ثار الأجانب غضبًا، بينما هتف رفاق بورياس فرحين: “بورياس، لقد نَجَوت!”
وبين هذا وذاك، وقفنا نحن مصدومين من النتيجة.
“هذا… لا يُعقَل…”
تمتمت إيكلا وتقدّمت بخطوة نحو منصة المحكمة.
“انتظري، إيكلا!”
بدت وكأنها على وشك ارتكاب حماقة.
لكنّ رؤية الآخرين من الأجانب لها وهي تتقدّم أثارتهم أيضًا، فصرخوا محتجّين على القاضي: “هذا حكم متحيّز!”
“كلّ مواطني الإمبراطورية نفايات! أيّ بلدٍ هذا؟!”
“كيف يكون ذلك؟! زوجي مات ظلمًا، وهذا الحقير بريء؟ بريء؟!!!”
بين بكاء فيليا المذعور وغضب الأجانب، صرخ أحد الحرس الإمبراطوريين قائلًا: “ينبغي أن تشكرونا لأننا نحرس أمثالكم!”
“صحيح! هؤلاء الأجانب القذرون، ظنّوا أن لهم حقوقًا لأن جلالته يعاملهم بلين مؤخرًا!”
تبادل الطرفان الإهانات، وما لبث أن اشتعلت المعركة بين الغرباء ومواطني الإمبراطورية داخل قاعة المحكمة.
“سموّ الأمير، الأوضاع تزداد سوءًا.”
وكما قال دانتي، بدأت الأجواء تتوتّر بشدّة.
حتى فيليكس بدا متحفّزًا وهو يحمي الأمير إيدموند.
كان الأجاني يصرخون بأنّ الحكم ظالم، بينما الحرس يتلفّظون بازدراء عليهم.
“الهدوء!”
رفع إيدموند يده فتوقّف الجميع، وانحنى القاضي أمامه احترامًا.
“بأيّ منطقٍ بُرِّئ هذا الرجل؟”
أجاب القاضي الذي عرّف نفسه باسم موراك فالاي ببرود: “لم تُثبَت نية القتل على بورياس، وتبيّن أنّ ما حدث لم يكن سوى حادثٍ عرضي.”
“غير معقول! حتى لو كان حادثًا، فقد وجّه الحارس سلاحه نحو مدني!”
صرختُ، لكن موراك لم يُجبني، بل اكتفى بالنظر نحوي ببرود، ثم جمع أوراقه وطرق على المنضدة مرتين ورتّبها قبل أن يغادر القاعة دون التفات.
“انتظر، لحظة واحدة!”
صرختُ، لكنه لم يلتفت.
“اقتلوا!”
“الموت له!!”
وفي لحظةٍ واحدة، تحوّلت القاعة إلى فوضى عارمة.
“أعيدوا لي زوجي!!!”
“هذا كلّه لأنكم أنشأتم الحرس المدني! لأنكم أعدتم تطوير منطقة أومفا!!”
وبين هذا الغضب المتصاعد، وُجّهت الأنظار الغاضبة نحو إيدموند.
“إنه بسببه!”
“لو أنه فقط تركنا وشأننا!!!”
تحوّلت العيون الحمراء الغاضبة نحونا.
“سموّ الأمير …”
تقدّم فيليكس ليقف أمامه وهو يُراقب الوضع حولنا.
“علينا مغادرة المكان فورًا.”
“لكن …”
حاول إيدموند أن يُقنعهم، لكن لم يعد أحدٌ يسمع صوته.
الغضب أعمى العقول.
***
تدهور الوضع بسرعة.
فبعد أن قُتِل بانديون ظلمًا، وأُعلِن بورياس بريئًا، أقدم أحد الأجانب المنفعلين على قتل طفلٍ في الساحة بضربة حجر على رأسه.
والمأساة أنّ الطفل كان من عائلةٍ نبيلة — ابنة أخت الإمبراطورة إمباتس، وابنة خالة لوسيد.
وحُكم على الغريب بالإعدام بتهمة القتل العمد لا العرضي.
عندها بدأ الغرباء يتجمّعون ويحتجّون بجدّية.
عند بوابة القصر الإمبراطوري، وفي الساحات، وحتى عند الأسواق، كانوا يوقفون عربات النبلاء ويصرخون بشعاراتٍ غاضبة.
فانعقد اجتماعٌ طارئ على الفور.
ولأنّ الموقف كان عاجلًا، استُدعيتُ أنا أيضًا بصفتي مستشارة، فقد عُرِفتُ بأفكاري غير التقليدية في الاجتماعات السابقة.
ما إن دخلتُ قاعة الاجتماع حتى دوّى صوت دوق بنفاتول غاضبًا: “بأيّ حقٍ يفعل هؤلاء ما يفعلون! كلّ هذا بسبب سياسات جلالته التي دلّلت الأجانب! لقد زادهم ذلك وقاحة! وفي النهاية، هؤلاء المتوحّشون هم من قتلوا طفلًا نبيلًا كان مستقبلُه مشرقًا!”
“لكن لولا تبرئة بورياس من البداية، لما وصل الغضب إلى هذا الحد!”
“حُكم عليه بالبراءة لأنّه كان بريئًا، هذا ما قرّره القاضي!”
“كيف يُمكن تبرئة قاتل؟!”
لكنّ الاجتماع بدا بلا جدوى.
فالخيار الوحيد الفعّال هو إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة.
غير أنّ القاضي نفسه، بعدما أدرك خطورة الموقف، قدّم استقالته واختفى من العاصمة. تصرّفٌ جبان.
تنفّس إيدموند بعمق وقال بنبرةٍ حازمة: “إن كان لديكم طاقةً للشجار، فاذهبوا واستخدموها في حلّ الأزمة خارج هذه الجدران.”
