كان الوقت حين بدأت الشمس تلوح بخيوطها الأولى، وقد وصلتُ إلى المكتب.
والسبب بالطبع، أنّني أردت أن أترك انطباعًا جيّدًا لدى إيدموند.
بعد أن مسحتُ مكتبه بعناية ونظّمت الأوراق بدقّة، أعددتُ القهوة برضا تام.
وبينما كانت رائحة القهوة تتسرّب بين الأوراق، سُمعت خطوات تقترب.
ذلك الصوت الغليظ للأحذية لا يمكن أن يخطئه أحد، لا بدّ أنّه إدمان.
أسرعتُ إلى المرآة لأتفقّد مظهري، ثمّ ابتسمتُ.
“… الموظفة الجديدة؟”
“حضرتَ؟”
“حضرتُ، ولكن ما هذا؟”
“قهوة قويّة وهلام أعشاب!”
ابتسمتُ ابتسامة عريضة، غير أنّه قال بنظرة مشوبة بالشفقة: “هلام أعشاب، تقولين؟”
راح يحدّق في الهلام الموضوع على المكتب، ثمّ ضغطه بيده فجأة.
ذلك الشيء! لا أعرف ما هو بالضبط، لكنّ السيّد روان قال إنّه غالٍ جدًّا!
“لِـ … لِماذا فعلتَ هذا؟”
“تُحضرين أعشابًا مفيدة للقوّة الجسديّة؟”
“قو … قوّة؟!”
ما هذا؟ هل هذا الهلام مصنوع من نبتة الياكانمون؟
تفحّصتُ الغلاف مجدّدًا، وما إن وقعت عيناي على العبارة المكتوبة عليه: [الليلة، لن تنام امرأتك.]
حتى تذكّرتُ وجه السيّد روان وهو يقدّمه لي بابتسامة غريبة.
‘أيّ مجنونٍ هذا الذي يُهدي شيئًا كهذا إلى كاهنٍ مقدّس!!’
“إذًا، هل هذه هي المعلومة التي أخبركِ بها لوسيد أمس؟ أن أهاجَم بالجسد؟”
“ماذا؟! لــ… لا! ليس الأمر كذلك إطلاقًا!”
كيف عرف بلقائي مع لوسيد؟!
راح إيدموند يسخر منّي بحدة، ثمّ ألقى بما تبقّى من الهلام في سلّة المهملات.
“انتظر، سيدي!”
أمسكتُ بكمّه على عجل، لكنّه أبعد يدي عنه بوجهٍ متجهّم.
“فيليكس.”
ناداه بصوتٍ منخفض، فاقترب الفارس خطوة.
“نعم، صاحب السمو.”
“خُذها، وانقلها إلى قسمٍ آخر.”
“لكن…”
“قلتُ انقلها.”
أومأ فيليكس باستسلام، ثمّ قال: “تعالي.”
“انـ … انتظر، سيدي!!”
لا يمكن أن أُطرد بهذه السهولة! قد يكون هو بطلي الحقيقي!
“مهرجان السلام!”
مهرجان السلام.
إنّه الاحتفال بذكرى جلوس الإمبراطور على العرش، واليوم الذي استقرّ فيه الغرباء في منطقة أومفا.
كان يُقام سنويًّا، وتُنظّم فيه فعالياتٌ عدّة للغرباء.
“لم تُقرّروا بعد ما ستفعلون في المهرجان، أليس كذلك؟”
في القصّة الأصليّة، يذهب إيدموند متنكّرًا إلى أومفا بحثًا عن فكرةٍ للمهرجان، وهناك يلتقي بالبطلة إيكلا.
ينقذها من متسكّعين، فيقع في حبّها من النظرة الأولى، و تُبهره بطلاقتها في اللغة الإمبراطوريّة، وتُعطيه عدّة اقتراحات، منها فكرة المهرجان ذاتها.
“ما رأيك بدعوة وفدي نيكيتا وآريان إلى الإمبراطوريّة؟”
“لن يأتوا أبدًا.”
لوّح بيده غير آبه.
