“ماذا قلت؟” ، نظرتُ أنا ودانتي إلى إيدموند في الوقت نفسه.
ولسببٍ وجيه، إذ لم نكن قد سمعنا شيئًا من قبل.
كنّا جميعًا مشغولين في الآونة الأخيرة، لأنّنا سننغمس لفترةٍ طويلة في منطقة أومفا، وكان علينا تسليم المهام الأخرى بسرعة.
من بيننا جميعًا، بدا إيدموند الأكثر انشغالًا، فمتى تمكّن من التفكير في خطةٍ أخرى أيضًا؟
“يبدو أنّك كنتَ الوحيد الذي يعلم، أليس كذلك؟”
“على عكسك، لستُ بحاجة إلى إذنٍ من مستشاري في كلّ رأيٍ أبديه.”
أصابَ لوسيد سهمٌ مباشر من إيدموند، ثمّ لوّح الأخير بأوراقٍ من جهة لوسيد وقال: “لقد وصلتُ إلى الحدّ الذي لا أطيق فيه هؤلاء الغرباء و فوغليش. حكمُ الإعدام على بورياس؟ أتظنّ أنّ هذا سيُرضيهم؟ لو كان كلّ ما يريدونه هو قتل ذلك الرجل، لفعلوا ذلك منذ زمنٍ طويل.”
“صحيح، ربما لن يكتفوا بموته فقط.”
أومأ دانتي موافقًا.
“إذن ماذا تقترح؟ نقتل الحرس جميعًا؟”
“هل القتل الأعمى هو كلّ ما يخطر في بالك يا جاهل؟”
“ومن تقول عنه جاهل؟!”
“هل يوجد شخصٌ جاهلٌ غيرك هنا؟”
ضحك إيدموند بخفّة ونظر إلى الحاضرين.
“بيلوفان، الذي تخرّج قبل عامين من الأكاديميّة بمرتبة الشرف الأولى. الكونت رامبرانت، الذي شغل منصب أستاذٍ في الأكاديميّة. دانتي، الذي تخرّج قبل خمس سنواتٍ أيضًا بمرتبة الشرف الأولى. وأوليفيا، أوّل من حقّق العلامة الكاملة في تاريخ امتحانات الخدمة المدنيّة.”
ثمّ أشار إلى نفسه قائلًا: “وأنا، الذي دخلتُ الأكاديميّة في المرتبة الأولى وتخرّجتُ منها باكرًا. لكن ماذا عنك؟ ألم تفشل في امتحان القبول؟”
احمرّ وجه لوسيد فورًا، وكأنّه كُشف عن موضعٍ مؤلمٍ في نفسه. لم أرَ من قبل لوسيد، صاحب الملامح الهادئة دومًا، بهذا القدر من الانفعال.
“ذاك لأنّ …”
تبدّل لون وجهه الأبيض إلى الأحمر ثمّ إلى الأزرق مرارًا.
ضغط الكونت رامبرانت على كتفه بلطفٍ، ولمّا هدأ قليلًا، فتح لوسيد شفتيه التي عضّها حتى سال منها الدم.
“ذاك لأنّي لم أكن أرغب بالذهاب، فتقدّمتُ للامتحان باستهتار! لو أعدتُه الآن لكنتُ دخلتُ في المرتبة الأولى أيضًا!”
امتحان القبول في الأكاديميّة مخصّصٌ لذوي الثانية عشرة من العمر؟
‘لو لم تتمكّن من نيله حتى الآن، فأنتَ حقًّا أحمق.’
يبدو أنّ إيدموند فكّر بما فكّرتُ به أنا أيضًا.
“على كلّ حال، لندخل في صلب الموضوع. ما رأيك، صاحب السموّ إيدموند، بما ينبغي فعله؟”
فتح بيلوفان فمه حين رأى أنّ الوضع بات ضدّ قائده.
“وما الأمر؟ سنقابلهم ونتحدّث.”
أجاب إيدموند ببرود.
“إنْ بادرنا نحن بتقديم شروطٍ كهذه قائلين: ‘سنفعل كلّ هذا من أجلكم، فهلاّ هدأتم الآن؟’، فما الفرق بيننا وبين من يصبّ الزيت على النار؟”
وضع الأوراق على الطاولة بصوتٍ حادّ.
لم يخطر ببالي هذا المنظور من قبل، فعلاً قد يبدو لهم وكأنّنا نُحسن إليهم من موقعٍ متعالٍ.
“لذا يجب أن نلتقي، ونعترف بخطئنا، ونعتذر. ثمّ نسألهم عمّا يريدون. كيف يمكننا أن نُنهي الأمر بسلام دون حربٍ داخليّة؟ أليس هذا هو الترتيب الصحيح؟”
“ماذا؟! أتقترح أن ننحني أمامهم؟!”
قطّب لوسيد حاجبيه فورًا.
من منظوره، فكرةُ الانحناء أمام الآخرين لا تُحتمل أصلًا.
“ألستَ تعلم ما يريدونه؟ إنّهم فقط يبحثون عن فرصةٍ ليستحوذوا على السلطة!”
“ولهذا بالضبط يجب أن نلتقي ونتحدّث، لنعرف إنْ كانوا يريدون السلطة فعلًا أم لا.”
على الطاولة الطويلة، كان أحدهم يتحدّث بحرارةٍ مفرطة، والآخر ببرودٍ قاتل.
“أظنّ أنّ صاحب السموّ إيدموند على حقّ.”
قال الكونت رامبرانت، وهو يمسح نظّارته الدائريّة.
