وحين حاول النهوض مترنّحًا من الدوار، ورأى وجهي، مدّ يده نحوي.
“لِمَ تبكين.”
“لأنّي سعيدة، ولأنّي مسرورة.”
“لقد أرعبتِني، ظننتُ أنّكِ متألّمة … لكن على أيّ حال ما الذي يحدث؟ هذا المكان الجنّة …؟ لكنّه يبدو كئيبًا قليلًا.”
عندها فقط بدا أنّ إيدموند رأى ما حوله، فشدّ قبضته على يدي محاذِرًا من البيئة المحيطة.
كيف لي أن أشرح كلّ هذا لإيدموند.
“هيا، أوليفيا. لقد حان وقت العودة.”
ابتسم يوهان ابتسامة وادعة، كابتسامة الجداريّات في قاعة العبادة، والتماثيل في ساحة المعبد.
“العودة؟”
“هل نسيّتِ عقدنا؟”
رفع ميفيستو ورقة في الهواء.
[عقد]
كانت الورقة الّتي أبرمناها معًا قبل خمس عشرة سنة.
“أوليفيا، لقد كسبتِ قلب سيّدك.”
ابتسم ميفيستو بينما أحرق الورقة.
“ولذلك، ووفقًا لمحتوى العقد، يمكنني أن أعيدك إلى العالم الّذي كنتِ تعيشين فيه.”
أعود؟ إلى عالمي الأصلي؟
نظرتُ بلا إرادة إلى وجه إيدموند. كان ما يزال لا يفهم ما يحدث، لكن يبدو أنّه استشعر الجوّ، فتجمّد وجهه.
“ماذا يعني العودة. ماذا يعني العالم الأصلي.”
اشتدّت قبضته على يدي، واهتزّ بصره بقلق.
“أوليفيا، ألم تكوني تريدين العودة.”
كوّن ميفيستو كرة صغيرة فوق راحة يده.
“لقد دخلتِ الجامعة بصعوبة، ألا تريدين متابعة الدروس؟ ألم تكُن لديكِ أشياء كثيرة تريدين تحقيقها في ذلك العالم؟”
وكما قال، نعم، كنتُ أريد العودة إلى الحياة لأحقّق الكثير.
“إن عدتُ، فحسب العقد سأعود إلى ما قبل موتي، صحيح؟”
إن عدتُ إلى اليوم السابق لموتي فسوف أتجنّب حادث الحافلة.
“بالطبع. إن لم تركبي تلك الحافلة، فلن تموتي مرّة أخرى في حادث مفاجئ. وستكونين إلى جانب أمّك تعينينها على التّعافي.”
ابتسم ميفيستو. كان صوته يضوع بحلاوة، تمامًا كوقته حين سلّمني المسدّس.
“هيا بنا معًا.”
“نعم؟”
قال إيدموند ذلك فجأة، وشدّ قبضته الممسكة بيدي.
“لا أعرف إلى أين تريدين الذهاب، ولكنّني لا أستطيع العيش من دونك. لذلك دعينا نذهب معًا.”
أيعرف أصلًا ما هو ذلك المكان ليطلب أن يأتي معي؟ إن ذهب إلى هناك فسوف يتخلّى عن كلّ ما يملكه هنا.
في عينيه الثابتتين رأيتُ نفسي أتزعزع. لم يعد مظهري هذا غريبًا عليّ: أوليفيا … لا، أنا الحقيقيّة.
وحسمتُ أمري.
“لن، أعود.”
“حقًّا؟ ألَنْ تندمي؟”
ضاقَت عينا ميفيستو.
“لن أندم.”
هززتُ رأسي مُتمّةً: “لو بدا على أمّي أدنى حزن، لتردّدت. لكنّها الآن تبدو سعيدة.”
إن كانت أمّي سعيدة، فهذا يكفيني. والأهمّ أنّ ابتسامتها هي ما يعني لي أكثر من أيّ شيء.
“أريد الآن أن أعيش من أجلي. في مكانٍ يحتاجني فيه شخص ما أكثر قليلًا.”
“إلى جانبي أنا، أليس كذلك؟”
امتدّت ذراعا إيدموند من خلفي، وشعرتُ بجسده الصّلب عبر ظهري.
“آه، حقًّا. لقد خسرتُ هذه الجولة تمامًا” ، قال ميفيستو ذلك، وبدأ يتحوّل إلى دخان انطلاقًا من قدميه.
“كنتُ أظنّ أنّه يمكنني إغواءك بسهولة. لماذا يبدو البشر أنانيّين، ومع ذلك إيثاريّين؟ مهما عشتُ آلاف السنين لا أفهم البشر.”
انتشر صوته المتلاشي بين الأشجار على نحو مخيف.
“أوليفيا، مع ذلك—”
كان ذلك عندما لم يبقَ من ميفيستو سوى وجهه.
“أظنّ أنّك رقتِ لي قليلًا.”
تمتم ميفيستو، ولمست شفتاه المتحوّلتان إلى دخان خدّي مرورًا.
“ما الّذي يهذي به هذا الوغد.”
تمتم إيدموند وهو يفرك خدّي بقفّازه بلا توقّف.
“هاها، أوليفيا. يبدو أنّكِ سرقتِ قلب ميفيستوفيليس أيضًا.”
ضحك يوهان ضحكة بريئة وكأنّ الأمر ممتع له للغاية.
“أُف، ولو أعطاني إياه فلن آخذه.”