“من يدري؟ ربّما ينتظرون الفرصة فحسب.”
لكنّني من يعرف المستقبل!
“ادعُ الممثلين وجرّب اقتراح التبادل التجاري.”
“تبادل تجاري؟ هراء.”
“فوغليش تعاني جفافًا منذ ثلاث سنوات. لو كانت الحبوب جزءًا من الصفقة، فسيقبلون بالتأكيد.”
تأمّل كلامي قليلًا، ثمّ قال: “… فيليكس، سنذهب إلى جلالته. اتركها ورافقني.”
“حاضر.”
“مع السلامة!”
حرّرتُ معصمي من قبضته وتنهدت.
اقتراحي سيُقبل حتمًا، و إيدموند، الذي يؤمن بالكفاءة، سيُغيّر نظرته تجاهي.
وفي ذلك المساء، كما توقّعت، نجحت خطّتي وعمّت الحركة المكتب.
“قائمة المدعوين يتولّاها دانتي. أمّا قاعة الحفل، فمهمّتك يا ناتاشا.”
عمّ التوتّر المكان، وأنا أترقّب أن يُسند إليّ عملٌ ما، لكنّ اسمي لم يُذكر.
“لحظة، وأنا؟!”
رفعتُ يدي فابتسمت ناتاشا وهمست في أذني: “المستجدّون لا يُكلفون بأعمالٍ كهذه.”
لكنّها كانت فكرتي! متى سأثبت نفسي إذًا؟
انشغل الجميع بالتحضيرات، وبقيتُ أنا وكامبل بلا عمل.
“أوليفيا، آسف، لن أستطيع تدريبكِ إلى أن ينتهي المهرجان. رتّبي هذه الملفات في الوقت الحالي.”
ناولني الملف، فأومأت بالموافقة.
عند نهاية الدوام، سلّمتُ الأوراق بعد ترتيبها.
“أحسنتِ، يمكنكِ الانصراف.”
بما أنّه لم يبقَ لي عمل، خرجتُ.
“أعطوا هذا للمطبخ الإمبراطوري.”
قال إيدموند وهو يدوّن شيئًا، ثمّ رفع ورقة بيده.
بما أنّني في طريقي للخروج، لمَ لا أساعد؟
“سأتولّى ذلك!”
تناولتُ الورقة بسرعة، كانت قائمة طعامٍ لمأدبة الوفود.
“همم؟”
شعرتُ أنّ هناك أمرًا غريبًا.
“انتظر قليلًا!”
“أنا مشغول، إن كنتِ تريدين مواعدتي فاذهبي الآن.”
“لا، بل هذه القائمة!”
“ماذا عنها؟ لقد راجعتها، لا خطأ فيها.”
رمقني بتبرّم.
“آريان لا يأكلون لحم البقر.”
أشرتُ إلى السطر المكتوب فيه “ستيك لحم بقري”.
“… ماذا؟”
زمّ حاجبيه غير مصدّق.
“هل يعرف أحد شيئًا عن ذلك؟”
“لم أسمع به من قبل، سيدي.”
“لكنّني لا أتذكّر أنني رأيتُ أحد الآريانيين يأكل لحم بقر …”
قال دانتي ذلك متردّدًا، فعضّ إيدموند شفتَه بغيظ.
“في آريان، البقر حيوان مقدّس. يُعتبر كائنًا مقدسًا لديهم”
عرفتُ هذه المعلومة من أحد الغرباء الذين التقيتُهم في المعبد.
إنّهم لا يأكلون لحم البقر مطلقًا، كالهندوس في عالمي السابق.
“استبعدوا كلّ طبقٍ يحتوي على لحم بقر، وتحقّقوا من صحّة الأمر.”
“نعم!”
بينما تحرّك الجميع، أخذتُ أضع علامة X على الأطباق المعنيّة.
“الموظفة الجديدة.”
“نعم؟”
“… شكرًا لكِ.”
إيدموند … شكرني؟
لكنّه طردني بسرعة بعد ذلك، فضممتُ الأوراق إلى صدري وتوجّهتُ إلى المطبخ.
