“يا صاحب السمو، ألن يكون رشّ الزهور وحده أمرًا باهتًا قليلًا في حفل الافتتاح؟”
كان النهار حارًّا إلى حدّ الاختناق، ورؤية إيكلا ملتصقة بإيدموند جعلتني أتنهد.
لم أستطع إلا أن ألاحظ من جديد مدى افتقار البطلة للّباقة.
أحقًّا تحتاج لأن تسأله عن كلّ تفصيل صغير كهذا؟
“الألعاب النارية لن تُرى جيّدًا في وضح النهار، فماذا لو استخدمنا بنادق هواء بدلًا منها؟”
والسبب في أنّ إيكلا تناقش إيدموند بشأن حفل افتتاح منطقة أومفا هو أنّني كنت أتولّى بالكامل نظام الرعاية الطبية، ولم يكن بإمكاني ببساطة أن أتابع كلّ الأمور الأخرى.
وبالنظر إلى ذلك، كان يمكن أن يتولّى دانتي أو حتى ناتاشا أو ماغو، الأكثر خبرة منها، هذه المهمة. لكن لأنّ إيكلا من أهل فوغليش، فقد كان سكان منطقة أومفا يثقون بها كثيرًا.
ولهذا السبب، اقترح جلالته بنفسه على إيدموند أن تتولّى إيكلا دور مقدّمة الحفل. وهكذا، تولّت عني مهام الافتتاح بدلًا منّي بطبيعة الحال.
“وجود الغرباء هناك يجعل إطلاق النار فكرة غير مناسبة. قد تذكّرهم بأيام الحرب. ثمّ إنّنا أقمنا للتوّ مهرجان السلام.”
“آه! حسنًا، إذن سأستبعدها”
وهكذا، بعدما تولّت إيكلا شؤون الحفل، صارت تركض إلى جانب إيدموند كلّما ظهر أمر جديد، ثمّ انتهى بها الأمر إلى أن أحضرت كرسيّها وجلست بجانبه تمامًا.
في ذاكرتي، كانت إيكلا في الرواية أكثر جرأة من هذا. كانت تعبّر عن رأيها بوضوح أمام إيدموند، وتعمل بجدّ من أجل فوغليش.
هل تغيّر ذلك بسبب تدخّلي في مجرى الأحداث؟ أم لأنّها تعرّضت لتوبيخٍ شديد بعد أن شكّلت مجموعةً تطوعية دون إذن؟ أصبحت الآن تستأذن في كلّ صغيرة وكبيرة، حتى في الأمور التي يمكنها التعامل معها بنفسها.
صحيح أنّ الاستئذان أفضل من ارتكاب خطأ كبير لاحقًا، لكن … أليس هذا مبالغًا فيه قليلًا؟
رؤية إيكلا ملتصقة بذراعه جعلتني أشعر بالضيق شيئًا فشيئًا. ألا يشعران بالحرّ؟ لماذا هما متقاربَين إلى هذا الحدّ؟
وبالأخصّ حينما كان صدرها يلامس ذراعه، كنت لا أملك إلا أن أشعر بالانزعاج من صدري المسطّح. ولماذا عليّ أصلًا أن أنزعج من شيء كهذا؟
“يا صاحب السمو، هل تعتقد أنّ الزينة المخصّصة للحفل كافية بهذا القدر؟”
لو كان إيدموند على طبيعته المعتادة، لقال: “إن كنتِ لا تستطيعين حتى اتخاذ هذا القرار، فدعي الأمر لغيرك!”
لكنه …
“ألا تريها مبالغًا فيها؟ فالبطل الحقيقي هنا ليس الحفل، بل منطقة أومفا نفسها.”
بعكس عادته، لم يتضايق، بل أجابها بهدوء.
“آه، صحيح. كما توقّعت، سموّك رائع حقًّا!”
ابتسمت وصفّقت بمرحٍ، فبدت غايةً في اللطافة، حتى كأنّها وُجدت لتكون البطلة فعلًا.
أما إيدموند، فقد ابتسم لها ابتسامةً رقيقة، كأنّ العالم من حولهما بات مشهدًا من فيلمٍ جميل.
كان النسيم يحرّك الستائر خلفه، فيتماوج الضوء والهواء.
وفيما كان الجميع يتحرّكون بانشغال، أحاطت بهما هالة هادئة مغايرة، وكأنّهما يعيشان في عالمٍ آخر.
كلّما رأيتُهما معًا، كنتُ أشعر أنّني لست سوى عائقٍ بينهما.
لو لم أكن هنا، لالتقيا منذ زمن، وربما كانت إيكلا تجلس الآن مكاني، وتحبّ إيدموند كما في الرواية الأصلية.
