كان إيدموند يرغب في الاستمتاع بأوّل موعدٍ حقيقيّ مع أوليفيا.
أراد أن يُكمل الاعتذار الذي لم يستطع قوله في ذلك اليوم، وأن يطلب منها أن تنتظره حتى يُسمّي مشاعره التي لم يجد لها اسمًا بعد.
وبنصيحةٍ من دانتي، تمكّن بصعوبة من حجز مقعدٍ في الـVIP لأوبرا تحظى بشعبيّة كبيرة بين النساء هذه الأيام.
كما استأجر مطعمًا ومقهًى بأكملهما ذوي أجواءٍ راقية، وكان في غاية الشوق لتحديد موعدٍ في عطلة نهاية الأسبوع.
فما إن انتهى الاجتماع، حتى أسرع عائدًا إلى مكتبه.
لكن بما أنّ وقت الغداء قد حان، كان المكتب خاليًا.
فسارع إيدموند إلى قاعة الطعام.
وسط الزحام الكبير في مطعم القصر الإمبراطوريّ، التقطت عيناه أوليفيا بسهولةٍ عجيبة، كأنّ ضوء الشمس كان يخصّها وحدها.
كانت جميلةً حقًّا، يتماوج شعرها بلون السماء الصافية، و عيناها الشفّافتان تبتسمان وهي تضحك بخفّة.
ما الذي كانت تتحدّث عنه حتى تضحك بذلك الجمال؟
ولمّا رفع نظره قليلًا، أبصر الرّجل الذي يجلس أمامها — ذاك الذي كان يُعبّر عن إعجابه بها بوضوح.
اشتعل صدره غيظًا؛ فأن تراها تبتسم لذلك الرجل، لا له، كان كأنّ الماء الصافي قد تلطّخ بالوحل.
ولم يزد الأمر إلا سوءًا أنّ موظّفي المكتب كانوا يشجّعون بحماسٍ قصّة الحبّ الجديدة بين الشابّين.
‘هل أُخفّض مكافآتهم؟’
فهو الذي يدفع رواتبهم، فلماذا يشجّعون ذاك الأحمق بدلًا من وليّ عهدهم؟
ولم يستمع لتحذيرات دانتي الذي كان يحاول منعه، بل اندفع نحوهما مباشرة.
كاد، في لحظةٍ من جنونه، أن يطلب من أوليفيا موعدًا أمام غالرهيد علنًا — لعلّ ذلك يجعله يتراجع عن الاهتمام بها.
لكن ما إن سمع حديثهما، حتى لم يعد قادرًا على قول شيء.
فقد علم أنّ أوليفيا حدّدت موعدًا مع غالرهيد لعطلة نهاية الأسبوع، لا معه.
وفي نوبةٍ من الغيرة، قال بفظاظةٍ إنّ عليها العمل في ذلك اليوم، متذرّعًا بحجّةٍ واهية.
كانت حيلةً صبيانيّةً سخيفة، لكنّه آثر أن يعدّها خطوةً أولى نحو طلب الموعد.
حتى اقتحمت إيكلا الموقف، مفسدةً عليه خطّته.
“لماذا تذرّعتَ بالعمل أصلًا؟”
“اخرس.”
تذمّر دانتي الذي كان قد حجز له مقعد الأوبرا بعد عناء: “وماذا تنوي أن تفعل الآن؟ تجلس في مقعد الـVIP بين أوليفيا من جهة، وإيكلا من الجهة الأخرى؟”
“أجننتَ؟”
ضرب إيدموند الطاولة بعصبيّة.
“سأتخلّص من إيكلا قبل الموعد، وسأقضي الوقت معها وحدها.”
“لكن الأوبرا تبدأ في الثانية بعد الظهر.”
“إذن سأصرفه قبل ذلك.”
وبينما كان يُفكّر في طريقةٍ للتخلّص من إيكلا، سمع صوتًا مزعجًا كالصاعقة: “سمعتُ أنّك ذاهب إلى منطقة أومفا في عطلة نهاية الأسبوع؟”
كان ذلك لوسيد، ذاك الذي يثير أعصابه دائمًا، يبتسم ببرودٍ كعادته.
“وما شأنك أنت؟”
“ولِمَ لا يكون لي شأن؟”
فتح لووسيد عينيه ببراءةٍ مصطنعة وقال مبتسمًا: “آه، ألم تسمع؟ أوليفيا دعتني للذهاب معها أيضًا.”
“… إلى أين؟”
سعى إيدموند جاهِدًا لتهدئة صوته المرتجف.
“إلى منطقة أومفا طبعًا، إلى أين غيرها.”
“ولِمَ، لِمَ دعتك أنت؟”
“من يدري؟ ربما أرادت أن أكون برفقتها.”
تشنّجت يده حتى كادت قبضته تتحطّم.
ولولا أنّ دانتي لوّح له من خلف لوسيد أن يتمالك نفسه، لكان قد لكم وجهه المغرور ذاك في الحال.
“على كلّ حال، أراك في نهاية الأسبوع. ربما أدعوها بعد ذلك إلى تناول العشاء معًا؟”
ارتسمت على شفتي لوسيد ابتسامةٌ ماكرة.
“أليست جميلةً بحقّ؟ ذكيّةٌ أيضًا. أليست مؤسفةً أن تبقى مجرّد مساعدة في مكتبك؟”
“ما الجميل فيها؟”
كذب إيدموند بوضوحٍ فاضح، فهو يعلم جيّدًا كم هي جميلة.