وكما العادة، كان القصر معقّد الممرّات كالمتاهة.
بعد أن سلّمتُ الأوراق، خرجتُ لأصطدم بلوسيد.
“أنهَيتِ دوامك؟”
لم أفهم كيف نلتقي دائمًا هكذا.
اكتفيتُ بتحيّةٍ سريعة ومضيت، حتى لا يُشاع مجددًا أنّني أتبعه.
لكنّني نسيتُ أمرًا مهمًّا: هو طويلٌ وأنا قصيرة.
“أردتُ أن أسألكِ شيئًا.”
“ما هو؟”
نظرتُ إليه ببرود، فابتسم بعينيه الخضراوين اللامعتين،
وكانت نقطة الدمع تحت عينه اليمنى تتلألأ.
“يُقال إنّ إحدى الإداريّات اعترفت بحبّها لإيدموند.”
هل انتشر الخبر بهذه السرعة؟!
غدًا سيعرف الجميع!
“نعم، تلك الجريئة هي أنا.”
“ماذا؟ حقًّا أنتِ؟ ظننتُ الأمر مستحيلًا!”
أطلق ضحكةً عالية بعد أن تفحّصني من رأسٍ إلى قدم.
“لكنّكِ لستِ نوع إيدموند المفضّل أبدًا.”
‘نوعه؟’
أرهفتُ سمعي.
“وما نوعه إذًا؟”
ربّما رقّ لحالي أو أراد التسلية،
فابتسم بمكر وقال: “أولًا، يُحبّ المرأة الجريئة.”
‘صحيح، في بداية الرواية، كان ينتظر أن تبادره إيكلا بالكلام’
“ويُحبّ الذكيّات.”
كنتُ أعرف ذلك أيضًا.
“وأخيرًا… النساء ذوات الجاذبيّة.”
نظرتُ إلى جسدي، ففعل هو الشيء نفسه، ثمّ التقت نظراتنا.
“أظنّ أنّ حظّكِ ضعيف.”
ارتسمت ابتسامة جانبيّة على شفتيه، فاحمرّ وجهي خجلًا.
“وداعًا إذًا!”
حيّيته على عجل وغادرتُ القصر بخطى سريعة.
والآن بعد أن فكّرتُ بالأمر … أليس هو من يوصلني إلى بوابة القصر في كلّ مرّة؟
“لا، مستحيل.”
هززتُ رأسي ومضيتُ نحو المعبد.
***
“همم، فتاة مثيرة للاهتمام حقًّا.”
قال لوسيد وهو ينظر إلى خصلات شعرها الزرقاء المتمايلة أثناء جريها مبتعدة عن القصر.
ثمّ رفع يده إشارةً إلى حارسه جاك ، الذي هبط من الشجرة وجثا أمامه.
“هل تحقّقت؟”
“نعم، سيدي.”
أخرج لفافة ورقٍ من صدره، ففكّها لوسيد بمهارة.
“اسمها أوليفيا، تتلقّى دعمًا من المعبد.”
تفقّد المعلومات بعناية.
“سقطت في المعبد قبل خمسة عشر عامًا أثناء الحرب الأهليّة، فاقدةً ذاكرتها. لا يُعرف إن كانت يتيمة أم فقدت والديها فحسب.”
“وهذا؟ يبحثون عن غريبٍ مصابٍ بطلقٍ ناري؟”
“الشيء الوحيد الذي تتذكّره هو اسمها، وأنّ غريبًا في عمرها تلقّى رصاصة في يده نيابةً عنها.”
“هل تعتقد أنّ إيدموند هو ذلك الفتى؟ مستحيل، ليس من طبعه ذلك.”
ضحك لوسيد ساخرًا وسحق الورقة بيده.
“قيل إنّ فكرة دعوة الوفود كانت من اقتراحها أيضًا.”
“بل إنّ الرسم الذي نال استحسان جلالته سابقًا كان من تصميمها كذلك.”
حين أضاف جاك ذلك، تلألأت عينا لوسيد الخضراوان بخطورة.
التعليقات لهذا الفصل " 7"