ابتسم إيدموند بخفة، وأخذ يُدوّر الكأس أمامه بأصابعه.
الماء الشفاف في الكأس كان يهتزّ وفق حركته، ومعه كان قلبي يهتزّ بلا قرار.
“ليس سيئًا، لكن في المرة القادمة أُفضّل أن تناديْنني من دون ‘سيد’.”
“المرة القادمة؟”
“أجل، المرة القادمة. فأنتِ مساعدتي، ولا بد أن نخرج في جولات تفقدية سرّية كهذه مجددًا، أليس كذلك؟”
رغم نبرته الوقحة، بدت أطراف أذنيه حمراء خجلًا من سماع لقبه مصحوبًا بتلك النغمة الحميمية.
غمرني شعور غريب بالدفء، فانفلتت مني ضحكة صغيرة.
“ممَّ تضحكين؟”
“لأنك تبدو … لطيفًا قليلًا.”
“أنا؟ بهذا الجسد؟”
نظر إلى نفسه بدهشة، وكأنه لا يصدق ما قلت.
حقًّا، إيدموند لم يكن من أولئك الذين يُوصفون بـ”اللطفاء”.
كتفاه العريضتان وصدره القوي وعضلات ذراعيه المشدودة جعلت القميص يبدو وكأنه صُنع له خصيصًا.
لكن، لا أعلم لماذا … بدا لي لطيفًا بالفعل.
“إنها مجاملة، فاقبلها فحسب.”
“لو قسنا الأمر بالمثل، فأنتِ من تبدين لطيفة أكثر.”
“هاه … مـ، ماذا؟”
لم يُجب.
وبينما خيّم الصمت الغريب، وُضعت الأطباق على المائدة.
“انظري.”
ابتسم وهو يُشير إلى الطعام أمامنا.
“حين يكون شخصان مختلفين، يمكنهما طلب طبقين مختلفين وتقاسمهما. هكذا يُكمل أحدهما الآخر.”
ناولني بعضًا من طبقه، بلُطفٍ لم أعهده منه.
ثم عاد الصمت مرة أخرى.
حتى صوت الملاعق والسكين اختفى، فصار الجو ثقيلًا.
الطعام في مثل هذه الأجواء لا يُهضم أبدًا.
رفعت بصري نحوه بخجل.
كان يأكل بهدوء وأناقة وكأنه صورة تعليمية في كتاب آداب المائدة.
غالرهيد كان يتحدث معي بحرية أثناء الطعام … أما مع أمير البلاد؟
يكفي أن أفتح فمي فيوبخني بحجة مخالفة الآداب.
قررت التركيز على طبقي فقط.
“ألا تجدين ما تتحدثين فيه معي؟”
“هاه؟”
كنت أقطع اللحم بعناية حين سألني بنبرةٍ عاتبة.
رفعت رأسي، فوجدته يحدّق بي بتجهمٍ واضح.
“أراكِ تتحدثين مع غالرهيد بحرية أثناء الطعام، لكن معي لا كلمة.”
“آه …”
صحيح، لماذا كان هناك في ذلك اليوم أصلًا؟
“حتى يوم تناولي الطعام مع غالرهيد … يبدو أنك تخرج كثيرًا، يا صاحب السمو.”
هل طعام القصر لا يُناسبه؟
أم أن لوسيد أو الإمبراطورة يعبثان بطعامه؟
احتمال وارد تمامًا، فهما يتنافسان على ولاية العهد، و الإمبراطورة لا تطيق تفوق إيدموند، فربما أرادت حماية ابنها بالتخلّص من المنافس.
“ما بال وجهكِ صار جادًّا هكذا؟”
“آه، لا شيء.”
ضحك بسخرية ورفع شوكته.
“لا أعلم بماذا تفكرين، لكن سبب وجودي هناك ذلك اليوم هو …”
توقف لحظة، ثم قال بعد تردد: “كنتُ فقط … أشتهي شريحة اللحم هناك في ذلك اليوم.”
أوه، مفهوم.
