“كحهم ، هذا محرج فعلًا”
هل كان يكتم دموعه طوال ذلك الوقت؟
لقد ظلّ صامتًا فترة طويلة ثم بدأ بالبكاء بهدوء، وبعدها تمالك نفسه وابتسم.
“أوليفيا، كيف تستطيعين التفكير في حال الأجانب بهذا الشكل؟ ذلك أمر صعب، أليس كذلك؟ أن يهتم شخص غير مُتعرّض للتمييز بمن يتعرّض له.”
ذلك لأنني مررتُ به أيضًا.
“أنا أيضًا أعرف جيدًا كيف يكون التمييز بسبب المظهر.”
“أوليفيا أنتِ؟”
“نعم، أنا أيضًا …”
تدفقت إلى ذهني ذكريات الماضي، حياتي السابقة التي أصبحت الآن ذكرى بعيدة جدًّا.
لم تكن أمّي العزباء مصدر خجل لي أبدًا.
ففكرة أن تلد امرأة طفلًا وتُربيه بمفردها ليست أمرًا يستطيع أيّ شخص أن يفعله.
لكن ما كنتُ أخجل منه هو أن مظهري كان مختلفًا قليلًا عن الآخرين.
<يا، سمعت إن أمّك أجنبية؟ يقولون إنها بيعت إلى بلدنا من دولة فقيرة!>
كانت أمي فيتنامية.
قالت إن لديها ثمانية إخوة أصغر منها، وإنها جاءت إلى كوريا بفيزا عمل لأنهم كانوا يدفعون أجرًا عاليًا.
كانت تعمل ليلًا في المصنع وترسل كل ما تكسبه إلى فيتنام، وهناك التقت أبي وهي في العشرين من عمرها.
لكنّ ذلك الرجل كان متزوّجًا بالفعل.
لقد كذب عليها وقال إنه أعزب، وأتى إليها مراتٍ كثيرة يهمس لها بكلمات الحب.
صدّقته أمي، ووقعت في حبه، ثم حملت بي.
لكن ما إن أخبرته أنها حامل حتى تخلّى عنها، ومع ذلك أنجبتني أمي وربّتني بكل جهدها.
كنتُ أتعرّض للتمييز فقط لأنني مختلفة قليلًا عن الآخرين، رغم أنني أتحدث الكورية وأعيش في كوريا مثلهم تمامًا.
لذلك درستُ بجدٍّ أكبر.
في الحقيقة، لم يكن لي أي اهتمام بقسم العلوم السياسية والدبلوماسية قبل أن يظهر ذلك الرجل الذي يُدعى أبي من جديد.
لكنني حلمت بأنه إذا أصبحتُ دبلوماسية، أو حتى لو لم أصبح، فربّما أستطيع أن أساعد الأجانب الذين يتعرّضون للتمييز مثلي.
لكن ذلك الحلم تحطّم كلّه بعد حادث السير.
“أوليفيا؟”
عندما طال صمتي، نظر إليّ غالرهيد بقلق.
“هاها، لقد كنتُ يتيمة أيضًا، وكنت أتعرض للتمييز كثيرًا. كلّ ما في الأمر أنني لم أكن أملك أمًّا أو أبًا مثل البقية.”
رغم أنّ هذا عالم مختلف، إلا أن هناك احتمالًا بأن أعود إلى عالمي الأصلي.
إن استطعت فقط أن أسرق قلب هذا الرجل الواقف أمامي …
إن استطعتُ الحصول على قلبه تمامًا قبل يوم ميلادي …
“في أيّ مكان، لا بد أن يوجد أشخاص غريبون. كم من الأطفال صاروا أيتامًا بسبب الحرب، ومع ذلك يُميَّزون ضدّهم!”
في الواقع، لم أتعرّض لمثل هذا التمييز عندما كنت أعيش في المعبد، بفضل الكاهن الأكبر الذي كان يحبّني كثيرًا.
لكن في العالم الآخر، كوني من عائلة ذات أمّ واحدة جعلني محطّ أنظار الناس، لذا ابتسمتُ بتكلّف.
“همم، أوليفيا، هل تؤلمكِ ساقكِ كثيرًا؟ هل تشعرين بعطش شديد؟”
“لا، أنا بخير!”
