“كح!”
كان إيدموند أمامي مباشرة، لكنّ صوت السعال جاء من خلفي. أصدرتُ صوتًا يشبه آلةً صدئة وهي تدور ببطء، ثم التفتُّ ببطء إلى الوراء.
متى مرّ الوقت هكذا؟
الساعة المعلّقة على الحائط كانت تُشير إلى وقت الدوام، وعند المدخل كان عددٌ من الناس متجمّعين كأسراب النمل، لم يجرؤ أحدهم على الدخول بسبب التوتّر الذي خيّم على المكان.
“في هذه الأيّام، المتدرّبون وقحون جدًّا.”
قالها إيدموند ثم وجّه نظره نحو المدخل.
“ألَا تنوون الذهاب إلى عملكم؟”
“نعم، سيدي!”
بصوته الحادّ دخل الجميع على عجل وجلسوا في أماكنهم، لكنّهم كانوا يرمقونني بين الحين والآخر، فدفنتُ وجهي في الأوراق محاوِلةً إخفاء احمرار وجهي.
“يا إلهي، أوليفيا. لم أرَ في حياتي متدرّبة مثلك.”
ضحك دانتي، المساعد الشخصيّ، ضحكةً عالية وهو يلتهم شطيرة الغداء.
“أن تتجرّئي وتطلبي موعدًا من سموّه؟ حقًّا؟”
هزّت ناتاشا، مشرفتي المباشرة، رأسها غير مصدّقة.
“ولِمَ لا؟ طالما أنه يبقى صامتًا فهو لا يبدو سيّئًا، أليس كذلك؟” ، قال كامبل، زميلي في الدفعة نفسها، مبتسمًا، فرفعت ناتاشا إصبعها مهدّدة وقالت: “المشكلة أنّه لا يُغلق فمه أبدًا.”
كان ذلك اعترافًا صادقًا. فإيدموند بعيدٌ كلّ البعد عن صورة بطل رواية رومانسية.
لسانه قاسٍ بشكلٍ فظيع، خصوصًا عندما لا يُنجز أحدهم العمل المطلوب منه.
في هذا الصباح وحده، رفع صوته ثلاث مرّات فهرب موظّفٌ باكيًا في كلّ مرّة.
“مهووس بالعمل لدرجة مرعبة.”
“إنّه كمالِيٌّ لا يُطاق.”
“تمامًا! ومع ذلك، تقع في حبّه فتاةٌ لطيفة مثلك!”
قبضت ناتاشا على خدّيّ الاثنَين وقالت بمكر: “هل تُعجبكِ الشخصيّات القاسية؟ ساديّة مثلًا؟”
“ماذا تقولين!”
صرختُ وأنا أختنق من الإحراج، فضحك دانتي ضحكة مدوّية.
“في رأيي كرجل، لا بأس به. كفؤ، وذكيّ. ربما هذا ما أعجبكِ فيه؟”
قلت وأنا أبتلع اللقمة: “لا، إطلاقًا. على أيّ حال، سأخرج معه في موعد، حتمًا!”
نظر الجميع إليّ بدهشةٍ كما لو كنتُ أتفوّه بالجنون.
هل الأمر غريبٌ إلى هذه الدرجة؟ قد يكون ما يُقال عنه مجرّد إشاعات، وربما يكون طبعه أسوأ بكثير من الظاهر، لكن ذلك لا يهمّ.
سواء كان صعب المراس أم لا، طالما أنّه رئيسي، فعليّ أن أنال رضاه.
إن كان يُحبّ الموظفين الأكفّاء، فكلّ ما عليّ هو أن أُثبت كفاءتي.
لطالما كنتُ جيّدة في الدراسة، ولن أبدأ بالفشل الآن.
‘إن كان هو المالك المزعوم، فسأسرق قلبه أوّلًا، فإن لم يكن هو … لا بأس.’
“يا للعجب…”
تمتمت ناتاشا وهي تحدّق في مكتبي.
“هل أنجزتِ كلّ هذا بنفسكِ؟”
“نعم! أرجوكِ تفحّصيها.”