أحيانًا أتناول الأطعمة الحارة رغم أنني لا أطيقها، فقط لأنها تشتهيها نفسي.
وحين بدا لي أنه لا يُمانع الحديث أثناء الطعام، بدأتُ أطرح عليه بعض الأسئلة علّي أكتشف ما إذا كان هو فعلاً السيّد الذي أبحث عنه.
“هل عشتَ هناك منذ طفولتك، سيد إيد؟”
“أما زلتِ تجهلين ذلك؟”
قالها بنبرة مستغربة.
“حقًّا، كنتِ صغيرة حينها.”
صغيرة؟ ما الفارق بين عمرينا أصلًا؟!
لكني التزمت الصمت، فالقصة كانت تهمّني.
“كما تعلمين، جلالته لم يكن يومًا قريبًا من العرش.”
أومأت برأسي. كنتُ أعرف ذلك من خلال الرواية التي قرأتها سابقًا.
“كان أصغر إخوته الثلاثة عشر غير الأشقاء، ولم تكن له رغبة في العرش أصلًا. بعد زواجه من والدتي، ترك القصر وعاشا معًا بعيدًا.”
كانت عيناه تنعكسان بريقًا حزينًا حين تذكّر الماضي، فاستعدت في ذهني تلك المأساة التي نسيتها.
أم إيدموند، الراقصة الغريبة، قُتلت قبل خمسة عشر عامًا خلال الحرب الأهلية … على يد غرباء مثلها.
“رغم أنّ أبي بلغ العرش بفضل أمي، إلا أنه فقدها قبل أن يعتليه.”
في تلك الحرب، المتطرفون من الغرباء قتلوا حتى أنصاف الدماء، ووصفوا أم إيدموند بالخائنة لأنها تزوجت من أميرٍ بشري.
كان كاي، والد إيدموند، يعيش في كوخٍ صغير بلا حراسة بعد أن تزوج من الراقصة الغريبة. لكن حين طالت الحرب، قررت العائلة الإمبراطورية تهدئة الغرباء بتنصيب كاي إمبراطورًا.
وفي اليوم الذي عاد فيه إلى القصر، تسلّل المتطرفون إلى منزله وقتلوا المرأة التي كانت ستصبح الإمبراطورة.
إن لم يكن إيدموند قد عاش في القصر منذ صغره، فقد يكون هو سيّدي المفقود …
ففي ذلك الوقت لم يكن حول البيت حرّاس، وربما خرج طفلٌ صغير إلى الشوارع بلا حماية … وأصيب برصاصةٍ كما في الحكاية؟
لا، مستحيل. قال إنه لا يحب الدمى، فكيف كان سيحمل دميةً حينها؟
“فلننتقل إلى الحلوى الآن.”
كانت الحلوى قطعة كعكٍ مغطاة بالشوكولاتة الفاخرة.
لكن إيدموند لا يحب الشوكولاتة.
“خذي هذه.”
كما توقعت، لم يأكلها.
“قلتَ إنك لا تُحب الشوكولاتة، لذا كُلها الآن على الأقل.”
قلت ذلك و أنا أبتسم.
الكعكة لذيذة فعلًا … لكن—
“إذن، اسمحي لي لحظة.”
“آه، نعم.”
إلى أين ذهب؟ الحمّام؟
وبينما كان بعيدًا، ناديتُ النادل.
“عذرًا.”
“نعم، سيدتي؟ هل تحتاجين شيئًا آخر؟”
“رأيتُ في القائمة حلوى تُدعى باتيسا، أيمكنك إحضار واحدة من فضلك؟”
أومأ النادل وغادر بينما عاد إيدموند.
“هل هناك مشكلة؟”
“لا، فقط … ما هذا؟”
عاد إيدموند ممسكًا بباقة ورد.
“إنها هدية كنتُ أنوي تقديمها لكِ من قبل.”
“من قبل؟”
هل وعدني بهدية يومًا ما؟
“وما هذا بالضبط؟”
نظرتُ بدقة، فوجدت شيئًا آخر بين الأزهار.
