“هيه، هذا مستحيل، لقد وُقِّع العقد بالفعل ولا يمكن تعديله. لكن ما سأقدّمه أفضل من ذلك.”
حرّك يده بخفّةٍ وقال: “ألا تودّين رؤية أمّكِ؟”
“…أمّي؟ أيمكنني رؤيتها؟”
“في العادة لا يُسمح لنا بإظهار عوالم أخرى، لكن بما أنّكِ تبدين منشغلةً كثيرًا بهذا العالم دون الآخر، ظننتُ أنّ القليل من الدافع قد يفيد تنفيذ العقد.”
أن يظهر فجأةً ليقول إنّه سيمنحني “دافعًا”؟!
هذا الشيطان ما زال مثيرًا للريبة، لكن عرضه لا يُقاوَم.
أمّي … أن أرى أمّي؟!
“هل هي بخير؟ أجرت العملية؟ هل تسير جلسات العلاج الكيميائي جيدًا؟ هل شُفيت؟ أرني إيّاها بسرعة!”
تراجع ميفيستو خطوةً إلى الوراء، وعندها فقط أدركتُ أنّي اقتربتُ منه حدّ الالتصاق من شدّة الحماس.
“اهدئي، سأريكِ.”
تنفّستُ بعمقٍ وتراجعتُ قليلاً. قالوا إنّ من يخضع لاستئصال المعدة الكامل يجب أن ينتبه لطعامه … أمّي لم تكن تأكل جيدًا إلا من يديّ أنا.
“ها قد بدأنا، شاهدي جيّدًا.”
أخرج ميفيستو مرآةً ضخمةً لا تناسب حجمه من بين ذراعيه، وتمتم بتعويذة.
انبعث ضوءٌ ساطع كما في اليوم الذي تحوّلتُ فيه من دميةٍ إلى إنسان، ثمّ ظهرت ظلالُ أشخاصٍ على سطح المرآة.
“أمّي؟ أمّي!”
كانت هي، أمّي التي اشتقتُ إليها بشدّة.
“صوتكِ لا يصل إلى هناك، لذا لن يُجدي النداء نفعًا.”
“ما هذا، أمّي نحفت كثيرًا … هذا مؤلمٌ للنظر.”
مددتُ يدي ألمس وجهها المنعكس في المرآة؛ جلدها الخشن، خَدّاها الغائرتان، وعيناها المحمرّتان … كان المشهد يُمزّق القلب.
ثمّ أدركتُ شيئًا.
“لماذا ما زالت في المستشفى؟”
كانت ترتدي ثوب المرضى، والمكان حولها بلا شكّ غرفةٌ في مستشفى.
“لأنّ الزمن في ذلك العالم لم يمضِ سوى ستة أشهر تقريبًا.”
“ستة أشهر؟”
عندها سُمِعَ طرقٌ خفيفٌ على الباب خلفها، وتبعَه صوتُ فتحٍ مألوف.
الرجل الذي دخل الغرفة كان الطبيب الذي أعرفه جيّدًا؛ جرّاح المعدة الشهير الذي كان موعده ممتلئًا حتى بعد عامين. والدي استخدم نفوذه كي تُجري أمي العملية بعد يومٍ فقط من تشخيصها.
كانت ملامح أمّي الواهنة تُغرقني بالبكاء. كانت دموعي تنهمر بغزارةٍ لدرجةٍ تجعل رؤيتي تتشوش أكثر فأكثر.
“هاه… آسف، لا أستطيع أن أُبقي الصلة أطول.”
رفرف ميفيستو بجناحيه بتعب. كان وقتًا قصيرًا جدًّا.
“ألا يمكنني رؤيتها قليلاً بعد؟”
إنها أول مرّةٍ أراها منذ خمسة عشر عامًا … بكيتُ كثيرًا حتى لم أرَ وجهها بوضوح.
“على الأقلّ، هي لم تحزن سوى لستة أشهر، وهذه نعمة.”
الوجه الذي كنتُ أراه كلّ يومٍ في عالمي السابق صار، منذ أن فتحتُ عيني في هذا العالم، باهتًا كلّما حاولتُ تذكّره.
كنتُ أغمض عينيّ وأرسم ملامحها في خيالي، لكنها كانت تتلاشى دومًا، حتى استسلمتُ في النهاية.
“رأيتُها للتوّ … لكنّي لا أستطيع تذكّر وجهها.”
