غطّت ناتاشا فمها بصدمة، فحدّقتُ حولي متوتّرة من شدّة صوتها الأعلى من المتوقّع. لحسن الحظ كنّا قد انتقلنا إلى ناحية الحديقة الخلفيّة.
“نعم، أليس هذا غريبًا؟ ثمّ إنّ موضوع الزواج جانبًا، صرتُ أشكّ أصلًا هل نعتبر أننا ‘نواعد’ بعضنا فعلًا.”
كان الأمر غريبًا بحقّ. فلو كان الأمر يتعلّق بإيدموند كما أعرفه، لكان تقدّم بخِطبة مباشرة.
“هو غريب فعلًا. أنا، في الحقيقة، يومها … عندما رأيتُ نظرات سموّ الأمير إيدموند على المنصّة، كانت حادّة وحارّة لدرجة أنّي ظننتُ أنّكما ستذهبان رأسًا إلى قاعة الأعراس الجاهزة وتُتِمّان الزواج فورًا!”
“في الواقع أنا أيضًا اعتقدتُ أنّ هذا سيحدث.”
في الحقيقة، قبل اقتحام دانتي القاعة، كان الجوّ لطيفًا لدرجة أنّني كنتُ شبه متيقّنة من أنّني سأسمع منه عرض الزواج قريبًا. لكنّ إيدموند انشغل.
كان مشغولًا بإنهاء أمور الحرب الأهليّة، ثمّ بعدها انشغل بالتحضير لمراسم تنصيبه وليًّا للعهد.
انتظرتُ وأنا أتفهّم ذلك … لكن حتّى الآن لم يصلني منه شيء.
“لا، لكنّي كنتُ أرى كلّ يوم في مكتب العمل أنّكما ملتصقان ببعضكما، تتناديان بالألقاب اللطيفة! وفي أثناء تبادل الأوراق تمسكان الأيدي وتتصرفان بدلال … وكلّما رمقكِ سموّه بنظرة محرجَة وخرج من المكتب، تتبعينه أيضًا بطريقة واضحة. قلتُ لنفسي: آه، سيُعلنان الزواج قريبًا، لكن … مفاجئ”
“أحقًّا كنّا … واضحَين لهذه الدرجة؟”
كنتُ أظنّ أنّنا نُخفي الأمر جيّدًا بما أنّ المكان رسميّ للعمل، فحرّكتُ يدي بخجل وأنا أحكّ خدّي المحرِج.
“أوليفيا، ما رأيكِ أن تطلبي الزواج أنتِ أوّلًا؟ المرأة المبادِرة تكون جذّابة، تعلمين؟ تمامًا مثلما كنتِ تعترفين له كلّ يوم بأنّك تحبّينه.”
ضحكت ناتاشا بمزاح لطيف.
“في الواقع، أنا قلقة جدًّا هذه الأيّام. أخشى أنّ كوني من عامّة الشعب يجعلني غير مناسبة لأكون ولية العهد، وأنّ باقي النبلاء يعارضون ذلك.”
“مستحيل! وهل سموّ الأمير من النوع الذي يهتمّ بهذا؟ ثمّ ألا تعلمين أنّ الناس باتوا ينادونكِ الآن ‘القدّيسة’؟”
هذا صحيح، بسبب وصف يوهان لي بعبارة “الروح المحِبّة”. أصبح موقفي فجأة مختلفًا.
“لكن إن لم يكن هذا هو السبب، فلا أعرف ما السبب.”
“هل يكون سموّه … بارد العاطفة؟ في الحقيقة … هل سبق وأن تعرّض لأيّ تجربة مع النساء أصلًا؟ هو يخرج إلى العمل عند الفجر ويظلّ يعمل طوال اليوم.”
بارد العاطفة؟ لكن عندما أتذكّر قبلة ذلك اليوم … لم يكن يبدو عديم الخبرة على الإطلاق …
“يا إلهي، أوليفيا. هل أصابكِ برد؟”
“ماذا؟”
“وجهكِ محمرّ. ما زال الجوّ باردًا، هيا بنا إلى الداخل.”
لم يكن الجوّ ولا الزكام السبب. كنتُ أحاول نفض تلك الذكرى من رأسي بينما أسير خلف ناتاشا. لم يتبقَّ وقت كثير على استراحة الغداء على أيّ حال.
“أتعلمين؟ هل سمعتِ الخبر؟ غدًا موعد اختبار التخرّج في الأكاديميّة.”
نظرتُ إلى إيدموند بطرف عين. وبمجرّد أنّي فكّرتُ بالحديث أولًا … بدأ قلبي يدقّ بقوّة.
هل يصحّ أن أتقدّم بلا أيّ هديّة؟ لو باقة ورد على الأقل! أو طبق لذيذ! أو كأس نبيذ جيّد …
“فيا.”
ربّما أسأله سؤالًا خفيفًا لأستكشف رأيه؟ مثلاً، متى يفكّر بالزواج؟ سؤال بسيط لن يثقل عليه …
“فيا؟ هل شردتِ إلى هذا الحدّ لدرجة أنّك لم تسمعي ندائي.”
“ماذا؟ ههه … لا، لا شيء.”
“يا لكِ من غريبة. هيا، انهضي، سأوصلكِ.”
كنتُ أظنّ أنّ الأمر بسيط … فلماذا يدقّ قلبي هكذا؟
“سمعتِ؟ غدًا اختبار تخرّج الأكاديميّة. لا أصدّق أنّه مرّ عام تقريبًا منذ قدومكِ إلى مكتبي.”
“استمعتُ إلى ناتاشا قبل قليل تقول ذلك. الوقت سريع فعلًا.”
