مع ذلك، كان عليّ أن أقوم بواجبي.
ففي ظلّ غياب مساعدة إيكلا، عليّ أن أساعد إيدموند ليصبح وليّ العهد.
كالعادة، ذهبتُ إلى العمل في الصباح الباكر.
لم يكن إيدموند موجودًا.
كان من المفترض أن يكون قد وصل في هذا الوقت عادةً.
صحيح أن تركيزي كان أفضل بغيابه، لكنّ الجلوس وحدي في المكتب الواسع جعل البرد يتسلّل إليّ.
أخرجتُ البطّانية التي كانت ناتاشا قد أحضرتها سابقًا ليستخدمها أيّ أحد، وعلّقتها على كتفيّ ثمّ بدأتُ العمل.
‘آه، انتهيتُ أخيرًا’
شيءٌ كهذا يُمكن إنهاؤه بهذه السرعة؟ لقد ظللتُ متمسّكة به بالأمس طوال الوقت … يا لي من حمقاء.
‘لكن على أيّ حال، ألن يأتي فعلًا؟’
حتى بعد أن أنهيتُ هذا الكمّ الكبير من الأوراق، لم يأتِ إيدموند.
كانت الشمس تشرق.
تذكّرتُ اليوم الذي أعددتُ له القهوة لأوّل مرّة.
كانت خيوطٌ رفيعة من الضوء تتسلّل ببطء لتُضيء المكتب.
ذلك الضوء الدافئ أحاط بي كما لو كان حضنَ أمّ.
بدأ من مقعد إيدموند، ثمّ حافة مكتبه، ثمّ السجّادة المزخرفة.
وكان الغبار المتراكم طوال الليل يرقص تحت الضوء كأنّه ذراتٌ راقصة.
وما هي إلا لحظات حتى ارتفعت شمس الصباح تمامًا.
فُتح الباب فجأة.
“اليوم جئتِ باكرًا.”
غمر النور المكتب بأكمله، وأحسستُ بالدفء يسري في جسدي.
آه، لقد أدركتُ أنّ نوري الحقيقيّ هو إيدموند.
“نعم، لقد حضرتَ.”
وضعتُ كفّي على وجنتَيّ اللتين احمرّتا فجأة، وألقيتُ التحيّة.
شعرتُ بدقّات قلبي تهتزّ في صدري بحرارة.
جلس إيدموند في مكانه بهدوء وهو يُرتّب معطفه.
“هـ، هل أُحضِر لك قهوة؟”
“لا، لقد شربتُ قبل المجيء.”
“أفهم، حسنًا.”
كنتُ أريد أن أتناول القهوة معه وأتحدّث عن الأفكار التي خطرت لي بالأمس، لكنّي اكتفيتُ بغلي الماء وأنا غارقة في التفكير كيف أبدأ الحديث.
“هل تشعرين بالبرد؟”
“نعم؟”
“البطّانية.”
آه، صحيح، ما زلتُ أرتديها.
أسرعتُ بخلع البطّانية الحمراء التي كانت تجعلني أبدو كالأبطال الخارقين، وعلّقتها على ذراعي.
“حسنًا، الشتاء قادم على أيّ حال. يبدو أنّ علينا إشعال المدفأة قريبًا.”
تمتم إيدموند وهو يقلب الأوراق.
ارتفع صوت تقليبها، وانتشر بخار القهوة في الجوّ.
تمنّيتُ أن أستطيع التركيز جيّدًا اليوم، فارتشفتُ رشفةً من القهوة.
“هل لديكِ الكثير من العمل؟”
كنتُ أكتب التقارير التي خطّطتُ لها بالأمس حين سألني إيدموند.
كان من المفترض أنّه يعرف ما كُلّفتُ به، فهو من يُوزّع المهام، فما الذي يقصده؟
“بما أنّك كنتِ متوعّكة مؤخرًا، قلّلتُ عنكِ العمل قليلًا، فاستغربتُ أنّك تعملين منذ الصباح الباكر.”
تردّدتُ في الردّ، فاكتفى بإضافة جملةٍ أخرى.
فهمتُ عندها أنّ قلّة الأوراق بالأمس كانت من باب الاهتمام.
“يُمكنك أن تُعطيني العمل كالمعتاد، لقد تعافيتُ تمامًا.”