“الذين لا يملكون شيئًا، لا يملكون إلّا كبرياءهم، فيتشبّثون به بكلّ ما أوتوا من قوّة.”
‘ما هذا الكلام؟ مستفزّ للغاية.’
لم أكن الوحيدة التي ضاقت صدرًا به، فدانتي أيضًا كان ينظر إلى الكونت بتبرّمٍ غير معتاد.
“ماذا؟ أتريدون منّي أن أذهب لأعتذر لأولئك الأوغاد؟!”
“جلالتك، لا تقلق. أنتَ سليل الإمبراطور العظيم وصاحب الدم النبيل الوحيد في الإمبراطوريّة، المنتمي إلى أسرة دوق بنفاتول.”
التوتْ عينا الكونت بخبثٍ وهو يتابع: “الانحناء من شيم من لا يملكون شيئًا.”
“الوحيد ذو الدم النبيل؟!”
ما الذي يقوله هذا؟ إيدموند أيضًا أمير!
صرختُ بذلك، فرفع الكونت كتفيه بلا مبالاة.
“ألم أقل؟ قلتُ ذو الدم النبيل. تشه، من تظنّين نفسكِ، أيتها المرأة العامّية، لتتدخّلي في هذا الحديث؟”
كانت كلماته المقزّزة تلسعني كالإبر.
صحيحٌ أنّي امرأةٌ ومن عامة الشعب، وهم نبلاء ورجال، لكن قوله هذا يعني أيضًا أنّ إيدموند ليس من الدم النبيل.
غلي دمي غضبًا، وكدتُ أصرخ بأنّ إيدموند سيصبح وليّ العهد الأسمى ذات يومٍ فليُفِق من أوهامه.
“كفى.”
وضع إيدموند يده بهدوء على قبضتي المرتجفة فوق ركبتيّ.
“إذن سنتّبع اقتراحي؟”
“حسنًا. فمتى نحدّد الموعد؟”
أجاب دانتي ببرودٍ على سؤال بيلوفان: “طالما سنسير وفق اقتراحنا، فليكن تحديد الموعد من جهتكم. يجب أن تشعروا أنكم تقومون بشيءٍ على الأقل.”
كان لوسيد يراقب أوليفيا من النافذة وهي تُصلّي تحت ضوء القمر.
كان منظر ظهرها وهي تتضرّع يبدو مقدّسًا إلى حدٍّ جعله يمدّ يده ويمسح زجاج النافذة ببطء.
صدر صوتُ احتكاكٍ خافت، ثمّ انزلقت قطرة ماءٍ على الزجاج المغبَّش بالرطوبة، لتستقرّ عند موضع عيني أوليفيا تمامًا، وكأنّها تبكي.
لم يُعجبه المنظر، ففرك الزجاج براحته بعنفٍ أكبر.
“جلالتك.”
اقترب منه الكونت رامبرانت.
“ماذا هناك؟”
رمقه لوسيد بنظرةٍ جانبيّة.
“لقد تسرّعت قليلًا في الاجتماع.”
“بمَ تعني؟”
قال الكونت بنبرةٍ خفيّة: “عليك ألاّ تنسى أنّ عيون الإمبراطور تراقب كلّ خطواتنا.”
قبض لوسيد على يده بقوّة.
كان معنى كلامه: لا ترتكب حماقاتٍ يمكن أن تُستغلّ ضدّك لاحقًا.
“لكنّ فيرنون من رجالنا.”
فيرنون هو أحد مستشاري الإمبراطور، زرعه في الأصل تنظيمُ إمباتس كجاسوسٍ في شبكة المعلومات.
“لا يمكن الوثوق بأحد. أتعلم ذلك. من خان من أجل المال سيخون ثانيةً من أجل المال أيضًا. والجاسوس الذي يعمل من أجل المال قد يصبح جاسوسًا مزدوجًا في أيّ لحظة.”
قبض الكونت على كتف لوسيد بقوّةٍ أكبر.
“أيضًا ألا تعرف طبع الإمبراطور؟ إنه لا يثق بأحد أبدًا. لن يحكم بناءً على قول مستشارٍ واحد.”
“أتعني أنّه ربما زرع آخرين أيضًا؟”
“من يدري؟ لهذا السبب يجب أن تكون حذرًا، بل شديد الحذر. من الخادمة التي تنظّف الغرف، إلى السائق، إلى الخادم الذي ينقل الكتب. احذر الجميع.”
كان كلامه منطقيًّا بالفعل.
فإن كانت هذه “الاختبارات” كما وصفها الإمبراطور، مجرّد وسيلةٍ ليرى كيف ينسّق المرء خلافاته مع الآخرين، فلا ينبغي للوسيد أن يدخل في صراعٍ عقيمٍ مع إيدموند، بل أن يسعى لإقناعه.
أن يجعل إيدموند يسير وفق إرادته.
“لذا، لا تغضب من كلمات ذلك الوضيع. تجاهله فحسب. لا بأس بأن تُظهر حماسك في قضيّة أومفا، لكن تذكّر أنّ آذان الإمبراطور في كلّ مكان.”
ابتسم الكونت بتصنّعٍ بعد أن لاحظ امتعاض لوسيد.
“أنا لا شأن لي بنتيجة هذه اللعبة. فقط دع لي مهمّة إغاظة إيدموند.”
كان الكونت يشعر بالضيق حين يتخيّل أنّ هذا الأحمق قد يصبح يومًا إمبراطور الإمبراطوريّة، لكنّه كتم كلماته خلف ابتسامةٍ ناعمة.
فما دام هو القادر على تحريك الإمبراطور كما يشاء، فلا داعي للقلق.
التعليقات لهذا الفصل " 85"