الوجه الذي كان قبل لحظاتٍ في المرآة بدا الآن غريبًا تمامًا، كما لو أنّي أنظر إلى شخصٍ آخر. خمس عشرة سنةً بهذا الوجه الجديد، وما زال يبدو غريبًا، كأنّه وجه غريبٍ عنّي.
***
“أوليفيا! ماذا جرى لكِ؟!”
صرخت ناتاشا حالما دخلتُ المكتب، فابتسمتُ لها بتكلّف.
كان من الطبيعي أن تتفاجأ؛ فقد صُدمتُ أنا نفسي صباحًا عندما نظرتُ في المرآة.
كانت عيناي متورّمتين حتى كاد الجفن يلتصق بأسفل العين.
فركتُهما بالثلج على عجل قبل القدوم، لكن لم يزُل الانتفاخ.
تجاهلتُ النظرات المترقّبة وجلستُ إلى مكتبي.
“ما الذي أصاب عينيك؟ هل لدغتكِ نحلة؟”
“ربما عليكِ بكمّادات الثلج.”
“هاها … قرأتُ كتابًا حزينًا قليلًا البارحة، لا تقلقا، أنا بخير.”
كم بكيتُ البارحة؟ لا أدري. بكيتُ طويلًا وأنا ممسكةٌ بالمرآة، صرختُ حتى اختفى صوتي.
لحسن الحظّ أنّ غرفتي بعيدةٌ عن بقية الكهنة، وإلا لسمعوني.
استيقظتُ هذا الصباح على التعب والدموع اليابسة.
على الأقلّ، ذلك الشيطان ذو الضمير العجيب وضعني على السرير برفق قبل أن يختفي.
لو كان عنده ذرةُ رحمة، لزاد مدّة العقد سنةً أخرى … أو على الأقلّ سمح لي برؤية أمّي أطول قليلًا.
آه … لمجرّد أن أتذكّر كلمة “أمّي” تنهمر الدموع مجدّدًا.
كانت عيناي تحترقان، فلوّحتُ بيدي أمامهما بسرعةٍ لأجفّف الدموع. لا مجال للبكاء أكثر، وإلا عدتُ إلى المنزل عمياء.
الأفضل أن أركّز على العمل. التفكير يُرهق القلب، أمّا العمل فيُنسيه.
هدفي اليوم هو إنهاء مشروع التأمين الطبّي الذي تحدّثتُ عنه مع إيدموند البارحة.
تجوّلي مع غالرهيد أمس جعلني أكثر إصرارًا على تخفيف التمييز ضدّ الأجانب.
الرعاية الطبّية مهمّة، لكنّ هناك ما هو أهمّ: تغيير الوعي.
يجب أن يتغيّر وعيُ أبناء الإمبراطوريّة، ووعيُ الأجانب كذلك. لا ينبغي أن يكون التمييز أمرًا طبيعيًا، ولتحقيق ذلك نحتاج إلى التعليم.
حاليًا، التعليم الوحيد المتاح للأجانب هو لغة الإمبراطوريّة، وهذا فقط بفضل تعديل القانون بعد الحرب الأهليّة قبل خمسة عشر عامًا. لكن لا يمكنهم دراسة أيّ موادّ أخرى، ولهذا يتعرّضون للغشّ والإهانة في كلّ مكان.
النبلاء يتعلّمون في الأكاديميات، والفقراء من العامّة يتلقّون دروسًا في مدارس صغيرةٍ أنشأتها المعابد.
لو أُنشِئت مدرسةٌ خاصّةٌ بالأجانب، لكان ذلك مفيدًا جدًّا. بل ربما سيأتي المزيد من التجّار بأبنائهم إلى الإمبراطوريّة من أجلها.
عليّ أن أنهي نظام التأمين الطبّي، وأُمرّر مشروع إنشاء المدارس، ثمّ أسرق قلب السيّد الموعود وأعود إلى عالمي.
طرَق—
“أوه، أوليفيا!”
ربّتت إيكلا على كتفي بخفّة، بينما كنتُ غارقةً في العمل.
“نعم؟”
“الأمر أنّ اللورد غالرهيد أتى لرؤيتك.”
“غالرهيد؟”
رفعتُ بصري نحو الباب لأرى غالرهيد يلوّح لي بيده مبتسمًا.
التعليقات لهذا الفصل " 53"