كان يعلم أنّه لا يُحسن سوى الغضب من دون أن يُتقن شيئًا، لوسيد، الذي سيُصبح الإمبراطور القادم، فليس في رأسه ما يُعوَّل عليه.
على أيّ حال، من أراد أن يُدير السياسة، فلا بدّ له من عقلٍ يُدبِّر عنه، وكونت رامبرانت كان يُخطّط أن يتولّى هو ذلك الدّور.
ضغط بيده على كتف لوسيد دون أن يُدرك أنّ قبضته اشتدّت.
‘اصبر فحسب … إن صبرتُ على هذا الأمر فقط، فسأضع الإمبراطوريّة بين يديّ.’
تحت هذه اليد بالضبط.
“إذًا، يا صاحب السّموّ، ما على سموّك إلّا أن تسير في الطّريق الذي سأُمهّده أنا وبيلوفان. سيركب بيلوفان العربَة قريبًا، فارتح الآن يا سموّك. سيكون من المزعج لو تأخّرتَ غدًا.”
ألقى لوسيد نظرة إلى الأسفل، فرأى العربة قيد التّحضير كما قال.
“سأذهب أنا أيضًا.”
“نعم؟ ولكنّ المكان يعجّ بالسّفلة والفقراء. ماذا لو التقطتَ عدوى؟”
أزاح لوسيد اليد التي ضغطت على كتفه وقال ببرود: “كما قال الكونت، قد يكون السّائق من رجال جلالته. ثمّ إنّي مضطرّ للذّهاب إلى منطقة أومفا على أيّ حال.”
ثمّ نظر مليًّا إلى المكان الذي كانت أوليفيا واقفة فيه قبل لحظات، وتمتم: “من أجل ما أرغب فيه … يجب أن أفعل أيّ شيء.”
***
عندما اقتربت العربة الفاخرة، توتّر الحُرّاس الأجانب الذين كانوا في نوبة الحراسة، وأمسكوا بأسلحتهم بقوّة.
لكن ما يُسمّى أسلحة لم تكن سوى معاول صدئة، وسيوف بالية، ورماح كليلة الطرف، فلا تُثير الخوف في أحد، ومع ذلك تشبّثوا بها كما لو كانت شريان حياتهم، يُحدّقون بالعربة في حذرٍ شديد.
“لم أكن أتوقّع أن يحضر سموّك بنفسك.”
قال أحد الحرس باهتمامٍ وقلق، وهو يُؤدّي التّحيّة.
“تبذلون جهدًا كبيرًا حتّى في هذا الوقت المتأخّر من اللّيل.”
قال لوسيد، فازداد الحارس توتّرًا وشدّ كتفيه.
“لو علمنا مُسبقًا بقدوم سموّك، لكُنّا رتّبنا أمر هؤلاء الأنذال مسبقًا.”
من انحناءة ظهره وامتداد عنقه كان يسهل معرفة نوع الرّجل حتّى دون ذكر اسمه.
“ترتيب ماذا؟ ألا تعلم أنّ جلالة الإمبراطور يُريد حلّ الأمر بسلاسة؟”
وبّخه لوسيد، فراح الرّجل الذي قدّم نفسه باسم لوهاس ينحني مرارًا قائلاً: “أوه، بالتّأكيد نعلم! لكنّنا نصبر بصعوبة، فقلوبنا تشتعل شوقًا لأن نمطرهم بالرصاص!”
قطّب بيلوفان حاجبيه إلى جانبه، ولم يجد جدوى في متابعة الحديث مع هذا الرّجل.
“سموّ الأمير لوسيد جاء إلى هنا بأمرٍ من جلالة الإمبراطور ليحلّ أزمة منطقة أومفا”
وبينما أنهى بيلوفان كلامه، ارتفعت همهمة بين الأجانب الواقفين.
“لذا، نريد التّحدث مع ممثّلهم. مع من ينبغي أن نتحدّث؟”
سأل بيلوفان لوهاس، لكنّ الأخير لم يكن يعرف.