قدّمتُ إليها الجداول التي نظّمتها بعناية. لم أكن بارعة في الرياضيات، لكنّ هذا لم يكن صعبًا عليّ.
“بهذا الشكل تبدو البيانات أوضح بكثير!” ، قالت ناتاشا مبهورة.
المشكلة في المستندات التي طلبها إيدموند سابقًا أنّ هذا العالم لا يعرف مفهوم “الرسوم البيانيّة”.
‘لا مفهوم؟ إذًا سأخترعه بنفسي.’
“تمثيل القيم الكميّة بهذه الأعمدة أسهل للقراءة، أمّا الخطوط فمفيدة لتتبّع الزمن.”
“وهذا الدائرة؟”
“هذا رسمٌ دائريّ لتوضيح النسب، مثلًا هذه تُظهر توزيع المشاريع في المقاطعات: الأصفر للحبوب، الأحمر للفواكه، الأخضر للثروة الحيوانية، والأزرق للمناجم.”
***
“تقول إنّ المتدرّبة هي من صنع هذا؟”
كِدتُ أُعرّف نفسي مجددًا، لكنّني تراجعت. طالما لم أثبت نفسي بعد، فسيظلّ اسمي “المتدرّبة”.
“نعم. يسمّى هذا (الرسم البياني). سيُسهّل استيعاب البيانات، ويوفّر الورق أيضًا.”
قلت ذلك بثقة، رغم أنّني لم أبتكره بل جلبته من عالمي السابق.
“فكرةٌ جيّدة.”
تمتم إيدموند وهو يُلقي نظرة نحوي ثم على الأوراق المرتّبة.
“إذًا، هل تخرج معي في موعد؟”
“… أرفض.”
آه. رُفضت رفضًا قاطعًا. تجاهلتُ نظرة الشفقة في عيني ناتاشا وحدّقتُ فيه بعنادٍ متّقد.
‘لا تستهِن بإصرار من خاضوا معركة امتحاناتٍ طويلة.’
لم أتوقّع منه قبول الدعوة بسهولة، لكنّ الأمل كان يُراودني قليلًا.
رغم أنّني أملك معرفة من عالمي السابق، ما زال كثيرٌ من الأمور هنا غامضًا.
فامتلاك المعرفة شيء، والقدرة على تطبيقها شيءٌ آخر.
كنتُ أتعلم من ناتاشا، وأحرص على المراجعة والقراءة بعد الدوام.
حتى أدركتُ أنّ المكتب خلا من الجميع، ولم أبقَ سوى أنا.
‘يجب أن أعود الآن، وإلا سيقلق السيّد روان مجددًا.’
لكن أثناء عبوري الحديقة التي خيّم عليها الظلام، سمعتُ صوتًا يناديني: “أوه، أنتِ.”
استدرتُ فظهر لي وجهٌ وسيم يشبه القطّ، يبتسم بسخرية أمام مدخل القصر.
كِدتُ ألعنه بصوتٍ عالٍ، لكنّني تماسكت.
“أُحيّي صاحب السموّ، الأمير الثاني.”
قلت ذلك وأنا أقبض على كتيّب التعليمات الذي كدتُ أهوِي به على رأسه لولا أنّي رأيتُ الحارس على الشجرة.
“تعرفين من أكون إذًا.”
قال لوسيد متقدّمًا بخطواتٍ متراخية.
كان يشترك مع إيدموند في الأب فقط، ولعلّ ذلك سببُ اختلاف ملامحهما.
إيدموند ذو ملامح حادّة كرجلٍ ناضج، بينما لوسيد جميلٌ كفنان.
“في المرة السابقة أسأتُ الأدب من دون قصد.”
“حقًّا؟ لأنّ وجهكِ لا يبدو نادمًا أبدًا.”
“ماذا؟”
اقترب أكثر حتى بات وجهه أمام وجهي مباشرة.
‘لماذا وجهه صغيرٌ هكذا؟ وبشرته أفضل من بشرتي أيضًا!’
“تعبيراتك تقول إنّكِ تودّين ضربي.”