قلتُ وأنا أعبث بالقلم في يدي.
“في الحقيقة… لقد خطرت لي فكرة جيّدة فجأة بالأمس.”
“فكرة جيّدة؟”
ابتسم إيدموند فجأة بعدما كان وجهه متجهّمًا.
هل قلتُ شيئًا خطأ؟
لكن مهما أعدتُ التفكير، لم يكن في كلامي شيءٌ يُضحك.
“لماذا تضحك؟”
هل هناك شيءٌ على وجهي؟
أيمكن أن يكون عالقًا بين أسناني بعض من طحالب البحر التي أكلتُها صباحًا؟
“فقط … لأنّي أدركتُ أنّك لم تكوني تفكّرين في العمل فقط أثناء موعدنا.”
كان وجه إيدموند مملوءًا بالحنين وهو يقول ذلك.
“هذا مطمئن.”
ما الذي يُطمئنه في هذا؟
انخفض رأسي لأنّ أنفي كان يؤلمني من شدّة الوخز.
حدّقتُ طويلًا في طرف الورقة وأنا أُخفي وجعي.
كانت الورقة البيضاء تتلوّن بالحبر الأسود، ووددتُ لو أنّ أحدًا يُخفي قلبي كما تُخفى تلك الكلمات.
بقيتُ مطأطئة الرأس، أبتلع الحزن في صمت.
***
“فكرة جديدة، تقولين؟”
كان ذلك في اجتماع موظّفي مكتب إيدموند.
ناولتهم التقرير وأنا أشعر بالتوتّر.
“في الواقع، زرتُ منطقة أومفا بالأمس. ومسرحيّتنا هناك أثمرت نتائج غير متوقّعة.”
رويتُ لهم ما رأيتُه في أومفا والخطة الجديدة التي خطرت لي.
“فكرة جيّدة.”
قالت ناتاشا بتفاعل إيجابي.
“حتى أنا، كثيرون يسألونني من أين اشتريتُ هذا الكيس الصغير.”
كنتُ أستخدمه كمحفظةٍ للنقود، بينما تستخدمه ناتاشا لحفظ أدوات التجميل.
“النقش دقيق جدًّا. لو كان أكثر فخامة قليلًا، فالأرستقراطيون سيُبدون اهتمامًا حتمًا.”
قالت مارغو وهي تُخرج حقيبتها المطرّزة أيضًا.
“إذًا الأهم هو أيّ متجر أقمشة سنتعاون معه. التطريز يحتاج إلى قماش متين نوعًا ما. ماذا عن الحرير؟”
“بل لما لا نُدرج أعمال نيكيتا اليدوية أيضًا؟”
اقترح كامبيل، فأومأتُ موافقة.
“مهارة نيكيتا في الخشب والزجاج مذهلة. منتجاته عمليّة جدًّا، لكن لو أضفنا لمسةً من الفخامة فستُباع للأرستقراطيين بسهولة” ، أضافت إيكلا.
وكانت على حقّ.
فنيكيتا ماهرين في النقش على الزجاج، ومن المؤكّد أنّهم سيبرعون في صياغة المعادن الثمينة أيضًا.
إن صنعوا سيوفًا منقوشة أو حُليًّا مزيّنًا بالأحجار الكريمة، فسيُعجب بها النبلاء.
“لذا أودّ أن أطلب منكم شيئًا.”
قلتُ بنبرةٍ جادّة وأنا أنظر إلى الجميع.
“أوّلًا، علينا إيجاد متجر أقمشةٍ يوافق على التعاون مع فوغليش.”
فبسبب غلاء الحرير، قد يرفض بعضهم تسليم العمل إلى فوغليش.
“وإن نجح المشروع، سنحتاج إلى التوزيع، لذا علينا أيضًا معرفة المتاجر التي يمكنها بيع هذه المنتجات.”
قالت ماؤغو وهي ترفع يدها: “سأتولّى البحث عن متاجر الأقمشة. أعرف بعض المتاجر التي يديرها عامّة الناس، لا الأرستقراطيون.”
فتابعت ناتاشا: “وأنا سأتولّى التحقيق بشأن البوتيكات.”
جلس إيدموند يستمع بصمت وكأنّه يُفكّر.