هل أسأله الآن؟ أم عندما نصل إلى مدخل المعبد؟
“بسبب ترك بعض الموظفين عملهم خلال الحرب الأهليّة، سينضمّ موظفون جدد. لذلك … أريدكِ أن تتولّي تدريب المنضمّين الجدد في مكتبنا.”
“آه، فهمت.”
“دانتي يجب أن يبقى ملازمًا لي كمساعد، وناتاشا لديها يد كامبيل منشغلة بها، فاعتقدتُ أنتِ الأنسب.”
“نعم، هذا صحيح.”
“…فيا، هل تستمعين إليّ أصلًا؟”
“نعم، فهمت.”
“… أوليفيا.”
توقّف إيدموند وشدّ على يدي، فعُدتُ إلى نفسي.
كانت نظراته قلقة.
“هل هناك ما يزعجكِ؟”
“لا… لا شيء.”
“إن كان لديكِ أيّ همّ، فاخبريني. لا يوجد بيننا ما يستدعي الإخفاء.”
جيّد، الآن! هذا هو الوقت المناسب. فقط اسأليه … متى يفكّر بالزواج؟!
“إيد… في الحقيقة…”
نظر إليّ بابتسامة تنتظر كلامي.
“فقط … الوقت مرّ بسرعة. وأنّ خليفتِي ستأتي، وهكذا …”
يا غبيّة يا أوليفيا. كان عليكِ قولها مباشرة. لقد ضيّعتِ الفرصة!
“صحيح، الوقت يمضي سريعًا. وأنا أشعر أنّ سنة أو سنتين ستمرّ بنفس السرعة.”
وبعدما ضيّعت الفرصة، لم أفعل إلا الاستماع إلى خططه كمستقبَل وليّ العهد.
“لذلك، في النصف الثاني من هذا العام، أريد قبول العامّة في الأكاديميّة التي أسّسها لوسيد سابقًا. إن طبّقنا نظام المنحة للعامّة فسيقلّ العبء عليهم. ثمّ في العام التالي نؤسّس فرعًا للأكاديميّة في الأقاليم. هكذا لن يضطرّ أحد للقدوم إلى العاصمة طلبًا للتعليم.”
لكن … هذه الخطة؟ كلّما استمعتُ أكثر، زاد شكي. خطّة تمتدّ لسنة أو سنتين … كرجلٍ لا ينوي الزواج قريبًا.
لا، لا يمكن … صحيح؟
“يا إلهي، يا فيا.”
“نعم؟”
“لقد بدأت السماء تمطر.”
تك— …
“آه، صحيح.”
مددتُ يدي في الهواء فوق رأسي فتساقطت عليها قطرات قليلة. يبدو أنّها زخة عابرة.
“لم أسمع أيّ تنبيه عن المطر. ماذا يفعل قسم الأرصاد هذا؟”
تمتم إيدموند بضجر. يبدو أنّ التنبؤ بالطقس هنا وهناك لا يمكن الاعتماد عليه.
“لا بأس لو مشينا هكذا تحته.”
“سيهدأ قريبًا، أليس كذلك؟”
“أعتقد ذلك. ليس غزيرًا. وإن أردتَ، أعطيك مظلّة من عندي وأنت عائد.”
دوّي— تراااك— …
“…….”
وفي تلك اللحظة، كأنّ السماء سخرت منّي، هطلت علينا أمطار غزيرة بشكل مجنون.
“هيا، لنركض.”
وخلع إيدموند معطفه ليضعه فوق رأسي كما في مشاهد الأفلام.
كنتُ غارقة أصلًا، لكنّي أحببتُ كيف أحاطني بذراعه بقوّة كي لا ينزلق المعطف، فتغافلتُ عن تنبيهه.
“المطر غزير جدًّا.”
وصلنا إلى المعبد أخيرًا، لكن المشكلة أنّ المطر صار أشدّ من قبل—كأنّ السماء انشقّت. لم نعد نرى أمامنا من شدّته.
“فيا، هل لي أن أستعير مظلّة؟”
“بالطبع، فقط انتظر قليلًا …”
لكن … لو عاد الآن سيُصاب بالزكام بالتأكيد. كان يبدو كفأر مبلّل. وعلى عكسي …
“إيد … هل تريد قضاء الليلة هنا؟”
“… ماذا؟”
اتسعت عينا إيدموند.
لكن … لم أسأله بعدُ عن الشيء المهمّ!
“ماذا تعنين …؟”
“صحيح أنّ قاعة الصلاة باردة قليلًا …”
يا ربّاه. بدا كلامي كما لو أنّني … أغويه؟
فسارعتُ بإضافة توضيح: “لكن بفضل تبرّع سموّك قبل نهاية الشتاء، أصلحنا النوافذ، واستبدلنا الأغطية بأخرى سميكة جدًّا!”
لم أكن أعرف أنّني عندما أتوتّر أتحدّث بسرعة!
“قد لا يناسب هذا مكانة وليّ العهد، لكن قاعة الصلاة أنظف مكان في المعبد … لأنّها مخصّصة للصلاة للحاكم …”
“آه …”
تمتم إيدموند وهو ينظر إلى حالته المبتلّة. لا بدّ أنّه منزعج.
فهو يميل قليلًا إلى النظافة المفرطة.
“ملابسك مبلّلة جدًا … وإن لم ترد البقاء، فانتظر فقط إلى أن يخفّ المطر. أظنّه مجرّد زخة. وحتى السيد فيليكس سيجد صعوبة بالغة في حمايتك في هذه الظروف.”
“… هاه.”
هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟
“هل تريد أن أُعيرك ثوبًا من أزياء الكهنة؟ قد لا أجد مقاسك …”
التعليقات لهذا الفصل " 129"