‘واو، هل يقرأ الأفكار؟’
ابتسمتُ بتوتّر وتراجعتُ خطوةً للوراء.
“مستحيل. أنا مجرّد عاميّةٍ أمام سموّ الأمير.”
“حتى السخرية تجيدينها، هه.”
لكنّه تقدّم خطوتين مقابل تراجعي خطوة.
“أن يُبقي أخي شخصًا تأخّر عن الدوام في مكتبه … هذا أمرٌ غير مسبوق.”
“يبدو أنّ سموّه صارم في مسألة الوقت؟”
“بل مهووسٌ به. لا يطيق أن يضيع ثانية واحدة. غريب الأطوار بحقّ.”
‘إذًا لم أكن وحدي من شعر بذلك.’
نسيتُ للحظة عدائي تجاه لوسيد وأنا أستمع إليه بفضول.
“ذاك الرجل بلا دمٍ ولا دموع. يُقصي العائلات التي خدمته لسنواتٍ لأجل خطأٍ واحد.”
“يا إلهي، كيف يفعل ذلك؟”
ازدادت حماسته لاهتمامي فواصل الكلام: “ولديه وسواسُ نظافة، لا يرتدي الثوب نفسه مرتين.”
“آه، الآن فهمت.”
‘لهذا تخلّى عن القفّازات التي غسلتُها بعناية.’
“حتى وهو نائم، على الأرجح يرتدي القفّازات.”
“حقًّا؟”
“أظنّه كان في العاشرة حينها، دخلتُ الحمّام بعد تدريبٍ مشترك، ووجدته يغتسل مرتديًا القفّازات!”
‘ربّما يكره رؤية آثار الجرح على يده … كم كان ذلك مؤلمًا لطفل.’
“هل يجيد القتال أيضًا؟”
“انظري إلى جسده، واضح أنّه يتقن كلّ رياضة.”
عبس لوسيد وهو يتذكّر أخاه، ثم أضاف: “لكن هناك شيءٌ واحد لا يُجيده.”
“ما هو؟”
ابتسم غامضًا وهو يرافقني إلى بوّابة القصر الخارجية.
“سأخبركِ في المرّة القادمة. عودي سالمة.”
‘هاه؟ من ينهي حديثه هكذا؟’
تمتمتُ بضيق وأنا ألوّح مودّعةً له وأغادر القصر.
لكنّني خرجتُ وفي جعبتي معلومات كثيرة عنه.
أوّلها أنّه يكره الحلويّات، ويفضّل الطعم المرّ، حتى في القهوة لا يضيف سكّرًا أبدًا.
‘حسنًا، على الأقل لم يشرب القهوة التي سكّرتُها له المرة الماضية.’
“جيّد، سأستخدم المعلومات الجديدة وأبدأ حملة الهدايا.”
عدتُ إلى المعبد، وبدأتُ أفتّش في أدراجي.
“أين كانت … آه، الجيلي العشبيّ!”
كان هديّةً تلقّاها السيّد روان وأعطاني إيّاها، لكنّني لم أستسغ طعمها المرّ، فركنتها في الزاوية.
“ها هي!”
كانت مغلّفةً بشكلٍ أنيق، مناسبة لتقديمها كما هي.
“والآن … ماذا قال لوسيد أيضًا؟”
بدأتُ أكتب قائمتين:
الأولى «هدايا محتملة للأمير» ، و الثانية «ممنوعات مطلقة».
عنوان المشروع: “سرقة قلب سيّدي!”
“لكن الأهمّ هو العمل!”
الهدايا جميلة، لكنّ الكفاءة أهمّ.
قد يكون من المحزن أن تُقاس قيمتي فقط بالإنتاج، لكن طالما أنّ هذا ما يراه مهمًّا، فسأبرع فيه.
أخرجتُ ثلاثة كتيّبات تعليمية، ودفتر ملاحظات، وجلستُ أراجع دروسي كما كنتُ أفعل في عالمي السابق.
كتابة الملاحظات الطويلة على الورق الأبيض كان شيئًا مألوفًا لي.
“سأنجو … مهما كلّف الأمر!”
التعليقات لهذا الفصل " 6"