ربّما لم يتوقّع تلك الإجابة. اتّسعت حدقتا عيني إيدموند، واهتزّت عيناه الحمراوان كشمعة في مهبّ ريحٍ عاتية.
“انتظري، عمّا تعتذرين بالضّبط؟”
مرّر إيدموند يده الكبيرة على وجهه وأشاح بنظره بعيدًا.
“آه، هل لأنّ المسرح لم يمتلئ سوى إلى نصفه؟ يا فتاة، هذا يُعدّ نجاحًا. بل هو أكثر ممّا كنتُ أتوقّعه.”
ولعلّ هذا العذر أعجبه، إذ ابتسم وربّت على كتفي بلطف.
“لم تفعلي شيئًا خاطئًا. سائر الموظّفين أرادوا أن نستخدم ممثّلين من الإمبراطوريّة، لكنّي أصررت على أن تكون بالكامل فوغليشيّة. ولم يكن ذنبك أنّ الناس عرفوا بأنّي اخترتُ ممثّلًا فوغليشيًّا لدور روميو. على الأرجح، كانت الإمبراطورة وراء الأمر بطريقةٍ ما. لكن رأيتِ ردود الأفعال بعد انتهاء العرض، أليس كذلك؟ كانت مذهلة! الجميع بكى وتأثّر بشدّة. بالتّأكيد سينتشر الخبر وغدًا سيزداد الحضور!”
“لا، ليس هذا ما أعنيه.”
لم يمضِ عامٌ واحد منذ أن تعرّفت إلى إيدموند.
ولو سألني أحدهم إن كان أهمّ من أمّي، لقلتُ: بالطّبع لا.
فأعزّ ما في حياتي هي أمّي.
“أتذكّر أنّي قلتُ لكَ من قبل، أليس كذلك؟ إنّنا فقط … في علاقةِ مواعدةٍ بسيطة.”
‘لذا، لا تبكي يا أوليفيا. أنتِ الآن أسوأ امرأةٍ في هذا العالم بالنّسبة لإيدموند. امرأة تتلاعب بمشاعر رجلين، ولا تستحقّ حتّى أن تبكي.’
“صحيح، هذا ما كنتُ أريد قوله أيضًا. أنّنا لسنا فقط في علاقةِ مواعدةٍ بل …”
لو سمعتُ ما سيقوله إلى النّهاية، لما استطعتُ رفضه.
لذا سارعتُ إلى إيقافه. وعندما مدّدتُ باقة الزّهور نحو شفتيه على حين غرّة، رمش بعينيه متفاجئًا.
“لا تفعل هذا أيضًا، رجاءً.”
“… ماذا؟”
“لقد فكّرتُ بالأمر، ووجدتُ أنّني لا أفضّلك، يا صاحب السموّ.”
“أنا … لا تفضلينني؟”
“نعم. كثيرًا جدًّا. كنتَ الأسوأ.”
عضضتُ باطن خدي. في كوريا كان يُقال: ‘الكلمات تحمل أشواكًا’.
لكنّ أشواكي كانت تطعنني أنا لا من يسمعها.
“في الحقيقة، يا صاحب السموّ، لم أحبّك قط. أعجبتُ بفكرة كونك أميرًا، ووجهك وسيمٌ نسبيًّا، فظننتُ أنّي لو ارتبطتُ بك قد أجني بعض الفوائد، ولهذا اعترفتُ لكَ بمشاعري.”
‘كوني أكثر قسوة يا أوليفيا، حتّى ينفر منك تمامًا.’
“لكن بعد أن واصلتَ رفضي، بصراحةٍ، جُرحَ كبريائي. لم أكن أحبّك أصلًا، بل لم أحبّك يومًا.”
‘حتّى لا يشتاق إليّ في مستقبلٍ بعيد.’
“فشعرتُ برغبةٍ في الانتقام، لذا كذبت. أنا لم أحبّكَ أبدًا يا صاحب السموّ. أنا أحبّ شخصًا آخر.”
‘أحسنتِ يا أوليفيا. قلتِها دون دموع.’
“… جئتِ إلى هنا في هذا الوقت المتأخّر لتقولي هذا فقط؟ لو أنكِ تركتِني منتظرًا اليوم فحسب، كنتُ سأفهم وحدي.”
