“نعم، كما قال دوق بنفاتول، أليست منطقة أومفا من الأساس تحت نطاق سيادتك يا سيدي؟”
كان صوته مفعمًا بالمزاح كعادته، لكنّ ملامحه كانت جادّة للغاية.
“لهذا السبب، فأنت تعرف عن منطقة أومفا أكثر مني، و يمكنك إقناع الأجانب بشكل أفضل. أمّا أنا، فما زلتُ لا أعرف عنها الكثير، لذا أحتاج إلى وقتٍ لجمع المعلومات.”
“إن كان الأمر يتعلّق بجمع المعلومات، فقد أعددتُ بعض الملفات مسبقًا!”
“كلا، يا صاحب السموّ.”
ابتسم لوسيد بخفّة وهو ينظر إلى جدّه لأمّه.
“هذه تجربةٌ من جلالة الإمبراطور لتقييم أيّنا، أنا أم أخي، الأنسب لمنصب وليّ العهد. لا يمكنني تلقّي المساعدة في مثل هذا الأمر.”
“ولكن!”
“يجب حلّ هذه المسألة بأسرع ما يمكن لتقليل الخسائر البشريّة. إن استطاع أخي حلّها أثناء انشغالي بجمع المعلومات، فذلك أفضل.”
“وإن تمكّن إيدموند من حلّ الأمر أولًا، فلن يبقى لك أيّ فرصة، أترى هذا مناسبًا؟”
عند سؤال الإمبراطور، رمش لوسيد قليلًا ثمّ ابتسم.
“بالطبع. أليس استقرار رعايا الإمبراطوريّة هو الأهمّ؟”
‘هل أكل شيئًا غريبًا؟’، نظرتُ إليه جيئةً وذهابًا. كان وجهه وجه لوسيد بلا شك، لكنّ كلامه لم يكن كلامه المعتاد.
“أحسنت يا لوسيد.”
ابتسم الإمبراطور برضا.
“لكنّي أرغب في منح الفرصة لكلٍّ من الأميرين. ألا ترى أنّ ذلك أكثر عدلًا؟”
“عفوًا؟ ولكن إن حدث ذلك …”
تساءل بعض الوزراء بنبرة استغراب، فألقى كاي نظرة على ابنيه الكبيرين.
“قد يبدو الناس حلفاء في الظاهر، لكنّ آرائهم ليست دائمًا متطابقة. أليس هذا ما يحدث هنا أيضًا؟ أنتم جميعًا نبلاء من نفس الإمبراطوريّة، ومع ذلك آراؤكم مختلفة.”
تململ بعضهم وأشاحوا بنظرهم.
“الإمبراطور الصالح لا يتمسّك برأيه فقط، ولا يسمح بأن يسيطر عليه رأي غيره أيضًا. لذا أريد من الأميرين أن يتناقشا ويتّفقا معًا لحلّ هذه الأزمة.”
“ومن سيصدر الحكم النهائيّ إذًا؟”
طرح دوق بنفاتول سؤالًا حادًّا.
“في كلّ اجتماعٍ أو زيارةٍ لمنطقة أومفا، سيرافقكم رجالي. وسأتّخذ قراري بناءً على تقاريرهم لي.”
أومأ الدوق دون اعتراض، وتبادل النبلاء النظرات والهمسات دون أن يُبدوا معارضة واضحة.
“هل لدى الأميرين اعتراض على ذلك؟”
“كافٍ تمامًا.”
“وأنا موافق.”
نظر الإمبراطور إلى ولديه بإعجابٍ ثمّ أعلن انتهاء الاجتماع.
بدأ النبلاء يغادرون الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ سوى لوسيد وإيدموند يحدّقان ببعضهما بشراسة، حتى خيّل إليّ أنّ الهواء نفسه أصبح حادًّا.
كنتُ أرغب في مغادرة المكان فورًا، لكنّ الجوّ كان ثقيلًا إلى درجة أنّي لم أجرؤ حتى على التنفّس بوضوح، فاكتفيتُ أنا ودانتي بتبادل النظرات بصمت.
