أنزل إيدموند فنجان الشاي الذي كان يمسكه بحذر شديد.
“آه، أو اشربه إذًا”
ما كان هناك داعٍ لكل هذا الارتباك!
“كخ، همم. أنتِ فقط تقولين أشياء لا تُصدَّق!”
ربما شعر بنفسه يبالغ أكثر من اللازم، فتنحنح قليلًا بينما يعيد الفنجان الذي كاد يسكبه إلى مكانه، ثم سأل: “إذًا … أين كنتِ طوال هذا الوقت؟”
“كنتُ أتسوّق وأتجوّل فحسب. آه، ورأيتُ لافتات كثيرة كُتب عليها أن دخول الأجانب ممنوع. فسألتُ إن كنتُ أُعتَبر مخالِفة للقانون، فقالوا لي أن أقدّم بلاغًا! يا إلهي، كم هم وقحون!”
على الأرجح لأن الغرامة زهيدة، لذلك يزدادون وقاحة.
حين أنتهي من مشروع الخدمات الطبية هذا، عليّ أن أقدّم اقتراحًا برفع الغرامات.
“كنتُ أفكر بالأمر نفسه. سأرفعها قريبًا.”
بدّل إيدموند وضع ساقيه وهو يعقد ذراعيه.
آه، صحيح، لقد رأى ذلك الموقف بنفسه في المطعم سابقًا. كم كانت وجوههم وقحة حين مارسوا التمييز!
“لكن بصراحة، لا يمكن رفع الغرامات بشكل مبالغ فيه منذ البداية. سأزيدها تدريجيًا، لكنّي لا أظن أن هذا سيكون حلًّا جذريًّا.”
كان محقًّا. فالقوانين والعقوبات قد تفرض الطاعة بالقوة، لكنها لا تغيّر القلوب.
أتمنّى فقط لو يتوقف الناس فعلًا عن التمييز ضدّ الغرباء، لكن … هل هناك طريقة فعّالة لذلك؟
“همم.”
لكن حتى في القرن الحادي والعشرين، في بلدي السابق، ما زال التمييز موجودًا.
حتى في ما يُسمّى بالدول المتقدمة، ظلّت نزعة تفوّق العرق الأبيض حاضرة.
أذكر حين انتقل لاعب كرة قدم شهير إلى فريق أجنبي وتعرّض للعنصرية، كيف ضجّت وسائل التواصل والأنباء حتى اضطرّ المعتدي للاعتذار.
ظاهريًّا كان الناس يصرخون: “أيّ عنصرية في هذا العصر؟!” لكنّها كانت لا تزال موجودة تحت السطح.
“إذن لا بدّ من تغيير الرأي العام، أليس كذلك؟”
ابتسم إيدموند بخفوت وقال: “لو كان الأمر بتلك السهولة، لكان تغيّر منذ زمن.”
أومأتُ ببطء.
فمع خلفية هذا العصر، يُفترض أن أوامر الإمبراطور تُرهب الناس وتجعلهم يطيعونها، لكن لا أحد يلتزم بها حقًّا.
“على كل حال … هل كنتِ تتجوّلين وحدك؟ فلو كنتِ وحدك، لما لاحظتِ لافتات منع الأجانب بسهولة.”
مرّ وهج غريب في عينيه الحمراوين الشبيهتين بعيني غالرهيد، لكنه بدا دافئًا بطريقة مختلفة.
سؤاله الحاد جعلني أنكمش دون قصد.
شعرت وكأن كلماته سكينٌ تلامس عنقي.
‘لِمَ أشعر بهذا الإحساس؟ لسنا حتى في علاقة!’
“طـ … طبعًا وحدي! كنتُ فقط أريد شراء بعض الأشياء. هاها …”
لماذا أبدو وكأنني أكذب بعد أن كُشِفتُ متلبّسة بالخيانة؟!
“إذًا، في المرة القادمة، ناديني أنا.”
“ماذا؟”
“سأحمل الأغراض لكِ، ولو كُنتُ مجرد حامِل أمتعة.”
