لم يكن هناك وقت لأسأله لماذا حماني. كان فيليكس قد أمسك بالمرأة الّتي حاولت الهرب، وركض دانتي لاستدعاء الطّبيب.
أمّا إيكلا فقد جلست على الأرض وهي ترتجف من الذّعر.
“جلالتك ، هل أنتم بخير؟”
خرج صوتي ضعيفًا ومرتعشًا، فابتسم إيدموند قائلًا: “وأنتِ؟ هل أصابك شيء ولو قليلًا؟”
كان يركّز فقط على خوفي، فمدّ يده المترجّفة وأمسك بيدي ليهدّئني.
“لقد ارتعبتِ، لكن لا بأس. لا تقلقي.”
“لقد حماني جلالتك ، لذا أنا بخير. ماذا عنك أنت؟ هل أنت بخير حقًّا؟ هل تشعر بالألم؟”
“نعم. آه …”
لم يُجبني إيدموند عن سؤالي الأخير. مسحتُ دموعي على عجل ونظرتُ إلى ظهره.
كان قميصه ملتصقًا بجلده من الكتف إلى الخصر، وما زالت الأبخرة تتصاعد من جسده. لا بدّ أنّ الماء كان شديد السّخونة.
“جلالتك، يجب خلع هذا فورًا!”
بدت إيكلا وقد استعادت وعيها وهرعت نحو إيدموند، مردّدةً “يا إلهي” وهي تحاول نزع قميصه.
“لحظة، توقّفي!”
منعتُها من الاقتراب.
“لماذا؟ ألا ترين كم يتألّم؟!”
كانت محقّة، فوجه إيدموند كان متشنّجًا من شدّة الألم.
“هل لدى أحدٍ مقصّ؟”
“مقصّ؟ لماذا؟ يمكننا نزع القميص فحسب!”
“لا أرى مدى شدّة الحرق، لكنّي سمعت أنّ نزع الملابس بالقوّة قد يكون خطرًا في مثل هذه الحالات.”
رغم أنّ ذهني كان مشوّشًا تمامًا، إلّا أنّي كنتُ أستحضر ما قرأتُه من قبل عن الإسعافات الأوّليّة للحروق. هل كان هذا حرق ماءٍ مغليّ أم حرق نار؟ لا أستطيع التّفكير بوضوح.
‘اهدئي يا أوليفيا. لقد قرأتِ هذا في النصوص العلميّة غير القصصيّة عدّة مرّات.’
“ها هو المقصّ!”
ناولني أحدهم مقصًّا.
“السيّد سبير؟”
لقد كان سبير، الّذي لم يعُد يبيع على الرّصيف بل صار يملك متجرًا حقيقيًّا.
‘صحيح، نحن بالقرب من متجره.’
“ما الّذي تفعلينه؟ أسرعي بعلاجه!”
أومأتُ برأسي وأخذت المقصّ. عودة البرودة المعدنيّة إلى يدي جعلتني أستعيد رباطة جأشي.
“تقصّين القميص؟ ألم يكن من الأسهل نزعه؟”
“إن كان القماش ملتصقًا بالجرح، فقصّه أفضل.”
كنتُ أقطع بعناية خوفًا من أن أجرح جلده، ومع كلّ صوت قَصٍّ كان يظهر اللّحم المحترق شيئًا فشيئًا.
‘هذا يبدو كحرقٍ من الدّرجة الثّانية.’
“ماءٌ بارد! سبير، أحضر ماءً باردًا من فضلك!”
جاء سبير بسرعة يحمل إناءً مملوءًا بالماء وقدّمه لي.
“ها هو!”
سكبتُ الماء البارد ببطءٍ على جرح إيدموند.
“آه!”
تألّم كثيرًا، فزمّ شفتيه وأطبق قبضته. لم أُصب بحروقٍ من قبل، لكنّي سمعتُ كثيرًا عن شدّة ألمها، فبدأت دموعي تسيل من تلقاء نفسها.
“لماذا تبكين؟”
“لكن هذا …”
‘إنّه بسببي…’
مسح دموعي وابتسم.
“أنا من يتألّم، فلماذا تبكين أنتِ؟”
كرهت نفسي لأنّي لم أستطع أن أقول له إنّي أبكي لأنّه هو من يتألّم.
“لا تجعلي الشّعور بالذّنب يثقل قلبك. أنتِ مُساعدتي، ومن الطّبيعي أن أكون أنا من يحميكِ.”
كانت كلماته حازمة، تُغلق الباب أمام أيّ معنى آخر غير علاقة الرّئيس بمرؤوسه. لم أستطع سوى الإيماء برأسي.
“جلالتك! جلالتك!”
عاد دانتي في تلك اللحظة ومعه طبيب البلاط الإمبراطوريّ.
“ما الّذي حدث بالضّبط؟!”
أخرج الطّبيب شاشًا معقّمًا ومحلولًا ملحيًّا من حقيبته البُنيّة.
“لقد أصيب بحرق، فقصصتُ ملابسه وسكبتُ الماء البارد عليه. أظنّنا برّدناه لعشرين دقيقة تقريبًا.”
نظر إليّ الطّبيب بسرعة ثمّ وضع المحلول جانبًا، وبدأ بتغطية الجلد المحمرّ والمليء بالبثور بالشّاش الأبيض.
“أحسنتِ التّصرّف. لو حاولتم نزع الملابس بالقوّة لتضرّر الجلد أكثر.”
“كما توقّعت.”
قالت إيكلا وهي تساعد إيدموند على النّهوض ، “يبدو أنّها تعلّمت الكثير لأنّ حبيبها طبيب.”