“لكن هناك الكثير من المنتجات المطرّزة على الحرير بالفعل. صحيح أنّ تطريز آريان فريد من نوعه، لكن … هل سيُفضّلون شراءه؟”
كانت شكوك إيدموند في محلّها، فالإمبراطوريّة تضمّ بالفعل العديد من الحرفيّين الماهرين.
“لهذا فكّرتُ في أمرٍ إضافي.”
شعرتُ بنظرات الجميع تتّجه إليّ.
“ما هو؟”
“هل لديكِ طريقة جيّدة؟”
استحضرتُ في ذهني مشهد الناس في أومفا.
“أنوي تعديل مسرحيّة ‘روميو وجولييت’ قليلًا.”
“المسرحيّة؟”
“نعم، وسأحتاج مساعدتكم أيضًا.”
“ماذا تعنين بذلك؟”
كانت فكرتي ببساطة هي الإعلان المضمَّن.
“كما تعلمون، الناس أبدوا اهتمامًا بالتطريز على ملابس روميو في المسرحيّة وجاؤوا إلى أومفا بسببه.”
لذا علينا إدخال هذه المنتجات في المسرحيّة نفسها بشكلٍ طبيعي، مثل أن يمسح روميو دموع جولييت بمنديلٍ مطرّز، أو يُهديها قطعةً فنيّة من الزجاج الجميل.
“وفوق ذلك، الذين يرغبون في دخول المناصب بدأوا يبحثون عن حقائب التطريز التي نستخدمها، كأنّها تميمةُ حظّ للنجاح.”
لذا لو صنعنا منتجاتٍ مثل الحقائب الصغيرة أو المنديل أو المقلمة التي يُمكن للجميع حملها، واستخدمناها بأنفسنا …
“فسنُروّج لها بطريقةٍ فعّالة دون إعلان مباشر.”
الشباب في العادة لا يرغبون في العمل تحت لواء لوسيد، بل يعتبرون العمل تحت قيادة إيدموند اعترافًا بقدراتهم.
“لكننا لسنا مشاهير، هل سينجح الأمر؟”
سأل كامبيل متردّدًا.
“بالطبع سينجح. برأيي، إن استخدم الأرستقراطيون منتجات فوغليش، فسرعان ما سينتشر استخدامها بين العامّة.”
فحين يستخدم بعض الأشخاص المعروفين منتجًا ما، يتولّد لدى الآخرين فضول لتجربته أيضًا.
وبما أنّنا نعمل تحت إمرة إيدموند، فيُمكن اعتبارنا ‘أشخاصًا معروفين إلى حدّ ما’ بين الناس.
“جيد. إذًا، كما قالت أوليفيا، لنتعاون مع الإمبراطوريّين.
الأرستقراطيون سيشترونها لجمالها وجودتها، والعامّة سيتّبعونهم تلقائيًّا.”
***
وكما قال إيدموند، سارت الأمور بسلاسة.
آريان أبرمت عقدًا مع متجر الأقمشة الذي عرّفتهم به مارغو، ونقشوا تطريزهم على الحرير، ولحسن الحظ بيع بسعرٍ مرتفع.
أصبح ذلك الحرير يُستخدم في صناعة مناديل الأرستقراطيين و أقمشتهم، بل وحتى في القبّعات والمظلّات الواقية من الشمس.
وأصبح العقد الزجاجيّ الذي يُقدّمه روميو إلى جولييت في المسرحيّة رمزًا للحبّ في الإمبراطوريّة.
ومع الوقت، تزايد عدد زوّار منطقة أومفا، وامتلأت المباني التي كانت فارغة بالتجّار شيئًا فشيئًا.
وحين امتلأت كلّ المتاجر أخيرًا، تغيّرت أومفا إلى درجةٍ لم يعد أحدٌ يتعرّف على مظهرها القديم.
“هذا بفضلكِ.”
قال إيدموند بصوته الهادئ الذي دوّى في أذني.
كان صوته جافًّا كعادته، لكنّي كنتُ أعلم تمامًا كم يخبّئ من الدفء في أعماقه.
خفضتُ رأسي، مركّزةً على الورقة البيضاء أمامي.
لم أكتب شيئًا، لكنّ قلمي ظلّ يرقص في الهواء كما لو أنّه يكتب بالفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 78"