أن أستخدم وليّ العهد كحمّال؟!
حدّقتُ في وجهه بدهشة، لكنّ ملامحه كانت مشرقة و سعيدة جدًا، حتى خُيّل إليّ أن كذبي كان تصرّفًا حسنًا.
“على كلٍّ، لماذا أتيتَ حقًّا؟”
“قلتُ لكِ … فقط.”
اتّكأ إيدموند على الكرسي الخشبي المتأرجح وحكّ رأسه بخفة.
“كنتُ في الأصل أنوي الذهاب معكِ إلى منطقة أومفا اليوم.”
“إذا دقّقنا، فإيكلا كانت مدعوّة أيضًا.”
“صحيح. كنتُ سأسألكِ … لماذا دعوتِ لوسيد أيضًا؟”
“لأنّي ظننتُ أن الذهاب جميعًا سيكون ممتعًا أكثر، كما أن لوسيد صاحب دور في مشروع أومفا.”
“من يراكِ يظنّكِ مساعدته الخاصة.”
عاد وجهه ليعقد حاجبيه من جديد بعدما اختفى ابتسامه السابق.
“ليس الأمر كذلك أبدًا. فقط لأنّي أريد نجاح مشروع أومفا بصدق.”
“… إذن لو دعاكِ لوسيد إلى مكتبه، لن تذهبي؟”
‘ماذا يعني بهذا؟’
“هل قال … إنه يريدني أن أزوره؟”
في الواقع، نعم، قال ذلك مرة.
“لماذا؟ هل ستذهبين فعلاً؟”
ارتفع حاجبه وهو يحدّق بي بنظرةٍ لاهبة.
طبعًا لن أذهب. صحيح أنني اكتشفت أن إيدموند ليس سيّدي، لكنّه لا يزال البطل الرئيسي.
في النهاية، هو من سيصبح الإمبراطور، أليس كذلك؟
إذن بقائي إلى جانبه يعني حياةً أكثر استقرارًا في هذا العالم … حتى لو كنتُ سأختفي قريبًا.
“لماذا لا تجيبين؟ هل فعلاً كنتِ تنوين الذهاب؟ ذلك الأحمق لا يجيد شيئًا أفضل مني.”
نهض بغتةً من مكانه بانفعال، فابتسم الكاهن الأكبر بتساهل بينما طأطأ فيليكس رأسه خجلًا.
“هَدّئ من روعك يا صاحب السمو. لا، لن أعمل في مكتب لوسيد أبدًا.”
‘ذلك الحبل فاسد، لن أتعلّق به.’
صحيح أنني لم أعمل رسميًا في حياتي السابقة، لكنّي أعلم جيدًا أنّ النجاح في العمل يعتمد على اختيار الجهة الرابحة.
لا أعرف بعد متى سيصبح إيدموند وريثًا رسميًا أو ما مصير لوسيد، لكن بما أن الوقت يضيق قبل عيد ميلادي، فمن الأفضل البقاء تحت جناح إيدموند.
“أظنّ أنّ المستقبل الذي أنشده … يمكن لجلالتك أن تصنعه.”
“المستقبل الذي تنشدينه؟”
“نعم، يا صاحب السمو. ولهذا لديّ اقتراح هام أودّ عرضه عليك.”
“اقتراح؟”
أعرف أن الأمر مفاجئ، حتى بالنسبة لي.
“نعم. بخصوص مشروع الخدمات الطبية. فتمويله من ميزانية القصر الخاصة بالإمبراطورة يثير اعتراض النبلاء، أليس كذلك؟”
ربما حان الوقت لطرح الفكرة التي أعددتُها مسبقًا.
ففي المكتب المفتوح يصعب التحدث عن خطط كهذه.
“صحيح. هذه أكثر نقطة تُربكنا حاليًا.”
ضغط إيدموند صدغيه بأصابعه وكأنه يعاني صداعًا.