سكن المكان فورًا.
“ما الوضع في منطقة أومفا الآن بالضبط؟”
“إنهم متحصّنون عند مدخل المنطقة، يحملون الأسلحة التي وُزّعت سابقًا على الحرس المدني، والوضع على وشك الانفجار.”
إنه حقًّا وضعٌ على حافة الحرب.
“هل نحن أمام حربٍ أهلية جديدة؟”
رغم أنّ الشمس كانت تُضيء الغرفة من النوافذ، خيّم شعورٌ ثقيل وكئيب، حتى صوت إيدموند اتّشح بالسواد.
اختار الجميع الصمت عند سماع كلمة “حرب أهلية”.
لقد عاش الجميع أهوال الحرب السابقة قبل خمسة عشر عامًا، حين اضطُرّت الإمبراطورية إلى إنهائها بقبول إمبراطورةٍ غريبةٍ ووليّ عهدٍ نصف دم، رغم اعتراض النبلاء.
كنتُ قد قرأتُ في المعبد كتابًا كتبه أحد الجنود عن تلك الحرب: «حين اخترقت الرصاصات أذرعهم، عضّوا أيدينا بأسنانهم. كانوا كوحوشٍ هائجة. حتى بعد أن اخترقت الرصاصات أحشاءهم، ظلّوا يندفعون ليقتلوا واحدًا منّا على الأقل. عندها، عرف النبلاء الخوف الحقيقي — لأنّهم كانوا أصحاب ما يخشون فقدانه»
عند قراءتي له، فهمتُ لماذا قبلوا بتلك المصالحة المريرة.
“يجب ألا نسمح باندلاع حربٍ أخرى.”
كان صوت الإمبراطور أخيرًا، مُثقلًا بالحزن. بدا هزيلًا بسبب مشاكل أومفا الأخيرة.
“جلالتك، وصلتَ”
قال أحدهم مندهشًا.
“لكن، يا صاحب الجلالة، هل سنقف مكتوفي الأيدي أمام تصرّفاتهم الجاهلة؟!”
“صحيح، لقد قتلوا الآن فتاةً نبيلة بريئة!”
“حتى هم كانت لهم أسبابهم للغضب. ثم إنّ هذا الأجنبي قد حُكم عليه بالإعدام بالفعل.”
ساد الصمت بعد كلام الإمبراطور، وتبادل النبلاء النظرات المتوترة.
لكنّهم علموا أنّ للإمبراطور سببًا وجيهًا لكلامه.
فالفتاة النبيلة التي ماتت كانت قد دهست أحد الغرباء بعربتها في الساحة من قبل، ولم تُقدّم له أيّ علاج، بل شتمته لأنه وسّخ عربتها.
“لكن، يا جلالة الإمبراطور، ألن نردّ؟! أولئك المتوحّشون لم يرفعوا السلاح بعد، لكن لا أحد يضمن ألا يهاجمونا!”
“المتوحّشون؟!”
ضرب الإمبراطور الطاولة بقبضته، فاهتزّت طاولة “أليستا” الضخمة التي تجمع اثني عشر نبيلًا.
“المتوحّش هو من يدهس طفلًا ولا ينزل من عربته! المتوحّش هو من يُطلق النار على الناس ويُعلَن بريئًا! هؤلاء هم الوحوش! فمَن سواهم يُسمّى وحشًا؟!”
تجمّدت القاعة من شدّة غضبه.
حتى النبلاء الموالون له خفضوا رؤوسهم احترامًا.
كان من المعروف أنّ الإمبراطور لم يكن يملك السلطة الكاملة لأنّ النبلاء أوصلوه للعرش، لكنّ غضبه اليوم دلّ على أنّ الأمر بالغ الخطورة.
“فما خطّتك لحلّ هذه الأزمة، يا جلالة الإمبراطور؟”
كان من تجرّأ على السؤال هو الكونت سافلمان.
عائلته من النبلاء المحافظين، لكن الكونت الحالي كان يكنّ ضغينةً واضحة للوسيد، وهذا ما جعلني أظن أنّنا قد نستميله إلى جانب الأمير إيدموند.
“سأُوكل هذه المهمة إلى الأميرين. لتكن آخر اختبارٍ لهما.”
توجّهت الأنظار فورًا نحو لوسيد وإيدموند.
شدّ إيدموند جسده استعدادًا، بينما ابتسم لوسيد ابتسامةً هادئة كعادته.
“لكن يا جلالة الإمبراطور، هذه المرة الوضع عاجل. قد تنفجر الحرب في أيّ لحظة!”
“صحيح، لا يمكن أن يبدآ في الوقت نفسه!”
وكانا على حق. فالمهام السابقة كانت إداريّة وبطيئة، لكن هذه المرة الوضع متفجّر.
ولا يمكن أن يتقدّم كلٌّ منهما بخطةٍ مختلفة، لأنّ الإمبراطورية لا تحتمل حلّين متعارضين.
صرخ دوق بنفاتول: “إذًا فليبدأ الأمير لوسيد هذه المرة!”
“لكن منطقة أومفا تقع تحت مسؤولية الأمير إيدموند أصلًا! لذا فمن الطبيعي أن يبدأ هو!”
“بل على العكس! لأنّ الأمير إيدموند فشل في إدارة تلك المنطقة، فهو المسؤول عن اندلاع هذه الأزمة!”
تطايرت رذاذات لعابه وهو يصرخ بانفعال.
حينها فقط، تكلّم لوسيد الذي ظلّ صامتًا طوال الوقت: “فليبدأ أخي الأكبر أولًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 83"