“آه، إذًا هذه هي الآنسة الّتي يواعدها غالرهيد؟”
‘لماذا يُذكر غالرهيد في كلّ مرّة؟ مَن يتحدّث عن هذا أثناء المواعدة؟ لقد تعلّمتُ هذا بنفسي، من القراءة!’
“ليس كذلك.”
قال إيدموند وهو يعتلي العربة بمساعدة دانتي.
“هي تعرف الكثير من تلقاء نفسها.”
“عفوًا؟”
سألت إيكلا غير مستوعبة.
“لم يُعلّمها غالرهيد شيئًا، هي تعرف بنفسها. حتّى مضادّ سمّ سمكة البانتول كان من اكتشاف أوليفيا.”
“آه، تذكّرتُ الآن. بفضل استجابتها السّريعة آنذاك تجنّبنا كارثة.”
التفت الطّبيب إليّ قائلًا: “أوه، أنتِ تلك الفتاة إذًا. إن كنتِ مهتمّة بالطبّ، هل تودّين التدرّب تحت إمرتي؟”
“لن يحدث ذلك.”
أجاب إيدموند بدلًا منّي قبل أن أنطق.
“ستبقى مُساعدتي، فلا تُفكّر بالأمر. هيا بنا. ماذا عن تلك المرأة؟”
“لقد أمرتُ باحتجاز فيليا في مكانٍ آمن.”
قال دانتي، فنهض إيدموند من مقعده.
“سأرافقكم!”
قالت إيكلا بسرعة وصعدت العربة.
كانت العربة لأربعة أشخاص فقط: إيدموند، دانتي، الطّبيب، وإيكلا. أمّا فيليكس فامتطى جواده كحارسٍ منفصل. وهكذا لم يتبقَّ لي مكان.
“أوه، أوليفيا، ماذا نفعل الآن؟”
قالت إيكلا متردّدة وهي تلمس خدّها.
“ربّما إن جلسنا متلاصقين بعض الشّيء؟”
“لا، لا داعي!”
كان إيدموند لا يستطيع الاتّكاء على ظهر المقعد، فيأخذ حيّزًا أكبر. كان بحاجةٍ للراحة، فكيف أضيف نفسي فوق ذلك؟
“سأبقى هنا لأُكمل التّحقيق. جئنا في الأصل لمعرفة ما حدث.”
نظرتُ حولي. بعض النّاس كانوا يختبئون من الخوف، وبعضهم جاء متأخّرًا ليرى ما جرى، وآخرون لا يزالون ينظرون إلينا بعداء.
“ستبقين وحدكِ؟”
قطّب إيدموند حاجبيه، إمّا بسبب الألم أو بسبب اعتراضي.
“لا. سنعود معًا لاحقًا … آه!”
تألّم حين مدّ ذراعه نحوي.
“منطقة أومفا لم تعد خطرة كما كانت.”
حين اختُطفتُ، كانت تعجّ باللّصوص، لكن الآن لم يعُد الأمر كذلك. الوضع ليس مثاليًّا، لكنّي أردتُ أن أؤمن بالتحسّن.
“رغم ذلك، لا تبقي وحدك … فيليكس!”
“لكنّ جلالتك لست بخير الآن، و السيد فيليكس يجب أن يبقى بجانبك.”
“إذًا سأبقى أنا معها.”
قال دانتي محاولًا النّزول، لكن إيدموند هزّ رأسه.
“مهاراتك القتاليّة سيّئة، حتّى إيكلا تقاتل أفضل منك.”
“جلالتك، هذا قاسٍ!”
قال دانتي متدلّي الشّفاه.
“على الأقل أنا رجل، أليس ذلك أفضل؟”
نظرتُ إليهما دون قصد، أُقارن بين دانتي وإيكلا.
“أوليفيا، نظرتكِ مؤلمة قليلًا.”
قال دانتي وهو يُنزل رأسه خجلًا.
“آه، آسفة.”
رغم الموقف، لم أستطع إنكار أنّ إيكلا، بجسدها الرّياضي، بدت أكثر قدرةً من دانتي دائم الجلوس. عندها تكلّم فيليكس.
“سأترك فاكيل لحمايتها. لقد رافقها من قبل، وسيؤدّي دوره جيّدًا.”
‘هل كان لديّ حارس طوال هذا الوقت؟’
أحيانًا كان فيليكس يرافقني، لكن منذ متى؟ نظرتُ إلى إيدموند، فالتقت عينانا.
“إذًا، لننطلق.”
“آه، نعم! انطلقوا!”
كنتُ أريد أن أسأله منذ متى وضع حارسًا لي، ولماذا. لكنّي كنتُ واثقة أنّ الإجابة ستُربكني. فاكتفيتُ بالنّظر إلى ظهره وهو يبتعد.
“هاه، لا يمكنني الوقوف هكذا. عليّ أن أعمل.”
لقد أُصيب إيدموند بسببي، فلا يمكنني الرّجوع دون نتيجة.
ما كان اسم الحارس؟
“السّيد فاكيل؟”
“نعم، آنسة أوليفيا.”
“آه!”
قفز رجلٌ قصير القامة لكن قويّ البنية من فوق شجرة، فأخافني.
“آه، أعتذر إن أرعبتُكِ. أنا فاكيل.”
“منذ متى وأنت تحرسني؟”
رفع يديه وعدّ بأصابعه.
“منذ اليوم الّذي أصبتِ فيه بطلقٍ ناريّ بدلًا من جلالته، عندما كان القتلة يتعقّبوننا.”
ثمّ ابتسم ابتسامةً عريضة.
“جلالته يهتمّ بكِ كثيرًا. كنتُ أتبَعكِ كلّ يوم خارج القصر الإمبراطوريّ.”
التعليقات لهذا الفصل " 81"