يعلم أنّ عينيها تتلألآن كضوءٍ يرقص على سطح الماء حين تعبّر عن آرائها، وأنّ ابتسامتها تُشرق كالشمس حين يُصغى إليها أحد.
“على أيّ حال، إن لم تكن تريدها، فأرسلها إلى مكتبي. أنا معجبٌ بها فعلًا.”
“اصمت.”
تأمّل إيدموند لوسيد الذي ابتعد وهو يدندن بمرح، فشعر باليأس يغمره.
‘ليتها كانت جميلةً في عيني فقط.’
أو ليت بإمكانه القول إنها تخصّه وحده.
لكن ما دامت جميلةً، فستبدو جميلةً في عيون الآخرين أيضًا.
بدأ يسمع أحاديث الموظّفين عنها في كلّ مكان: “أليست حبيبةَ الأمير إيدموند؟”
“لا، يقولون إنه حبّ من طرفٍ واحد.”
“سمعتُ أنها تخلّت عنه وتبحث عن رجلٍ آخر.”
“حقًّا؟ إذًا قد تكون لي فرصة!”
“بوجهك ذاك؟ على الأقل يجب أن أكون أنا المنافس.”
حتى فرسان القصر الخارجيّ لم يتوقّفوا عن ذكرها.
تلك الثرثرة جعلته يفقد صبره، فقرّر أن يصطحبها في نزهةٍ على الفور.
***
“يبدو أنّ الموعد من دوني كان ممتعًا، أليس كذلك؟”
خرج فيليكس من الظلال متجهّمًا، بينما كان إيدموند لا يزال يتحسّس دفء يدها العالق في قفّازه الجلديّ.
“كنتَ تتعقّبني على أيّ حال.”
“لا يمكنني ترك سموّك وحدك، فذلك إخلالٌ بواجبي.”
“دعني وشأني قليلًا. لستُ طفلًا.”
“طفلٌ هو من لا يعي مشاعره حتى يكاد يفقدها، ثم يدركها متأخرًا.”
تقطّبت الحواجب الوسيمة بغضب.
“يمكنني تدارك الأمر الآن.”
“حسنًا، اليوم لم يكن سيئًا. لكن في المرّة القادمة حضّر مسار موعدٍ أكثر تفصيلًا.”
“لم يكن بيدي، كنتُ أنوي الموعد في عطلة نهاية الأسبوع.”
قال ذلك بعصبيّة، متذكّرًا أنّه كان سيبعد إيكلا بسهولة، لكن وجود لوسيد جعل الأمر مستحيلًا.
“في المرة القادمة ستنجح.”
“أجل، في المرّة القادمة.”
رفع يده يمسح شعره، ثمّ تطلّع إلى السماء التي تحوّلت من زرقة شعرها إلى سوادٍ يشبه شعره هو.
“أعجبني اللون.”
“عفوًا؟ ماذا أعجبك؟”
“لون السماء.”
“لكنها حالكةٌ اليوم، لا نجوم فيها.”
“لهذا أعجبتني.”
فليكن عالمها غارقًا فيه وحده، ملوَّنًا بلونه فقط.
ولئلّا تلوّنه ألوانُ الآخرين.
ثمّ واصل إيدموند سيره في الظلام.
***
أما غالرهيد، فلم يُبدِ أيّ ارتباكٍ حين غيّرتُ موعدنا فجأة.
“بل هذا أفضل، سأقضي مع أوليفيا وقتًا أطول.”
كاد ذلك الجواب أن يُحرجني أكثر من لو أنه تفاجأ.
فأجبتُه بابتسامةٍ مصطنعة وأنا أرتشف الشاي.
“إذًا، أراكَ في عطلة نهاية الأسبوع.”
وحين حلّ الموعد المنتظَر، وصلتُ باكرًا، لكنه كان قد سبقني ينتظرني بابتسامةٍ دافئة.
“لا داعي لأن تركضي.”
قالها بلطفٍ وهو يتعامل معي كأنني قطعة زجاجٍ هشّة.
“هل نذهب؟”
“آه، نعم!”
سرنا معًا بين المحالّ التجارية، متظاهرَين بأنّ هدفنا هو شراء “هدية عيد ميلادٍ لأخته”.
“هل فكّرتَ في هديةٍ معيّنة؟ لقد جمعتُ بعض الاقتراحات من الموظّفات.”
فتحتُ الورقة التي أعددتُها مسبقًا وبدأتُ أقرأ: “إن كانت تحبّ الحلويات، فمخبز الشارع الأوّل يبيع مجموعة بسكويتٍ شهيرة. وإن كانت تفضّل الحُليّ فالمتاجر في الشارع الخامس ممتازة. أما مستحضرات التجميل والعطورـ”
“هل تعرفين متجرًا يبيع دُمى جميلة؟”
“تحبّ أختك الدُمى؟”
سألته وأنا أراجع في ذهني إن كانت أخته صغيرةً إلى هذا الحدّ.
“لحسن الحظ أنني أضفتُ متجر ألعابٍ إلى القائمة.”
“هذا المتجر تحديدًا نصحتني به ناتاشا، وتقول إنه شهيرٌ جدًّا بين الأطفال هذه الأيام!”
نظرتُ إلى الورقة لأتأكد من الاسم.
“متجر (فيفو) في الشارع الرابع! أنذهب إليه؟”
“رائع.”
كانت الشوارع مزدحمةً أكثر من المعتاد.
حتى عندما كنتُ مع إيدموند في الساحة من قبل، لم يكن الزحام بهذا الشكل.
التعليقات لهذا الفصل " 49"