ارتعش طرف شفتيه وهو يحاول أن يبتسم. لم أستطع احتمال النّظر إليه أكثر، فخفضتُ رأسي.
“لِمَ كلّ هذا الاعتذار؟ لو كنتِ فعلًا شخصًا سيّئًا، لما شعرتِ بالذّنب أصلًا. لا يمكنني أن ألومكِ على مشاعرك.”
“……”
“تُرى، هل كانت القصص القديمة مخطئة؟ يبدو أنّ من يخلع معطف الرّحالة ليس الرّيح، بل أشعّة الشّمس.”
‘لا. لم تهزّني أشعّة الشّمس، بل الرّيح.’
كنتُ أؤمن أنّه لا يمكن أن أقع فعلًا في حبّ شخصٍ من رواية.
لكنّني أمامك، يا إيدموند، كنتُ كورقةٍ ترفرف في مهبّ ريحك.
“مشاعري لم تكن عميقة أيضًا. لذا، لا تجعلي وجهكِ يبدو كوجهِ مذنبة. كما تعلمين، أنا محبوب، وهناك كثيراتٌ يردنَ مواعدتي غيركِ.”
ولمّا لم أرفع رأسي، أكّد مرارًا أنّ مشاعره لم تكن جدّيّة.
وأنّه لم يكن سوى فضولٍ لأنّني أول امرأةٍ ترفضه رغم تكرار اعترافه. قال إنّه لا داعي لأن أشعر بالذّنب.
لكنّ كلمات إيدموند كانت كالسّهام المرتدّة على صدره.
وجهه بدا كقطعة قماشٍ مهترئة مثقوبةٍ لا يُمكن رقعها بعد الآن.
‘إن بقيتُ هنا، سيواصل جرح نفسه بكلماته.’
“سأذهب الآن.”
حتى أنا لم أعد أحتمل.
ناولته باقة الزّهور فخطا خطوةً إلى الخلف.
“على أيّ حال، خذي هذه الزّهور. لا أعرف كيف أتعامل مع أزهارٍ كهذه. أردتُ فقط أن أهنّئكِ على نجاح عرضكِ اليوم. اشتريتها لهذا، لا لأعترف بشيء.”
ولأنّني لم أعد أحتمل رؤيته، اكتفيتُ بهزّ رأسي بصمت.
“اذهبي الآن. لديّ … ما أفعله هنا.”
كِدتُ أسأله ما الذي يمكن فعله في مطعمٍ مظلم، لكنّي صمتُّ.
كنتُ أعلم أنّها مجرّد ذريعة. لذا لم أفعل سوى اللعب بشريط الرّبطة قبل أن أستدير.
المشاعر التي أيقظها إيدموند في قلبي، وقلقي على أمّي، وغضبي من هذا الوضع، كلّها التبست ببعضها وعلقت بخطواتي.
“إنّه المطر …”
بدأ المطر بالنّزول في تلك اللحظة.
عليّ، وعلى إيدموند أيضًا.
دعوتُ أن يكون هذا المطر مجرّد عابرٍ، يبلّلنا للحظةٍ ثمّ يمضي.
***
ظلّ إيدموند واقفًا طويلًا أمام المطعم المظلم.
كان مبلّلًا تمامًا بالمطر، وأغمض عينيه متّكئًا على الجدار الخارجيّ.
“هل أنتَ بخير، يا صاحب السموّ؟”
فتح عينيه عند سماع وقع الأقدام.
في الظّلام، تلألأت عيناه الحمراوان كفانوسٍ يصارع المطر المنهمر.
اقترب منه فيليكس وهو يزفر تنهيدةً طويلة.
“أوليفيا؟”
“تأكّدتُ من دخولها المعبد بسلام.”
“حسنًا. استمرّ في مراقبة طريق ذهابها وإيابها. لا أحد يعلم ما قد تفعله الإمبراطورة.”
أخرج إيدموند صندوق الخاتم الذي كان ممسكًا به في جيبه.
ذلك الصندوق الذي كان يحمله دائمًا معه. كان إرثًا من والدته.