اعترتني القشعريرة، لكنّ يوهان استمرّ في الضحك طويلًا.
“لكن ما هذا، هل سيتركنا هنا ونختفي نحن؟”
بعد أن فرغ من الضحك، شرع يوهان – وهو في الجسد الأصغر بيننا – يشتكي قائلاً: “آي يا ظهري.” ثمّ نقَر بأصابعه.
فأخذت الغابة المظلمة تزداد سطوعًا إلى أن صارت ناصعة البياض.
“يا إلهي.”
“ما هذا؟!”
سمعتُ همهمة النّاس. لكنّ المكان بارد قليلًا ليكون قاعة عبادة.
“أ، أليس ذلك سموّ وليّ العهد؟!”
“إنّه حقًّا هو! إنّه سموّه!”
فتحتُ عينَيّ فإذا بالمكان غير ما توقّعت. كنتُ أظنّ أنّنا عدنا إلى المعبد، بما أنّ ذلك المكان قد اختفى.
لكنّ المكان الّذي نقلنا إليه يوهان كان المنصّة الأماميّة للبوّابة الرئيسيّة، حيث سيُلقي إيدموند – وقد صار وليًّا للعهد بعد الزفاف – كلمة قصيرة أمام شعب الإمبراطوريّة.
مرّت نسمة باردة جعلتني أنكمش. فأُلقي على كتفيّ معطف بسرعة.
“سموك، ستُصَاب بالزكام.”
“أهمّ من ذلك ألّا تُصابي أنتِ.”
بدأت أصابعه الطويلة تُحكم زرّ المعطف. لم تكن هناك سوى بضع أزرار، لكنّها بدت كأنّها عشرات.
وعلى الرّغم من أنّ النّاس كانوا يشاهدوننا من أسفل المنصّة، فإنّ إيدموند لم يُبالِ، وأكمل إغلاق الأزرار، وخلع قفّازه ليضعه في يديّ.
“سموك، هناك جرح على ظهر يدك …”
ألم يكُن يكره أن يراه الناس عندما يكون مجروحًا؟
“جرحي أقلّ أهمّية من ألّا تبرد يداك.”
“لكنّي بخير.”
“مع ذلك ارتديهما.”
أخذ يدي الأخرى أيضًا وهو يتمتم: “بهذه الحجّة أمسك بيدكِ مرّة أخرى.”
شعرتُ بأطراف أصابعي تلتهب. وبعد لحظة، غطّى القفّاز الكبير يديّ، والتقت عيناي بعينيه.
ساد بيننا صمت غريب. مرّت بذهني عدّة صور. بطلٌ أنقذ البلاد يقبّل زوجته أمام النّاس. وحين أغمضتُ عيني ببطء …
“ما الّذي يجري هنا بحقّ السّماء؟!”
انطلق صوت كصوت ذبح خنزير. كان الرجل المتقدّم بثيابه الطويلة ليس سوى البابا. يبدو أنّه سمع بالفعل أنّ إيدموند ظهر هنا، وهو الّذي كان مختبئًا مرتعبًا قبل قليل.
“لقد ظهر شيطان في قاعة الزفاف وخطف العروس والعريس! لا شكّ أنّ هذا الزفاف ملعون!”
أخذ البابا يصرخ وهو يرافق عددًا من فرسان المعبد يعادلون فصيلة كاملة.
“ذلك الفوغليشي لا بدّ أنه تواصل مع الشيطان! بل إنّ سموّ وليّ العهد مُريب أيضًا!”
يبدو أنّ شجاعته انفجرت فجأة بعد أن لم يعد يرى الشيطان أمامه. كنتُ أحسبه سيظلّ محبوسًا في المعبد إلى الأبد.
“هاه، ومن المريب لمن؟”
نقر إيدموند بلسانه.
“هاها، يا له من ولدٍ لطيف.”
أطلّ يوهان من خلف إيدموند – حيث كان يختبئ طوال الوقت – وضحك.
“ماذا؟ أيّها الصبيّ قليّل التّربية! أتدري من أنا؟!”
شرع البابا يشير بإصبعه إلى يوهان. مسكين.
أليس البابا أكثر البشر قربًا إلى الحاكم؟ ألا يشعر بأيّ شيء وهو يرى يوهان؟
“آه، يا لغبائك أيّها الصغير. هذا اللباس لا يرتديه إلا طفلٌ يخدمني بإخلاص. ليس من يفتقر إلى التقوى والأخلاق.”
هبّت نسمة دافئة حول يوهان، وراحت ترفعه قليلًا. ثمّ ارتفع جسده كلّه. وظهر خيط من اللون الأخضر في عينَيه البندقيّتين.
“الآن أرى الأمر. لقد رَشَوتَ المسؤولين، وصَعِدتَ للمنصب بلسانٍ مدهون.”
وصلني صوته كأنّه يهمس قرب أذني.
“جريمتك خداعُ الحاكم. ستنال عقاب السماء.”
ومع تلك الكلمات دوّى البرق في سماء صافية، وانطلق نحو الأرض بين ساقَي البابا. وتشقّقت الأرض في المكان الّذي أصابه البرق.
“آاااه!”
صرخ البابا مرتعشًا، وابتلّت أطراف ثوبه.
“عـ، عـ، عقابٌ سماويّ!”
“إنّه الحاكم!”
وقف يوهان أمامي وسط هتاف النّاس الممزوج بين رهبة وتوقير.
التعليقات لهذا الفصل " 127"