فقد سمع أنّ هذه القضيّة سيتولّاها الأميران، غير أنّ مجيء لوسيد، المعروف بكراهيته للأجانب، جعله يأمل في أن تكون مهمّته القضاء على هؤلاء المتمرّدين تمامًا، إذ كان يكره هؤلاء “السّفلة” الذين يتجرّؤون على رفع رؤوسهم بفضل الإمبراطور المتسامح.
“تستطيعون الحديث مع هؤلاء.”
جاء صوت مألوف من الخلف.
“غالرهيد؟”
تقدّم رجل طويل القامة من بين الحشود المتوتّرة بخطواتٍ حازمة.
“صحيح، أنت من هذه المنطقة أيضًا، أليس كذلك؟”
أشار بيده إلى شخصَين وقال: “هذا الرّجل هو ليويل، ممثّل المحافظين.”
تنفّس بيلوفان الصّعداء وهو يوبّخ الحرس الذين تمتموا بدهشة: “ألم تكونوا تعلمون أنّ ممثّلة الإصلاحيين من الأجانب امرأة؟ تمرّون من هنا دائمًا!”
“كـ، كحـم.”
“لا، أعني… لم نهتم بالأمر حقًّا…”
لم يكن اهتمامهم بالأمر متوقّعًا أصلًا، وبينما يتبادلون النّظرات المحرجة، قال غالرهيد: “كان هناك أيضًا ممثّل لتجّار فوغليش …”
“آه، تقصد العجوز آسـيس؟ علمتُ أنّ حالته حرجة. لم يختاروا ممثّلًا آخر بعد؟”
“نعم. في فوغليش لا يُنتخب بديل قبل أن تعود روح الممثّل إلى الحاكم.”
‘تشه. ولهذا حالهم بائس.’
كيف يكون منطقيًّا ألّا يكون هناك بديل جاهز عند شغور المنصب؟
نقر لوسيد لسانه ثمّ أومأ برأسه. وفي تلك اللحظة، تكلّمت سينيا التي كانت تراقب بصمت: “ألم تكن أوليفيا هي من سيأتي؟”
كان سكان منطقة أومفا من الأجانب يعلمون أنّ الإمبراطور أوكل هذه القضيّة إلى الأميرين، ولذلك تمنّوا أن يأتي الأمير إيدموند ومساعدته أوليفيا، اللّذان كانا قد تحدّثا معهم بتفهّمٍ في المرّة السّابقة.
لم يتوقّعوا أبدًا أن يأتي لوسيد، الذي لا يُبدي أيّ اهتمامٍ بهم.
“أتعرِفين أوليفيا؟”
أشرق وجه لوسيد فجأة، وبمجرد أن ابتسم، بدا وجهه كالرّبيع، فتورّدت خدود سينيا من غير وعي وأومأت بخجل.
“نعم، هي التي أقنعتني و ليويل أثناء مشروع إعادة تطوير المنطقة سابقًا. إنّها تفهمنا جيّدًا، لذا نودّ التّحدّث معها.”
‘هل استطاعت أن تكسب قلوبهم أيضًا؟’
أحسّ لوسيد بالرّغبة فيها تزداد أكثر.
“لا تقلقي. سبب مجيئي في هذه السّاعة من اللّيل هو أنّنا لا نستطيع البقاء في حالة المواجهة هذه أكثر، لذلك أردتُ أن نتحاور.”
كانت كلماته غير متوقّعة، فتبادل الممثّلان النّظر بدهشة.
“أ، أحقًّا تنوون التّفاوض معنا؟”
سأل ليويل، فأومأ لوسيد برأسه.
“ولِمَ لا؟”
“يا إلهي، هذا مريح للنّفس.”
قالها وهو يتنهّد بارتياح.
“في الواقع، نحن على وشك دخول فترة الـ(فواني).”
“فواني؟”
“إنّها مدّة شهرٍ تُحرَّم فيها إراقة الدّماء، وهي شهر مقدّس لدى أتباع فوغليش.”
التعليقات لهذا الفصل " 86"