“لقد خُدعتُ. لم أتوقّع أن تتنازل لي في تلك اللحظة.”
قال إيدموند كاسرًا الجمود، فردّ لوسيد بابتسامةٍ باردة.
“طالما أنّك كنت المنتصر دائمًا، فليس من الخطأ أن تتنازل لي هذه المرّة، أليس كذلك؟”
“لن أتنازل أبدًا عن مقعد وليّ العهد.”
“آه، بسبب وصيّة أمّكِ الوضيعة؟”
بمجرد سماع ذلك، وقف إيدموند بغضب. ظننتُ أنّ سيفًا سيُشهر، لكنه اكتفى بقبض يده فوق الطاولة.
“جلالة الأمير!”
أمسكتُ بيده بسرعة. بدا واضحًا أنّ ظهره يؤلمه.
“هل أنت بخير؟”
“أنا بخير.”
ضحك لوسيد بخفّة وهو يجمع الأوراق أمامه.
“وأنا أيضًا لن أتنازل. إن فقدتُ هذا، فماذا سيبقى لأمّي المسكينة؟”
ثمّ خرج من القاعة، وصوت الباب يُغلق دوّى في القاعة الخالية.
“آه …”
ظلّ إيدموند واقفًا حتى اختفى صوت الخطوات، ثمّ تجعّد جبينه وسقط جالسًا على الكرسيّ.
“هل الألم شديد؟ أأجلب لك مسكّنًا؟”
أخرج دانتي من جيبه زجاجةً صغيرة فيها أقراصٌ كثيرة.
“لا … يمكنني الاحتمال.”
لكنّه لم يكن قادرًا على الجلوس باستقامة، وجبهته مبتلّة بالعرق البارد.
‘كيف يستطيع الادّعاء بأنّه بخير وهو يحمل هذا الألم دائمًا؟ أهذه كبرياء الرجال؟’، شعرتُ بغصّة، فانتزعتُ الدواء من يد دانتي ووضعته أمام شفتيه.
“أوليفيا؟”
نظر إليّ الاثنان بدهشة.
“خذ الدواء. لن تتمكّن من العمل إن بقيتَ متألّمًا.”
وضعتُ كأس الماء على الطاولة أمامه.
لم يتبقَّ سوى ثلاثة أشهر تقريبًا على عيد ميلادي.
كان عليّ أن أُسرع لجعل إيدموند وليًّا للعهد.
***
تمّ تجهيز مكتبٍ مؤقّتٍ في القصر الإمبراطوريّ.
بعد أن تشاجر الاثنان حول من يستضيف الاجتماعات في قصره، اضطرّ المساعد الإمبراطوريّ فيرنون إلى تحويل إحدى غرف الضيوف في القصر إلى مكتبٍ خاصّ.
وبسبب تأخّر التجهيزات، لم أستطع المغادرة بعد انتهاء وقت الدوام، واضطررتُ إلى التوجّه مع دانتي إلى القصر حاملَين المستندات المنظّمة.
“مرحبًا، أوليفيا.”
حيّاني لوسيد مبتسمًا مع مساعديه الاثنين.
أحدهما كان بيلوفان، الذي كان يعمل سابقًا في مكتب إيدموند قبل أن يأخذه لوسيد، والآخر كان ابن عمه الكونت لامبرانت.
“ألستَ تراني هنا؟”
“منذ متى كنّا نُبادل التحيات بلُطف؟”
“ولِمَ لا؟ لقد ناديتَني أمام الإمبراطور بكلمة ‘أخي الكبير’ بسعادةٍ كبيرة.”
“هل كنتَ تتوق لسماعها؟ لو قلتَ ذلك سابقًا، لأصبحتُ أخًا صغيرًا لطيفًا جدًا.”
“هل تودّ الموت؟”
بينما كان الشجار الطفوليّ مستمرًّا بينهما، سلّم الكونت لامبرانت – وهو الأكبر سنًّا بينهم – أوراقًا منظّمة إلينا.
“لقد رتّبنا كلّ البيانات الموجودة لدينا.”
‘يا للروعة، منظّمة بشكل مذهل.’
