تجاه الأجانب، لكنّ الناس يقولون إنّه لم يكن أكثر من جبانٍ يهمهم بكلماتٍ تحت أنفاسه. لم يكن من نوع الأشخاص الّذين يُقدِمون على شيءٍ كهذا، خصوصًا في ظرفٍ كهذا.”
“لكن، إن كان مجنونًا يكرههم أصلًا، فربّما فعلها.”
ربّما … ففي عالمي السّابق، كم من قاتلٍ أو مجرمٍ كان يُوصَف بأنّه “شخصٌ طيّب” قبل أن يُكشف أمره؟ فليس من المستحيل أن ينقلب من يكره أصلًا إلى قاتل.
لكن دانتي هزّ رأسه متابعًا: “ذلك محتمل، لكنّ هناك أمورًا مريبة كثيرة. أوّلًا، الطّريق الّذي مرّ منه لم يكن طريقه المعتاد.”
“ماذا تقصد بذلك؟”
“كما تعلم، فتحنا مداخل متعدّدة لمنطقة أومفا. بحيث يتمكّن الحرّاس من الوصول إلى مهاجعهم عبر طرق مختلفة.”
في الماضي لم يكن مفتوحًا سوى البوّابة الشّماليّة، لكن بعد إعادة تطوير المنطقة فُتحت المداخل في الجهات الأربع.
وهكذا بات بإمكان الحرس المناوبين العودة سريعًا إلى مهاجعهم القريبة، وتأمين الحراسة من كلّ الجهات.
“في تلك اللّيلة، تولّى لوهاس الحراسة عند البوّابة الجنوبيّة. كان من المفترض أنّه في إجازة، لكنّه استُدعي بشكلٍ طارئ بسبب الاضطرابات هناك.”
إلى الآن لم يكن هناك شيء غريب. فالاستدعاءات الطّارئة أمرٌ شائع بين الجنود.
“بعد أن أنهى المناوبة اللّيلية، ما الّذي تتوقّع أن يفعله أوّلًا؟”
“يرتاح بالطّبع.”
“صحيح. وبالفعل، كلّ الحرس الآخرين عادوا إلى المهاجع فور تبديل النّوبات. لكنّ لوهاس قال إنّه سيذهب شمالًا. أي أنّه اختار طريقًا أطول بدلًا من الأقصر المؤدّي إلى المهاجع.”
“فجأة؟”
أومأ دانتي مؤكّدًا كلامه بصوتٍ متحيّر.
“كان معروفًا أنّه يكره العمل الإضافيّ، بل تذمّر كثيرًا حين استُدعي ليلتها. وفجأةً بعد انتهاء مهمّته يقول إنّه سيقوم بدوريّة إضافيّة من تلقاء نفسه؟”
“هذا مريب فعلًا.”
“بالفعل. في غاية الرّيبة.”
نظر دانتي خلفي، ولم يكن ينظر إليّ بل إلى من يقف ورائي.
لم أكمل كلامي. فقد تذكّرت فجأة أنّ الشّخص الّذي كان خلف كلّ شيءٍ في هذه القصّة هو لوسيد نفسه.
“التغيّر الوحيد الّذي طرأ على لوهاس البارحة أنّه التقى بلوسيد.”
قال دانتي ذلك، فتوقّف إيدموند لحظة يفكّر، ثمّ استأنف السّير.
“تحقّق من الأمر على أيّ حال. يبدو مشبوهًا بالفعل.”
أومأ دانتي وبدأنا نتّجه بسرعةٍ نحو منطقة أومفا.
ما رأيناه من عربة الخيول كان صادمًا.
الأجانب، وقد ثاروا غضبًا على مقتل الطّفل البريء، كانوا يهاجمون الحرس بالعصيّ والسّكاكين. حاول الحرس الدّفاع قدر الإمكان، لكنّ الغضب كان طاغيًا، لا يرى ولا يسمع.
وفوق ذلك، كان قد صدر أمرٌ إمبراطوريّ يمنع استخدام الرّصاص الحيّ، فلم يكن أمام الجنود سوى إطلاق طلقاتٍ تحذيريّة في الهواء. فاستغلّ الأجانب والتّجّار الفوغليشيّون ذلك، وانهالوا على الحرس بالضّرب.
“لن نصمت بعد الآن! صمتُنا قتل طفلًا بريئًا!”