خشيت أن ينشغل باله ظنًّا أنّني أتأذى بسببه، فأنكرت بشدّة، فسألني غالرهيد: “إذن، هل يمكنكِ أن تمشي قليلًا بعد؟”
هل هناك مكان يرغب بالذهاب إليه؟
في الحقيقة، كانت ساقاي تؤلمانني وكنت عطشى، لكنني اكتفيت بالإيماء برأسي.
ابتسم غالرهيد بفرح، وقال إنه يريد أن يذهب إلى مكان يودّ أن يُريني إيّاه، وتقدّم أمامي.
وصلنا إلى مكان بدا مألوفًا بالنسبة لي.
“واو، المُعلِّم!”
“ألم تقل إنك لن تأتي اليوم؟”
خرج الأطفال يركضون نحوه بفرح، يحيطون به من كل جانب.
“قلت ذلك، لكن يبدو أن لدي بعض الوقت اليوم.”
ربّت غالرهيد على رؤوسهم برفق.
“صوفي، هل تأكلين جيدًا؟ تبدين أضعف قليلًا.”
“المعلم! صوفي رمت البروكلي مجددًا اليوم!”
“يا ميلين! اخرسي!”
بينما يتشاجر الأطفال فيما بينهم، ابتسم غالرهيد بابتسامة أبويّة وهو يصف لهم الدواء.
“أنت تعرفين أن مرضكِ لا يُشفى إلا إن تناولتِ طعامكِ جيدًا، صحيح؟ خذي هذه الوصفة واطلبي أن يُحضّروا لكِ الدواء. قولي لهم إن الحساب باسمي.”
“لكن المعلم … جدّتي قالت إن هذا الدواء غالٍ جدًّا.”
“الأطفال لا يجب أن يقلقوا بشأن أمور كهذه.”
ثم واصل فحص باقي الأطفال واحدًا تلو الآخر.
بعضهم جاء فقط للدردشة، لكن معظمهم كانوا مرضى بالفعل.
في تلك الأثناء كنتُ أساعده في تدوين أسماء الأعشاب التي ذكرها في دفترٍ صغير وأعطيه للأطفال، أو أرافقهم أثناء انتظارهم.
“أوليفيا، أحسنتِ العمل. أرهقكِ الأمر، أليس كذلك؟”
قالها غالرهيد بصوت مبحوح من كثرة الكلام، وهو يبتسم.
“إذن هذا هو المكان الذي أردتَ أن تأخذني إليه؟”
“نعم. أوليفيا تعرفين هذا المكان، أليس كذلك؟”
“بالطبع، أنا من خصّصه لهم”
كان المكان معدًّا كمأوى مؤقت للأجانب أثناء إعادة تطوير منطقة أومفا.
كنت مندهشة لأن غالرهيد يعرف هذا المكان، لكن الجميع هنا كانوا يعرفونه هو أيضًا.
“في الواقع، منذ بدأت عملي وأنا أقدّم خدمات طبية تطوعية للأجانب. كما تعلمين، من الصعب جدًّا أن يُكشف أحدهم على يد طبيب هنا.”
جمع غالرهيد بعض الأدوات الطبية، وسار نحو المبنى، حيث كان بعض المرضى طريحي الفراش لا يستطيعون الحركة.
“غالرهيد دائمًا يعتني بالآخرين.”
يبدو أن مهنة الطبيب تتطلب فعلًا روح خدمة استثنائية.
“إنه فقط … أمر محزن.”
بعد أن أنهى فحص آخر مريض، ابتسم قائلًا: “أن يُحرم أحد من العلاج فقط لأنه يبدو مختلفًا عن الآخرين … هذا حقًّا محزن.”
كان يبتسم، لكن عينيه بدا فيهما الحزن.
ربما لهذا السبب مددت يدي ولمست شعره.
كانت خصلات شعره الفضية، التي تفضح أصله الغريب، تمرّ برفق بين أصابعي.
شعره الهادئ كأنه ضوء القمر الهابط، يهتزّ مع لمستي كأعشاب الخريف أو ذيل جرو صغير.
“أوليفيا؟”
“آه، آسفة.”
كنتُ أستمتع بالإحساس، فلم أتوقف عن لمسه.
وعندما حاولت سحب يدي، مال غالرهيد برأسه ودلكه في كفّي مبتسمًا.