ربّما الخبرة الطويلة لا يمكن تجاهلها. كنتُ أظنّ أنّ دانتي يُنظّم الملفات بإتقان، لكنّ هذه كانت أكثر ترتيبًا منه بمرّات.
“وفي الصفحة التالية، كتبنا مقترحنا للتوسّط في أزمة منطقة أومفا.”
‘لقد فكّروا في خطّة وساطة بالفعل؟’
سارعتُ بتقلّب الأوراق.
[1. إعدام بورياس
2. نقل سكن الحرس الإمبراطوري
3. إعلان استقلال منطقة أومفا]
“مهلًا، البند الثالث … ما هذا؟”
“كما هو مكتوب. سنؤسّس دولةً مستقلّة للأجانب.”
‘ماذا؟’ شعرتُ وكأنّي أسمع لغةً غريبة للمرّة الأولى.
رغم أنّ منطقة أومفا كانت واسعةً كإحدى الدوقيّات، فهل سيجعلونها دولة مستقلّة؟ ما معنى كلّ جهودنا السابقة إذًا؟
“أيّ تفاهةٍ هذه؟ أومفا لا يسكنها الأجانب فقط.”
“أخي، بالطبع أعلم أنّ فيها مواطنين من الإمبراطوريّة، لكنّهم جميعًا أشخاص لا قيمة لهم على أيّ حال.”
حرّك لوسيد قلمه بخفّة.
“بصراحة، كانت أومبا دائمًا مشكلة. لقد كانت من المناطق التي تنازلنا عنها قبل خمسة عشر عامًا أثناء الحرب الأهليّة.”
نشر خريطة العاصمة أمامه.
“بعد تلك الحرب، سُمح للأجانب بالإقامة في منطقة أومفا. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المنطقة شبه خراب.”
قبل خمسة عشر عامًا، عندما أصبح كاي إمبراطورًا، كان شرط إنهاء الحرب الأهليّة الوحيد الذي طلبه الأجانب هو السماح لهم بالإقامة قانونًا في منطقة أومفا. وهكذا عاش معظمهم هناك. لكنّ المنطقة كانت بالأصل حيًّا فقيرًا، لم تتحوّل إلى خرابة بسببهم. فلماذا يُحمّلهم اللوم؟
“إذًا، تريد فصل أومفا وجعلها وطنًا مستقلًّا لهم؟ وجمع جميع الأجانب في الإمبراطوريّة هناك؟”
لم يُبالِ لوسيد بسخرية إيدموند.
“هؤلاء لا فائدة منهم في الإمبراطوريّة، أليس من الأسهل أن يعيشوا معًا في مكانٍ واحد؟”
“سخيف.”
أغلق إيدموند القلم بعد أن رسم علامة X كبيرة على البند الثالث.
“بالنسبة للبند الأول، أتّفق. كان يجب إعدام بورياس. لم يتوقّع أحد أن يُحكم ببراءته.”
الجميع ظنّوا أنّه سيُدان، إن لم يكن بالإعدام فبالسجن المؤبّد. لم يتوقّع أحد الحكم بالبراءة.
“أما نقل سكن الحرس، فحسنًا، بما أنّ الكراهية بين الجانبين بلغت ذروتها، فلا بأس.”
رسم إيدموند علامة مثلّث على البند الثاني.
“لكنّ الثالث … هذا يعني إلغاء كلّ ما سعى إليه جلالة الإمبراطور طوال خمسة عشر عامًا.”
خمسة عشر عامًا من الجهود التي بذلها كاي في سبيل التفاهم بين الأجانب ومواطني الإمبراطوريّة.
“إن أصبحوا دولة مستقلّة في هذا الوضع، فذلك لن يكون حربًا أهليّة بعد الآن، بل حربًا بين دولتين.”
‘حرب.’
كانت الكلمة ثقيلة بما يكفي لتُخيم الصمت على القاعة.
“إذًا، ما خطّتك يا ذكيّ؟ لا يبدو أنّ لديك فكرة أفضل.”
التعليقات لهذا الفصل " 84"