كان دفء يد إيدموند التي أمسكت بي غريبًا عليّ، حتى ظننتُ أنني أعيش حلم يقظة وأنا أمشي.
هل يعقل أن هذا الرجل هو من بادر وأمسك بيدي؟ وفوق ذلك… ليس لأجل العمل؟
“هل تظنّين أننا لا نسير معًا إلا من أجل العمل؟”
“بل من الغريب أن نسير لسببٍ غير العمل!”
كان يجرّني من غير أن ينظر إليّ، حتى خُيِّل إليّ أنني أُقتاد إلى مكان ما قسرًا.
“أتظنين أن مشاريعي تقتصر على منطقة أومفا وحدها؟”
كنتُ أعلم أنّ إيدموند قد أطلق مشاريع عدّة لينال رضا الإمبراطور.
“صحيح، لكن ألا يعرف دانتي ذلك أكثر مني؟”
فالمشاريع تلك لم أشارك فيها أصلًا، وحتى لو رافقته لما كنتُ لأفهم تفاصيلها.
حين سألتُ باستغراب، لم يُجب، بل شدّ قبضته على يدي وسار بخطى أسرع.
“لكن يا صاحب السمو، على الأقل أخبرني ما الذي عليّ أن أتحقّق منه؟!”
ارتبكتُ. كيف لي أن أعرف ما إن خرجنا فجأة إلى الشوارع؟
“ما عليكِ سوى أن تسيري بشكلٍ عاديّ. وإن شعرتِ بالإحراج … فاعتبريه موعدًا غراميًّا إن شئتِ.”
“هاه؟! موعد … غرامي؟!”
“ليس موعدًا حقيقيًّا، فقط فكّري به على هذا النحو.”
هل الأمر مجرّد جولة تفقدية لا أكثر؟ لكنه قال إن العمل انتهى … يا له من رئيس مزاجي.
كان يسير أمامي ثم رفع رأسه نحو الشجرة وقال: “فيليكس، انتظر هنا.”
فقفز فيليكس من فوق الشجرة وأومأ برأسه. منذ متى كان يتبعنا؟ كنت أظن أنه سيواصل مرافقتنا بحكم كونه الفارس المكلّف بالحراسة، لكن يبدو أننا الآن وحدنا حقًّا.
“هل هناك ما ترغبين في فعله؟”
“لا أدري.”
“حين طلبتِ الخروج في موعد، ما الذي كنتِ ترغبين في فعله؟ فلنقم به، حتى يبدو الأمر طبيعيًّا في نظر الناس.”
في الحقيقة، لم أكن أخطّط لشيء أصلًا لأنني كنتُ أعلم أنه سيرفض الموعد.
“ما الأمر؟ لم تخطّطي لشيء، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ بخجل وأخذتُ أبحث بعينيّ في المكان. الوقت ليس مناسبًا للطعام … فبماذا يُقضى الوقت عادة في موعد؟
في حياتي السابقة، أول موعد لي كان مع غالرهيد.
وحينها لم نفعل سوى الأكل والثرثرة … فهل يمكنني الجلوس مع إيدموند على مقعدٍ ونتحادث؟ قد أموت اختناقًا من التوتّر.
“ما رأيكَ أن نذهب إلى هناك؟”
“وما ذاك؟”
لا أعلم أنا أيضًا. فقط رأيتُ تجمعًا من الناس فسحبته نحوه.
“إنها مسرحية دُمى!”
في هذا العصر لا توجد أفلام، بل المسرحيات والأوبرا، ولأنها باهظة الثمن، كان عامة الناس يفضّلون مسرحيات الدمى المصنوعة من القماش.
“مسرحية دمى، إذًا.”
نظر إيدموند إلى الأطفال الجالسين على الأرض وإلى بعض الكبار الواقفين خلفهم، وقطّب حاجبيه. ربما رأى أن الوقوف لمشاهدة عرضٍ كهذا لا يليق بأمير.
