قالت إيكلا وهي تبتسم بفرحٍ عارم، مهنّئةً لي، بينما لم تعرف مارغو شيئًا عن التفاصيل لكنها هنّأتني بدورها. أمّا ناتاشا فبدت على وجهها ملامح الريبة.
“إيكلا، لا تقولي إنّك كنتِ تعرفين أنّ هذا سيحدث؟”
“آه، لقد تصرّفتُ بطريقةٍ فاضحة قليلًا، أليس كذلك؟”
ابتسمت إيكلا بخجلٍ وهي تُرجع خصلةً من شعرها إلى الخلف، فتطاير شعرها الطويل بهدوءٍ مع الريح.
“غالرهيد طلب منّي أن أساعده في اعترافه، وقال إنّه لا يعرف ما الذي تحبّه أوليفيا، فاقترحتُ عليه بعض الأفكار.”
وهكذا تبيّن أنّ هذه الاعترافات العلنية المربكة كلّها كانت من تدبير إيكلا. لا عجب أن بدا غالرهيد مختلفًا عن المعتاد وأكثر مبالغة.
“تعلمين، عند الفوغليشيّين من تقاليدنا أن يُعلن الشخص حبّه علنًا ليُظهر أنّ هذا الإنسان بات له وحده. وكلّما ازداد عدد الشهود، عُدَّ ذلك نيلًا لبركة الحاكم. تردّدتُ قليلًا لأنّ ذلك لا يناسب ذوق الإمبراطوريّين، لكنّني سعيدةٌ أنّ أوليفيا قبلتِ الأمر.”
مهما يكن، فقد كان هذا نوعًا من المبالغة بالنسبة لي، لكنّني لم أستطع قول ذلك أمام غالرهيد الذي كان يفيض سعادة.
فقد كنتُ له أصلاً إنسانةً سيئة بما يكفي.
وانتهت استراحة الغداء المزعجة باتّفاقٍ على موعدٍ مع غالرهيد.
وعندما عدتُ إلى المكتب حاملةً باقة الزهور الكبيرة، سأل دانتي بدهشة: “ما هذه الزهور؟”
وقبل أن أفتح فمي، سارعت إيكلا بالإجابة: “تخيّل! السيّد غالرهيد اعترف لأوليفيا علنًا أمام الجميع!”
“آه … حقًّا؟ فهمت.”
نظر دانتي نحوي ثمّ نحو إيدموند بتعجّب. لا شكّ أنّه كان قد لاحظ في السابق شيئًا بيننا، لذا بدا الآن أكثر حيرة.
أمّا إيدموند نفسه فكان يقلب الأوراق ببرود، دون أن يرفع عينيه نحوي.
يا لي من أوليفيا لئيمة … لماذا أشعر بالمرارة إذن؟ لماذا يؤلمني تجاهله لي؟
قال كامبيل بنبرةٍ خفيفة مازحة: “الجميع كان قد لاحظ الأمر أصلاً، لكن لم يصرّح أحد. إنّكما تبدوان متناسبين جدًّا! أليس عرض «روميو وجولييت» انعكاسًا لقصة حبّكما؟ هل كانت مسرحيّة رمزيّة لطلب البركة؟!”
ضاقَت عيناه الطويلتان أكثر وهو يتندّر، فوكزته ناتاشا في خاصرته محاولةً إسكاته. لكنّ هذا الثرثار لم يفهم الإشارة وأكمل كلامه بخفّة دمّه المعتادة: “على أيّ حال، لقد كان غالرهيد مبالغًا جدًّا! الورود على الأرض، والخواتم اللامعة … لا بدّ أنّه أنفق ثروة!”
“اصمُت.”
رنّ صوت إيدموند الهادئ في المكان، فصمت كامبيل فورًا وعاد إلى مكتبه.
أما أنا، فعُدت إلى مكتبي أحاول إتمام ما تبقّى من العمل من صباح اليوم.
كان من الصعب جدًّا التركيز، لكن عليّ أن أعمل.
عندما انتهيت من كتابة التقرير، تقدّمت بخجل نحو مكتب إيدموند.
لماذا يجب أن يكون رئيسي بالذات؟ في مثل هذا التوقيت؟
“صاحب السمو.”
لم يجب.
ناديتُه مجددًا بصوتٍ أهدأ: “صاحب السمو؟”
لكنّه لم يلتفت. كان يكتب شيئًا بانشغالٍ تام، حتّى اضطررتُ إلى رفع صوتي قليلًا.
عندها فقط رفع رأسه، وفي تلك اللحظة انزلق قلمه على الورقة مخلّفًا خطًّا أسود مشوّهًا.
“إحم، ماذا هناك؟”
سحب الورقة بسرعة، وكرمشها بيده ثمّ رماها في سلّة المهملات.
لم يكن في الأمر ما يستدعي الرمي، كان يمكن ببساطة محو الخطّ وإعادة الكتابة.
“إنّه تقرير موازنة المستشفى للربع القادم.”
“آه، فهمت.”
خطف الأوراق من يدي سريعًا دون أن ينظر إليّ. راحت عيناه الحمراوان تتجوّلان فوق الورقة بخفّة.
انحنيتُ قليلًا والتقطت الورقة التي رماها. مهما كانت، بدت نظيفة باستثناء ذلك الخطّ.
