وبين الزحام، اقتربت المسافة بيني وبين إيدموند، حتى إنّ أطراف أصابعنا كانت تتلامس بخفة مع كلّ خطوة.
لكنّه، على ما يبدو، لم يشعر بشيء بسبب القفازين في يديه.
إن بقيتُ هكذا سأبدو متوترة، وإن ابتعدتُ فسأبدو أكثر توترًا.
تردّدت قليلًا، ثم قرّرت أن أربط شعري من جديد علّي أستطيع بذلك إبعاد يدي بطريقة طبيعيّة.
لكنّ إيدموند أمسك بمعصمي فجأة.
“إيد … إيدموند؟”
“خِفتُ أن تضيعِي. الناس كُثُر هنا.”
“أضيع؟ هذا طريقي إلى العمل!”
أجبتُه بدهشة من عذرِه الغريب، فحوّل بصره بعيدًا وقال متلعثمًا: “أعني … أنا! أنا مَن قد يضيع. لم أخرج من القصر كثيرًا، والليل حالك، والطرق متشابهة، فأرتبك أحيانًا.”
كان ملمس الجلد باردًا في الأصل، لكن حرارته بدَت دافئة على غير العادة، وامتدت الحرارة إلى وجهي حتى لم أستطع النظر إليه مباشرة.
إيدموند، بطبعه، لا يتحدث كثيرًا.
فمرّ الوقت بصمتٍ بيننا، وظلالنا الممتدة على الأرض بدت كأنّها لثنائيٍّ منسجم.
ربما يرانا المارّة الآن كأيّ عاشقين عاديّين يسيران جنبًا إلى جنب …
نظرتُ إليه خلسة.
حتى في ثياب العامة كان يلفت الأنظار بهيئته المنتصبة وملامحه الهادئة الواثقة.
يبدو أنّ وحدي من تشعر بالحرج.
في حياتي السابقة وهذه الحياة، لم أمشِ مع رجلٍ هكذا من قبل.
لا أب، ولا أحد أمسكتُ يده بهذه الطريقة.
الإحساس بالسير مع شخصٍ يشاركك الخطى … جميلٌ على نحوٍ غريب.
هل هذا ما يسمّونه شعور الحب؟
حتى حين تناولتُ الطعام مع غالرهيد لم أشعر بهذا الشكل.
وبينما كنتُ أُمعن التفكير، وقعت عيني على يدينا المتشابكتين.
‘يا إلهي … أهذا كله عَرَقي؟’
قفازُ إيدموند الأسود صار رطبًا.
يجب أن أُبعد يدي فورًا قبل أن ينتبه!
ركّزتُ كلّ طاقتي على أصابعي، أحاول الانسحاب ببطء كي لا يبدو تصرفًا وقحًا أمام وليّ العهد.
لكن ما إن بقي الإبهام وحده حتى دسّ أصابعه بين أصابعي وأحكم القبضة.
وصوت الجلد يحتكّ بالجلد صدمني أكثر من كلّ شيء.
‘لماذا يُشبك أصابعه الآن بالذات؟!’
“همم. كيف كان اليوم برأيكِ؟”
سألني بصوتٍ هادئ، فبدأتُ أبحث بسرعة عن أيّ موضوعٍ للحديث، فقط لأُنهي الموقف.
“أعتقد أنّ فكرة جعل المداخل متعدّدة كانت حقًا عبقرية.
ثم خطر لي أمر آخر، البناء الذي شيدناه … ما رأيك لو خصّصنا بعضه كمراكز حراسة صغيرة لفرقة المراقبة؟
نطلِيها بلونٍ بارزٍ حتى يعرفها الناس، وحين تقع حادثة يمكنهم التوجّه إليها للإبلاغ.”
كنتُ قد فكرتُ في ذلك أثناء التجوال بين البيوت المتشابهة الألوان.
فوجود مراكز كهذه — مثل مراكز الشرطة في عالمي السابق — سيكون مفيدًا جدًا.
“وأظنّ أنه من الأفضل أيضًا وضع لافتة على النافورة تقول:
‘يُمنع الدخول إلى الداخل’، للوقاية من الحوادث.”
“… هاه.”
تنفّس إيدموند بعمق، كمن يُخفي ضحكة أو ضجرًا.
هل قلتُ شيئًا خطأ؟
“آه! وتذكّرتُ شيئًا آخر، السكن الذي شيّده الأمير لوسيد لشعب فوغليش، ما زال الناس هناك غير راضين عنه. على العكس، المشروع الذي خطّط له سموّك سيحظى بسمعة طيبة بالتأكيد. حتى غالرهيد قال إنه فضّل الاستقلال بالقرض بدل العيش في تلك المساكن!”
لكنّ إيدموند شدّ قبضته أكثر وقال بلهجةٍ حادّة: “لم أقصد هذا النوع من الحديث.”