هو معتاد على مشاهدة المسرح من مقصورته الخاصة، جالسًا على مقعدٍ مريح وبجانبه كأس نبيذ.
“هل يجد الناس مثل هذا ممتعًا؟”
كانت القصة مألوفة: فارس شجاع يهزم تنينًا شريرًا وينقذ الأميرة ثم يقعان في الحب.
صفّق الأطفال حين انتصر الفارس، وهتف الكبار عندما اعترف الفارس والأميرة بحبهما لبعضهما.
حسنًا، ليست مثيرة، لكنها على ما يبدو محبوبة. ربما لأنني قادمة من عالمٍ امتلأ بالروائع، فلم أجد فيها أثرًا من الدهشة.
نظرتُ نحوه بطرف عيني، ففوجئت بأن إيدموند كان يُشاهد العرض بعينين تلمعان إعجابًا. يا له من منظرٍ لطيف.
“من استمتع بالمشاهدة، فليضع بعض النقود في القبعة!”
هتف صاحب العرض بعد أن أنهى مسرحيته، وبدأ الناس يلقون بعض القطع النقدية.
فتّشتُ جيبي …
“آه.”
صحيح، هذا ليس ثوبي. إنه الثوب الذي أعطانيه إيدموند، ولا شيء من أغراضي معي.
“صاحب السمو، هل معك بعض النقود؟”
أخرج إيدموند ورقة نقدية من فئة مئة كران من جيبه.
“هٰه؟! هذه كثيرة جدًّا!”
مئة كران تعادل راتبي الشهري!
“أليس عندك ورقة من فئة كران واحد؟”
“ولم أحمل معي نقودًا زهيدة كهذه؟”
كران واحد يُعدّ مبلغًا كبيرًا هنا أصلًا.
نظرتُ إلى القبعة، فرأيتُ أن الناس يضعون عملاتٍ صغيرة لا أوراقًا.
“حسنًا، كما تشاء. ليست أموالي على أيّ حال.”
ولمّا لم أمانعه، بدا أنه انزعج من لامبالاتي.
“قد تصبح أموالكِ لاحقًا.”
“هاه؟! أهي راتبي؟!”
فور أن أمسكتُ بيده مجددًا، ارتسمت على وجهه ابتسامة رضا، وأخرج ورقة أخرى.
“يا للكرم! عشرة كران دفعة واحدة!”، صرخ الرجل صاحب المسرحية بفرح.
إذًا كان معه ورقة أقلّ! هل كان يمازحني؟ نظرتُ إليه بحدّة، لكنه تابع سيره كأن شيئًا لم يكن.
“هل تُحب مسرح الدمى؟”
صحيح أن عشرة كران لا تساوي مئة، لكنها لا تزال مبلغًا كبيرًا، يُعادل في عالمنا نحو مئةٍ وخمسين ألف وون، مبلغًا محترمًا لعامة الناس.
“ليس سيئًا. إنها أول مرة أشاهده.”
بمعنى آخر، هو أعجبه.
“وهل تُحب الدمى أيضًا؟”
كنتُ قد سألته السؤال نفسه حين اكتشفت إصابته بالرصاص سابقًا. حينها كرهني بشدّة وردّ بسخرية، لكنه الآن … ربما يجيبني حقًّا؟
“الدمى …” ، تمتم مبتسمًا وهو ينظر إليّ.
“هل أبدو كمن يُحب أشياء كهذه؟”
“بالطبع لا.”
تخيلتُه طفلًا يعبس بوجهٍ متجهم ويقول ‘أنغ!’ بجدية.
“… صحيح، تمامًا كما قلتِ.”
قال ذلك ورفع كتفيه بخفة.
“لا أحب الدمى.”
كما توقّعت. الدمى لا تناسبه أبدًا.
“ولا حتى في طفولتك؟”
“ولِمَ يهمك إن كنتُ أحببتها أم لا؟”
هل أفرطتُ في السؤال؟ بدا عليه الانزعاج قليلًا.