“لا بأس، لقد أعجبني ذلك.”
كان وجهه المبتسم جميلًا حقًّا.
من حسن حظي أن الشخص الذي يجب أن أسرق قلبه شخصٌ طيب، لكن ما يؤلمني هو أنّ عليّ الرحيل بعد أن أحصل على قلبه.
“هل خيّبتُ ظنّكِ لأن المكان الذي جئتُ بكِ إليه ليس مميزًا؟”
هزَزتُ يدي بسرعة نافية.
“لا، أعجبني كثيرًا. كنتُ في الواقع أتساءل كيف يعيش الناس هنا بعد أن خصّصتُ لهم هذا المكان.”
“لا أحد يمنح السكان السابقين بيوتًا كهذه أثناء إعادة التطوير. أردت فقط أن أشكركِ.”
“الشكر على ماذا؟ هذا واجبي.”
“ذلك الواجب، نادرًا ما يعترف به الناس.”
قالها غالرهيد وهو ينظر إلى الأطفال الذين يركضون ويلعبون بفرح، مبتسمًا ابتسامة حزينة.
***
“إذن، عودي بحذر.”
“وأنتَ أيضًا، غالرهيد.”
أوصلني إلى المعبد، وظللت أنظر إلى ظهره الراحل طويلًا.
ما زلت لا أصدق … أن غالرهيد هو سيدي.
“إيه، حتى لو لم أصدق، ما الذي يمكنني فعله؟ المهم أنني وجدته.”
هززت رأسي بقوة لأطرد الأفكار العشوائية.
الآن بعد أن انتهيت من العثور على سيدي، عليّ أن أضع خطة لسرقة قلبه.
لم أفتح باب المعبد إلا بعدما اختفى غالرهيد في البعيد كنقطة صغيرة.
وعند دخولي، رأيت الكهنة يتحرّكون في عجلة.
“أوليفيا! كيف تدخلين الآن فقط!”
“لماذا؟”
ألم أقل لهم إن لدي موعدًا اليوم؟
نظرت إلى الكاهن روان متسائلة، فأخذ بسرعة ما كنت أحمله من أغراض وقال: “صاحب السموّ ينتظركِ منذ الصباح!”
“صاحب السمو؟”
“نعم، الأمير إيدموند!”
“ماذا؟!”
ما الذي جاء به إلى هنا؟
ركضت بسرعة إلى غرفة الاستقبال، وأنا مشوشة تمامًا مثل روان.
“… لقد تأخرتِ كثيرًا.”
ما إن طرقت الباب ودخلت حتى دوّى صوت فنجان يوضع بقوة على الطاولة.
رغم أنه وضع فنجانًا، إلا أن الجوّ كلّه خيّم عليه الثقل.
كان إيدموند جالسًا، ينظر إليّ بنظرة غاضبة لا تخفى، حتى دون أن يتكلم.
“صاحب السمو، ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“لقد جاء من أجلكِ.”
قال الكاهن الأكبر وهو يحتسي الشاي بابتسامة مشرقة لا تناسب جوّ الغرفة، مشيرًا لي أن أجلس.
جلست على الكرسي الخشبي الصارّ وأنا لا أفهم أبدًا سبب وجود إيدموند هنا.
“ألم تكن ذاهبًا اليوم إلى منطقة أومفا؟”
ألم يكن من المفترض أن يلتقي بإيكلا؟
“ولماذا أذهب؟ لقد ذهبتُ معكِ بالفعل.”
“هاه؟ لكن إيكلا هناك.”
“سيتولى لوسيد أمرها، لا بأس.”
كيف عرف أن لوسيد ذهب إلى هناك؟
صحيح أنني أنا من أرسلته، لكنه قال حينها إنه لن يذهب!
“وأنتِ، ما الذي كنتِ تفعلينه منذ الصباح حتى الآن؟ اليوم عطلة.”
كان في نبرة صوته شيء يشبه الغيرة.
رفعت رأسي بصعوبة لأنظر إليه، فلاحظت أن ملامحه ليست غاضبة بل … متجهمة بطريقة مختلفة.
“صاحب السمو … هل أنت غاضب؟”
كان وجهه ممتلئًا بالعبوس … عبوس شخصٍ حزين.
التعليقات لهذا الفصل " 51"