“لِمَ تلتقطينها ثانية؟”
“لا حاجة لرميها، ما زالت صالحة.”
“يمكنكِ رميها. أنا أرمي الفاشل. أرمي ما لا فائدة منه. أنتِ تعلمين هذا عني.”
توقّفت يدي، والورقة ما تزال بين أصابعي.
“نعم … أعلم.”
كلماته كانت كأنّها موجّهة إليّ شخصيًّا. أنا تلك “الفاشلة” التي لم تستطع مواعدة رئيسها.
“ما بكِ؟ عودي إلى عملك.”
“نعم، حاضر.”
يا لي من حمقاء، لماذا أربط نفسي بتلك الورقة؟
وضعت الورقة أخيرًا في درج مكتبي — لا ممزّقة ولا مفرودة — بل مطويّة ومخبّأة كما قلبي تمامًا.
يا ليتني أستطيع كتابة قلبي على ورقةٍ كهذه، ثمّ أطويها وأرميها بعيدًا.
تظاهرتُ بالعمل مجددًا، لكنّ التركيز لم يكن ممكنًا.
ورغم أنّ زملائي أنهوا معظم المهام، لم أنجز نصف ما عليّ فعله.
“أوه، أوليفيا، غالرهيد كان ينتظركِ منذ قليل. ألن تغادري؟”
“هاه؟”
نظرت إلى الساعة فصُدمت — لقد تجاوز وقت الانصراف بنصف ساعة!
ضحكت بيكي وقالت وهي ترتّب حقيبتها: “يبدو أنّكِ لا تستطيعين التركيز من شدّة السعادة بعد اعترافه! طبيعي، إنّها المشاعر الأولى! لا تضغطي على نفسكِ، خذي قسطًا من الراحة. سأسبقكِ إذًا!”
بعد خروجها رتّبت أغراضي على عجل. لا يليق أن أتركه ينتظر أكثر من ذلك.
لو لم يكن لدينا موعد، لربّما بقيتُ أعمل حتى الليل.
ما إن خرجتُ حتى سمعت صوته يناديني: “أوليفيا، لا تركضي!”
“آسفة، تأخّرت قليلًا. لم يكن عندي الكثير من العمل، لكنّي لم أستطع التركيز.”
رغم أنّه قال ألا أركض، لم أستطع إلا الإسراع نحوه. كنتُ أتنفّس بصعوبة.
“لقد تعبتِ اليوم.”
“هل انتظرتَ طويلًا؟”
“أبدًا، وصلتُ للتوّ.”
كان كذبًا لطيفًا، كما في الماضي، لكنّه الآن أثقل قلبي.
من المؤكّد أنّه كان ينتظرني طَوال نصف ساعة على الأقل.
“يبدو أنّكِ أيضًا لم تستطيعي التركيز.”
“وأنتَ؟”
“نعم، كنتُ متشوّقًا لرؤيتكِ.”
ابتسم بخجلٍ فشعرتُ بالذنب، لكنّي ابتسمتُ معه مجاملةً.
“إلى أين سنذهب؟”
“العشاء أولًا. أعرف مطعمًا مريحًا جدًا، أعتقد أنّ طعامه سيعجبكِ.”
غير أنّ المكان الذي قادني إليه كان هو ذاته المطعم الذي خطّط إيدموند أن نذهب إليه في لقائنا الثاني.
“أظنّ ستيك هذا المكان سيكون مناسبًا لذوقكِ تمامًا. حين تجرّبينه ستقعين في حبّه!”
“آسفة … لِمَ لا نذهب إلى مطعمٍ آخر؟”
“هل لا تحبّين الستيك؟ يمكننا اختيار طبقٍ آخر، لديهم أطعمة كثيرة.”
كنتُ أعرف هذا المطعم جيّدًا: سلطة الصوص اليوزو، و الباستا التي تحتاج إضافة صوصٍ إضافي، والمكان الأفضل هو آخر مقعدٍ بجانب النافذة، وليالي العزف الحيّ في نهاية الأسبوع … كلّها أشياء قالها لي إيدموند حينها بابتسامةٍ متحمّسة.
“في الحقيقة … أظنّني لا أزال أشعر بعسرٍ في الهضم منذ الغداء.”
“حقًّا؟ كان الجميع يتحدّثون أثناء الغداء، ربما لم تأكلي جيدًا. ليتكِ أتيتِ إلى العيادة، كان يمكننا إعطاؤكِ شيئًا للهضم.”
تألّقت عيناه بالقلق، فشعرتُ أكثر بثقلٍ في صدري.
“إذن لِنمشِ قليلًا، الهواء سيساعد.”
“هل أنتِ متأكّدة؟ لم تأكلي شيئًا بعد.”
“لا بأس.”
رفع عينيه نحوي مبتسمًا بلطفٍ صادق.
“كنتُ أتطلّع إلى هذا اليوم، لكن لا بأس … طالما أنا معكِ، فأنا سعيد.”
ثمّ قال فجأة بعينين تتلألآن كطفلٍ متحمّس: “آه، تذكّرتُ! هناك مكان أريد أن أريكِ إيّاه، مكانٌ يجب أن تريه بنفسكِ، أوليفيا.”
التعليقات لهذا الفصل " 76"