“هذه … شوكولاتة من المتجر الذي أحبّه!”
“همم. تأخرتُ قليلًا فقط.”
سعل بخفة، ثم وضع يديه على الطاولة بقوة وانحنى.
“أنا آسف.”
هاه؟ اعتذار؟ فجأة؟
“لم أدفعكِ عمدًا ذلك اليوم. لم أظن أنك ستسقطين هكذا.”
“آه، الجبهة؟”
إذًا لهذا يعتذر! ظننتُه سيقول شيئًا أكبر.
“نزفتِ بسببي، لذا … أنا حقًا آسف.”
“أعلم أنك لم تفعلها عمدًا، واعتذرتَ يومها أيضًا.”
“لكنكِ تأذّيتِ، وهذه حقيقة.”
تسلمتُ باقة الزهور الزرقاء بلون شعري.
لو أنه اكتفى بالشوكولاتة لكانت كافية، لكنه أحضر الزهور أيضًا … أمرٌ لم أتوقعه منه.
“قالوا إن هذه الشوكولاتة هي الأكثر مبيعًا في المتجر الذي ذكرتِه لي.”
“شكرًا لك.”
مدّ الهدية مجددًا نحوي.
“وهذا ما هو؟”
“آه، هذا شيءٌ خاص انتقيتُه بنفسي.”
بدا فخورًا، فظننت أنه شيء فاخر.
“هل يمكنني فتحه؟”
“بالطبع.”
كان الصندوق كبيرًا قليلًا، فظننت أنه حذاء أو ما شابه.
لكن حين فتحته، انبعثت منه رائحة قوية نفّاذة.
“هذا…”
“عقارٌ ثمين حصلتُ عليه بشقّ الأنفس. كنتُ أتناوله لتقوية جسدي.”
“آه… عقار…”
هذا حقًّا يليق بإيدموند.
أغلقتُ الغطاء بابتسامةٍ محرجة.
“اغلي مقدارًا منه بالماء كل يوم واشربيه. جسدكِ ضعيف، لذا اعتنيتُ باختيار هذا بعناية. تناولي منه يوميًّا.”
“سأفعل. شكرًا لك.”
حسنًا، ما دام فِكرته أن يعتني بي، فلا بأس.
“أبدو كمَن سيشرب الدواء ثم يأكل شوكولاتة، أليس كذلك؟”
مع أنني سأموت إن لم أجد سيدي قبل عيد ميلادي … لكن تذكّر ذلك الآن أوجعني.
“طلب الباتيسا، تفضّلي.”
“ما هذا؟”
“آه، طلبتُه أنا أثناء خروجكَ.”
دفعتُ الطبق نحوه مبتسمة.
“تذوّقه، إنه حلوى مصنوعة من نبات باتي.”
الباتي من أشهر المقويات الشعبية، أشبه بالجينسنغ الأحمر.
يُغلى بالعسل حتى يتركّز، ثم يُجفّف ليُصبح حلوى تُدعى باتيسا.
يُحبّه عامة الناس وكبار السن، وحتى الكهنة في معبدنا يتناولونه كثيرًا.
لكنه يُعد حلوى للفقراء، لذا ظننتُ أن الأمير لم يذقه من قبل — ويبدو أنني كنتُ محقّة.
“طلبتِه لأجلي؟”
“لقد تنازلتَ لي عن الحلوى، فاعتبره ردًّا بسيطًا.”
“أقدر ذلك.”
بدأ يأكل بهدوء، وبدا أنه أعجبه حقًّا.
“لذيذ.”
“هاه؟”
“أعني … هذا الطبق. ليس حلوًا كثيرًا ومفيدٌ للجسد.”
أوه، ظننته يقصدني أنا!
“ما اسمه؟”
“باتيسا.”
“سأطلب من الطهاة إعداد مثله حين نعود.”
كان راضيًا تمامًا، بينما أنا اكتفيتُ بمشاهدته وهو يستمتع بطعامه، وأنهيتُ كعكتي بابتسامةٍ صغيرة.
التعليقات لهذا الفصل " 47"