“صحيح! كنّا نكبح أنفسنا لأنّنا على أبواب شهر فواني المقدّس، لكن ليس بعد الآن! لنعلمهم درسًا لن ينسوه!”
تجمّد وجه إيدموند وهو ينظر إلى الحشود المتهيّجة.
الوضع خرج عن السّيطرة تمامًا.
كان الجوّ مشحونًا كبلونٍ منتفخٍ يكاد ينفجر.
“أيّها الوغد! أنت الّذي تحرّشتَ بابنتي سابقًا!”
صرخةٌ تبعتها طعنة.
أحد الأجانب غرس رمحه في صدر جنديٍّ أمام أعيننا. تدفّق الدّم، وسقط الجنديّ، ومن تلك اللّحظة لم يعد هناك رجوع.
تجمّع الحرس حول رفيقهم.
“فان! فان، تماسَك!”
“دانتي!”
ركض دانتي نحو الجنديّ وفحصه بسرعة، ثمّ هزّ رأسه بأسى.
“لقد فارق الحياة.”
“سموّك! ما الّذي نفعله الآن؟!”
“لقد قتل رفيقي! أعطونا الأوامر!”
ارتبك إيدموند وهو يراقب المشهد. وخلال تلك الثّواني القليلة، كان المسلّحون قد اتّجهوا نحو المدينة.
“أغلقوا الطّريق المؤدّي إلى القصر الإمبراطوريّ فورًا! وأجلوا المدنيّين!”
صرخ إيدموند، لكنّ أحدًا لم يسمع. كانت الفوضى قد ابتلعت كلّ شيء.
توجّهت رماح الأجانب إلى الأبرياء من سكّان الإمبراطوريّة، وتعالت الصّرخات. كانت تلك بداية الحرب الأهليّة.
***
رغم اندلاع الحرب، لم تتغيّر أوامر الإمبراطور: يجب إنهاء الأمر بلا عنف.
لكنّ ذلك ولّد استياءً بين الحرس. لمَ عليهم أن يُضربوا من دون أن يردّوا؟ شيئًا فشيئًا بدأ الحرس بتقديم استقالاتهم جماعيًّا.
وبانخفاض عدد الحرس، انكشفت المدينة. راح المسلّحون الأجانب يجوبون الشّوارع بحرّيّة. ولم تعد أهدافهم النّبلاء الفاسدين فقط، بل كلّ مواطنٍ من الإمبراطوريّة.
صاروا يهاجمون كلّ من يصادفونه، فخلت الطّرق من المدنيّين، ولم يبقَ فيها سوى الجنود.
صرخ المواطنون مطالبين الإمبراطور بتدخّلٍ حازم. لم يعُد ممكنًا التزام الصّمت.
“جلالتك، لا يمكننا السّماح بهذا أكثر!”
“هاه … لا خيار أمامي إذن.”
رفع الإمبراطور رأسه بوجهٍ منهكٍ بعد أن مسح وجهه الجافّ بيديه مرارًا.
“أُجيز استخدام القوّة في أضيق الحدود. لكن لا أريد تكرار مجازر الحرب السّابقة. إن حاول أحدهم القتل، فحينها فقط يُردّ عليه بالقوّة.”
تبادل بعض النّبلاء النّظر بامتعاض.
“هل عُثر على لوهاس؟”
سأل إيدموند بصوتٍ مبحوح، وعيناه غائرتان من قلّة النّوم، بينما كان يفكّ ربطة عنقه. أجاب كلٌّ من دانتي والكونت رامبرانت بهزّ رأسهما.
اختفى لوهاس كأنّه تبخّر. لا في المهاجع، ولا في بلدته، ولا في منزل عشيقته. لا أثر له، ولا خيطٌ واحد.
“ما الجدوى من البحث عنه الآن؟ قتَل وفرّ، ثمّ أدرك فداحة ما فعل فاختبأ كالجبان.”
قال لوسيد ببرودٍ وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة.
لكنّ الإمبراطور لم يشاركه هذا الرّأي.
“لا، علينا العثور عليه. كما قال إيدموند، الحلّ لن يظهر قبل أن نعرف الحقيقة.”
أجاب لوسيد بصوتٍ متكاسل: “نعم، نعم، مفهوم.”
وبينما كان الاجتماع مستمرًّا، كان الجنود في الخارج يجهّزون أسلحتهم استعدادًا للمواجهة. منظرهم وحده كفيلٌ بأن يُثقل القلب باليأس.
التعليقات لهذا الفصل " 87"