“ما بالكِ؟ هل ثمّة ما يزعجكِ؟”
تلاقت عيناي بعينيه. اندفع الهواء عبر النافذة المفتوحة، فرفرفت الستائر البيضاء، وبدا وجهه أكثر بروزًا تحت الضوء.
“آه، لا! لا شيء إطلاقًا!”
احمرّ وجهي دفعةً واحدة.
صحيح، الأبيض والأسود … مزيج مثاليّ منذ الأزل، أليس كذلك؟ حتى في الأحجار، الأسود والأبيض يتكاملان. وفي لوحات الحبر الصيني، تنسجم الظلال تمامًا! نعم، هكذا تمامًا!
“أوليفيا، أأنتِ بخير؟”
“هاه؟”
“وجهكِ أحمر. أخشى أنكِ تجهدين نفسكِ أكثر من اللازم.”
قالت إيكلا ذلك بنبرةٍ قلقة.
“إن كان من الصعب عليكِ إتمام الأمر وحدكِ، يمكنكِ أن تتركيه لي. فسموّه إيدموند يساعدني، وسننتهي بسرعة.”
هي تعمل منذ الصباح على تنسيق ديكور المنصّة وجدول الحفل، فهل يمكنها أصلًا مساعدتي في عملي؟ خصوصًا وأنّ نظام الرعاية الطبية هذا ليس مفهومًا موجودًا في هذا العالم!
“لكن لا، عليّ أن أؤدي عملي بنفسي. أتذكّرين؟ اتفقنا أنّ كلّ شخصٍ ينجز ما كُلّف به دون أن يلقيه على غيره.”
من وجهة نظرها، كانت نيتها طيبة. فهي البطلة ذات القلب النقيّ، وسترى أنّها فقط تحاول المساعدة.
أما أنا، فكنتُ في نظر هذا العالم جسمًا غريبًا، أتصرّف بدوافع غير بريئة تجاه إيدموند وغالرهيد.
“آه، آسفة.”
حتى بعد كلامي الحاد، اعتذرتْ فورًا دون تردّد. ولهذا تحديدًا، أجد نفسي أكرهها أكثر.
هي تقف في النور الناصع، وأنا في الظلّ القاتم.
كأنّي بطة سوداء وسط سرب أبيض.
“أوليفيا.”
“نعم؟”
بينما كنتُ أحاول التركيز مجددًا على العمل، سمعتُ صوته يناديني. كان صوته منخفضًا، لكنه بدا غاضبًا قليلًا.
انتفضت واقفة وتوجّهت نحوه.
“هل ناديتني يا صاحب السمو؟”
شعرتُ بتسارعٍ في دقات قلبي، مثل طالبٍ تلاقت عيناه بعيني أستاذه وهو يبحث عن أحد ليحلّ مسألة صعبة.
“تعالي معي.”
قالها بخطواتٍ واسعة متجهًا نحو الخارج. ماذا الآن؟ أليس لديّ عمل كثير؟ هل استدعاني فقط ليوبّخني على حديثي مع إيكلا؟
تنهدت ولحقت به. كنت أودّ أن أقول: “ولماذا؟”، لكن في النهاية، هو الأمير وأنا مجرّد تابعة.
هل قلت شيئًا أفسد الأجواء؟ هل سيؤنّبني؟ عليّ أن أكون حذرة.
سرت خلفه بخطًى متثاقلة، ورأسي مطأطأ. لم أجرؤ على النظر إليه، لكنني كنت أرى كعب حذائه الأسود يلمع، وخطواته ثابتة متناسقة.
رفعت بصري تدريجيًّا.
هل يتدرّب الأمراء على طريقة المشي أيضًا؟ كم هو مستقيمٌ في مشيته!
لم يلتفت حوله، فقط تابع السير بنظرةٍ ثابتة أمامه. كتفاه عريضتان، وظهره مشدود.
لم أره يومًا يطوي ساقيه وهو جالس، ولا يمدّ عنقه للأمام مثل الآخرين. هل تعكس الوقفة الشخصية فعلًا؟
رفعت ظهري مستقيمةً وأنا أرى انعكاسي في زجاج النافذة بجانبي.
تابع إيدموند السير خارج القصر بخطواتٍ حازمة.
إلى أين يأخذني؟ ألهذا الحدّ سيوبّخني؟
كان الطريق يؤدّي إلى الحديقة الخلفيّة، وهي مكانٌ خاصّ بالعائلة الإمبراطوريّة نادر الازدحام. أيمكن أن يعاقبني هنا بعيدًا عن الأنظار؟
التعليقات لهذا الفصل " 44"