أراد يومًا أن يهديه لمن يحبّ.
“لقد لاحظتَ أنّها كانت تكذب، أليس كذلك؟”
“ربّما …؟”
“يا إلهي.”
ضحك إيدموند بخفّة ومسح شعره المبلّل.
“ماذا لو ابتعدت عنّي لأنّها شعرت بالعبء؟ لو لم أرَ وجهها يومًا بعد الآن … سأكون في غاية الحزن.”
“يا صاحب السموّ …”
“لماذا؟ أبدو كالأحمق، أليس كذلك؟”
“ليس ذلك، بل … لو كان الأمر هكذا، فهلا توسّلتَ إليها قليلًا؟”
“ماذا؟ أن أطلب منها أن تنظر إليّ؟”
كان فيليكس محقًّا تمامًا. تمنّى لو أنّ سيّده فعل ذلك فعلًا.
كان يعرف أكثر من أيّ أحدٍ آخر كم يحبّ إيدموند أوليفيا … بل كم يعشقها.
لم يكن من عادته أن يتعلّق بأحدٍ أو يحمي أحدًا، لكنّ عينيه كانت دومًا تتّجه نحوها دون أن يدرك.
“بما أنّك تحبّها كثيرًا، كان بإمكانك أن تطلب منها أن تفكّر مجدّدًا.”
ابتسم إيدموند ابتسامةً باهتة.
لكنّ فيليكس قال ذلك لأنّه لم يرَ وجه أوليفيا آنذاك.
“كيف لي أن أفعل ذلك؟”
لم يستطع.
بصراحة، أراد أكثر من مرّة أن يمسك بها، أن يتوسّل إليها، أن يعترف بصدقٍ كامل.
أن يقول إنّه أخطأ كثيرًا، لكن فلتفكّر به مرّةً أخرى، وإنّه سيحاول من جديد، وإنّ مشاعره كانت صادقة دائمًا.
منذ تلك اللحظة الأولى التي تلقّى فيها اعترافها، كانت عينه لا تفارقها.
منذ أن رآها لأوّل مرّة، كانت جميلةً إلى حدٍّ لم يستطع معه أن ينظر إليها مباشرة.
لكن كلّ الكلمات التي أراد قولها، تجمّدت حين رأى عينيها الزّرقاوين المملوءتين بالدموع.
ابتلعها جميعًا. تشكّلت الكلمات المبتلعة كتلةً في حلقه، فأحسّ بألمٍ حارق.
كأنّه ابتلع رمادًا.
“لكن، برأيي، الآنسة أوليفيا أيضًا كانت بالتّأكيد …”
“يكفي. لعلّه عقابي. كنتُ غير صادقٍ منذ البداية.”
رفع إيدموند بصره نحو السّماء.
كانت السّماء ملبّدةً بالغيوم، بلا نجمٍ واحد.
مدّ يده بهدوء.
تساقطت قطرات المطر على قفّازه، لتتجمّع في بركةٍ صغيرة.
“يا صاحب السموّ، لو أصابك البرد فسيكون الأمر خطيرًا. عُد الآن، أرجوك.”
“حسنًا.”
خطا إيدموند بخطواتٍ ثقيلة.
ازداد المطر شدّةً حتى أغرق العالم كلّه.
ورغم أنّ المطر كان يجلده، توقّف في مكانه.
‘لو أنّي أستطيع أن أفرغ مشاعري كهذا المطر.’
‘بهذا الوجه، وبتلك الكلمات الحادّة التي لم أعهدها منها … فماذا يُفترض بي أن أفعل؟’
“……”
“يا صاحب السموّ؟ هيا بنا!”
عجّل فيليكس الخطى، لكنّ إيدموند جلس على الأرض.
ارتعشت كتفاه.
تمنّى لو أنّ المطر جرف مشاعره كلّها بعيدًا، لكنّ المطر لم يفعل سوى أن يترك آثارًا عميقة.
لم ينزلق عنه، بل تجمّع في داخله.
تمامًا كما فعلت أوليفيا. لقد بلّلته كمطرٍ غزير، ثمّ تركت أثرًا لا يُمحى.
التعليقات لهذا الفصل " 74"