“لذلك فكّرتُ في أمرٍ مختلف. ماذا لو أعلنا فرض ضرائب على عامة الشعب أيضًا؟”
“ماذا؟”
تبدّلت ملامحه في لحظة إلى الجديّة.
“لكن العامة يدفعون ضرائبهم أصلًا لأمراء المقاطعات. وإن طُلِب منهم المزيد فسيغضبون، حتى لو كان الهدف مشروعًا طبيًا.”
هزّ رأسه رفضًا، لكنّ خطّتي كانت أبعد من ذلك.
“هذا بالضبط هو مقصدي.”
“همم؟ ما الذي ترمين إليه؟”
“حين يسمع النبلاء أننا سنفرض ضرائب على العامة أيضًا، سيؤيدون القرار فورًا، لأنهم سيتخيّلون أنهم لن يتحمّلوا العبء وحدهم. لكن جلالتك تعلم أن ضرائب المقاطعات تختلف من منطقة إلى أخرى، أليس كذلك؟”
أومأ بخفة.
“طبيعي، فكلّ مقاطعة لها نشاط مختلف وطبيعة أرض مغايرة.”
“صحيح، لكنك تعلم أيضًا أن تلك الفروقات لا تُؤخذ بعين الاعتبار أبدًا.”
كان هذا العالم أشبه بعصرٍ فاسد من عصور جوسون القديمة، حين كانت القرى الجبلية تُجبر على دفع المأكولات البحرية كضريبة.
الضرائب هنا تُحدَّد بالكامل على هوى الحاكم المحلي.
فبعضهم يفرض الذهب بدل المحاصيل، وآخرون يأخذون القمح بدل المعادن.
وفي النهاية، من يدفع الثمن هم الفقراء فقط.
“إذن تقترحين توحيد نظام الضرائب؟”
“تمامًا. وسيكون مشروع الخدمات الطبية هو الخطوة الأولى لذلك.”
“عبر المشروع الطبي؟”
“نعم. حين يسمع النبلاء أننا سنجمع الضرائب من العامة لأجل هذا المشروع، سيُسرّون لأنهم يظنّون أن ضرائب المقاطعات باقية كما هي. لكن في الحقيقة، حين نُلغي ضرائب المقاطعات ونبقي فقط على الضريبة الموحدة، سنجعلهم يدركون متأخرين أنهم خسروا سلطتهم على الأموال.”
ارتسمت على شفتي إيدموند ابتسامة مائلة.
“إذن سيفقد الأمراء ضرائبهم الخاصة دون أن يشعروا؟”
“تمامًا.”
ابتسمتُ بالمثل. كانت ملامحه تفيض رضا.
“بهذا سنلقّن أولئك النبلاء درسًا لن ينسوه.”
“سيسعدون حين يمرّ المشروع، لكنهم سيندمون أشد الندم لاحقًا.”
“أتساءل كيف سيكون وجه الإمبراطورة حينها.”
فرك ذقنه ثم نهض من مقعده.
“جيّد. سأباشر تنفيذ هذا بنفسي.”
هل هو متحمّس للانتقام إلى هذا الحد؟ حتى خطواته بدت مفعمة بالإيقاع.
“أوليفيا، اتركي هذا الأمر لي. ركّزي أنتِ فقط على المشروع الطبي.”
قال ذلك وهو يفتح الباب مبتسمًا.
“وبالمناسبة، في المرة القادمة إن أردتِ شراء شيء، لا تنسي أن تناديني.”
ثم خرج.
‘ما الذي يحدث هنا؟ ولماذا أتى من الأصل؟’
سألتُ الكاهن الأكبر باستغراب: “سيدي، لماذا جاء صاحب السمو؟ ماذا قال؟”
“لم يقل لي الكثير، فقط سأل عنك. أظنّ أنه اشتاق لرؤيتكِ فحسب.”
ضحك الكاهن الأكبر برقة، لكني هززتُ رأسي نفيًا. لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا.
فقط البارحة كان يقول أشياء غريبة عن خلع الملابس وما شابه!
التعليقات لهذا الفصل " 52"