ارتبكتُ من نبرته المفاجئة، فتنفّس هو بعمق ثم مسح وجهه بكفّه كمن يهدّئ نفسه، وقال بصوتٍ أخفّ: “كنتُ أسأل … عن موعدنا. أقصد، عن جولة اليوم.”
“آه … الجولة، صحيح.”
تلعثمتُ. تلك الكلمة “موعد” صدرت منه بغتةً كصاعقة.
“يعني، فكرّي، حضرنا عرضًا، وتناولنا الطعام … أليس هذا موعدًا في النهاية؟ كلمة ‘موعد’ أجمل من ‘جولة تفقدية’ فحسب.”
لكنني ذكّرتُ نفسي أن هدفي هو مغادرة هذا العالم، والعودة إلى أمّي.
هل بدأتُ أتعلّق بهذا المكان بعد كلّ هذه السنين؟
“لا بأس به فقط؟ لم أسمع مثل هذا التقييم من قبل. اعتدتُ سماع ‘رائع’ أو ‘الأفضل’ دائمًا.”
تظاهر بالاستياء، لكن ابتسامته لم تغب.
“إذن الجولة القادمة … سأجعل تقييمها أعلى.”
توقّف عند باب المعبد وقال: “ها قد وصلنا.”
لم أدرك متى قطعنا الطريق كلّه، بل شعرتُ بشيءٍ من الخيبة لكوننا وصلنا سريعًا.
‘خسارة؟ لماذا أشعر بالخسارة؟’
ألم أكن أتمنى العودة باكرًا للراحة؟
“ادخلي.”
“إلى اللقاء، يا صاحب السمو.”
“ها؟ عُدتِ تقولين صاحب السموّ مجددًا؟”
ضحك وهو يربّت على رأسي بخفة.
هو نفس الإيماء الذي اعتدتُ عليه في المكتب، لكن تحت ضوء القمر بدا أكثر دفئًا.
“لا أحد هنا، لذا يمكنني أن أقولها بأمان.”
“حسنًا، إذًا عليّ أن أعتاد بدوري …”
“هاه؟ على ماذا؟”
“على أن أجعلكِ تنادينني ‘إيدموند’ دون تكلف.”
“لِمَ ذلك؟”
تغيّر صوته فجأة، ومعه ارتبك قلبي أيضًا.
مدّ يده نحوي ببطء، فتوترتُ دون سبب واضح.
هبّت نسمة لطيفة، فطار شريطةُ شعري من مكانها.
“آه، رباط شعري!”
أمسك به إيدموند، ثم مدّ الخصلات الزرقاء المتطايرة وقبّل أطرافها بلطف.
شعري لا يملك إحساسًا، لكنّ وجهي احمرّ كما لو أنّ الشفاه لامست خدي مباشرة.
“هكذا سيكون التنكّر أنسب. طالما نرتدي زي العامة، من الغريب أن تناديني بلقب رسمي. ثم إنّ ملامحي تدل على دمٍ فوغليش، ولن يشكّ أحد بأننا من الطبقة العليا.”
“آه … فهمت.”
معه حق، فالغرض من هذه الزيارة هو السرّية.
“سأكون أكثر حذرًا في المرات القادمة.”
ابتسم وسلّمني رباط الشعر مجددًا.
“أوليفيا.”
“نعم؟”
“كما تعلمين، لستُ من أولئك الذين يُشبهون أشعة الشمس.”
توقفتُ في مكاني متسائلة عن مغزى كلامه، فأكمل بهدوء: “لكن ربما أستطيع أن أكون نسمةَ الربيع التي تُداعبك.”
“هاه؟”
ما زلتُ لا أفهمه.
كنتُ دائمًا الأولى في دروس اللغة، لكن لغته وحدها عصيّةٌ على الفهم.
“أنا الذي سينزع عنكِ معطفك.”
“تنزع؟ ماذا؟ ماذا قلتَ بالضبط؟!”
بينما شهقتُ، مدّ يده وأعاد إغلاق معطفي بعناية.
“أعني، حتى لو أشرقت الشمس وسخُن الجو، لا تخلعي معطفك أبدًا. فهمتِ؟”
ترك تلك العبارة الغامضة ومضى مبتعدًا.
ورأيتُ لونَ الحمرة يمتدّ حتى أطراف أذنيه.
ما هذا الكلام الغريب؟ أنا المجنونة أم هو؟!
لم أفهم بعقلي، لكن قلبي أخذ يخفق كالمجنون.
يبدو أنّ الجمال الخارق قادر على تشويش المنطق فعلًا.
تلاعبت الريح بشعره الأسود وهو يبتعد بخطواتٍ واثقة.
حتى ظهره وسيم … ما هذا الرجل؟
ظللتُ أحدّق في ظهره طويلًا، وكأنّني لا أريد أن تنتهي تلك اللحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 48"