“أوه، أصلًا … يُقال إنّ من الأفضل أن يتشابه الناس في أذواقهم وأفكارهم. فحين يتشابه ما يُحبّان وما يكرهان، تستمر العلاقة أطول، أليس كذلك؟”
تبريري بدا معقولًا، فتابعتُ مبتسمة: “رأيتُ حولي كثيرين لم تدم علاقتهم لأنهم كانوا مختلفين جدًّا، حتى لو أحبّوا بعضهم.”
“أحقًّا؟ أنا أرى الأمر بالعكس.”
رفع عينيه نحوي وقال بهدوء: “حين يكونان مختلفين جدًّا، يستطيع كلٌّ منهما أن يملأ فراغ الآخر.”
هل يقصد والديه؟
خشيتُ أن أكون قد لمستُ جرحًا، فحوّلتُ بصري.
“ربما … معكَ حقّ.”
“أترين؟”
ابتسم راضيًا بكلامي، ومضينا نتجوّل في الساحة.
“آه، ذاك لذيذ!”
أحسستُ بالجوع بعد السير، فرأيتُ كعكًا سبق أن اشترى لي غالرهيد مثله.
“تريدين أن تأكلي؟”
“صاحب السمو، إن دفعتَ بورقة مئة كران هناك فلن يعيدوا لك الباقي.”
“لا حاجة للباقي.”
كنتُ سأسأله إن كان المال يفيض عنه … ثم تذكرت أنه فعلاً يفيض، فصمتُّ.
“لكن بما أنك لا تحب الحلويات، فلنأكل شيئًا آخر.”
ما الذي يمكن أن لا يكون حلوًا؟ معظم أطعمة الشارع إمّا حلوة أو مالحة بشدّة.
ثمّ إن دعوة أمير لتناول طعام الشارع … تصرّف جريء فعلًا.
“ربما نذهب إلى مطعمٍ قبل أن يتأخر الوقت؟”
“ألم تكوني ترغبين في الحلوى؟”
“يمكننا تناول الحلوى في المطعم!”
أومأ موافقًا، ودخلنا مطعمًا فاخرًا. لم نحجز مسبقًا، لكن الوقت لم يكن وقت طعام، فوجدنا مقاعد شاغرة.
“ألا توجد طاولة بجانب النافذة؟”
رغم نبرته المتعجرفة، ظلّ النادل مبتسمًا مؤدبًا.
“عذرًا، سيدي. أماكن النوافذ مخصّصة للحجوزات أو للضيوف المميزين.”
لو علم النادل أنّ هذا الأمير أمامه، لأخلَى المكان فورًا.
“أنا مرتاحة هنا”
لكننا خرجنا بلا حرّاس، فلا ينبغي أن نكشف هويته.
وفوق ذلك، لون عينيه يفضح نسبه المختلط، ومع ذلك بدا الموظف ودودًا، على عكس ما حدث مع غالرهيد، فكنتُ راضية.
“حسنًا، كما تشائين.”
جلس إيدموند بصوتٍ خافتٍ لكنه جافّ، وجلستُ مقابله بحذر.
“ما الذي تودّ تناوله، يا صاحب السمو؟”
“ناديني إيد.”
“ماذا؟”
“ناديني إيد.”
‘إيد’؟ أليس هذا لقبًا حميميًا؟ لِمَ يطلب مني أن أناديه بها؟
“نحن نتجوّل متخفّين، فهل ستناديْنني هكذا أمام الناس؟ سيكون غريبًا.”
تنهد وهو يرى دهشتي. آه، فهمت الآن.
“هل يمكنني مناداة اسمك الحقيقي؟”
“لا. سيفهم الجميع فورًا من أكون.”
ابتسم بسخريةٍ وهو يسند ذقنه على كفه.
يا له من وجهٍ مثاليّ.
“هيا، قوليها. ‘إيد’.”
ابتسامته الخبيثة وعيناه المنحنيتان ذكّرتاني بلوسيد، فأدركتُ من جديد أن الدم بينهما واحد.
التعليقات لهذا الفصل " 46"