كان الأمر غريبًا. لقد أطلقتُ النار بالتّأكيد. شعرتُ بردّة الفعل على ذراعي.
ومع ذلك، عندما أغمضتُ عينيّ وسط ذلك الصوت الهائل معتقدةً أنّني سأموت لا محالة، لماذا لم أشعر بأيّ ألم؟
“أوليفيا، افتحي عينيكِ قليلًا.”
أنا، التي عقدتُ عهدًا مع الشّيطان، لا يمكن أن أذهب إلى الجنّة، فلماذا أشعر بهذه الدِّفء والرّاحة؟ أهذا ما يُسمَّى الموت؟
“أوليفيا. لقد فزتِ، لذا افتحي عينيكِ.”
فُزتُ؟
فتحتُ عينيّ ببطء. أحسستُ بملمس السجّاد الطري تحت أطراف أصابعي. كيف أشعر بملمس شيء ما وأنا ميّتة؟
“حاولي أن تستفيقي قليلًا.”
إيكلا كانت تبتسم ابتسامة مشرقة. هل هذا حلم؟
قرصتُ خدّي. وشعرتُ بألمٍ حقيقيّ.
“ألا تعرفين بعد؟”
إيكلا شبكت ذراعيها ثمّ تغيّرت فجأة وسط صوتٍ صاخب.
“أنا ميفيستوفيليس.”
كان مظهر الشيطان الذي أعرفه.
“أ، أ، أنت؟!”
“كيــاه!”
“إنه شيطان!”
“شيطانٌ في المعبد! يا إلهي!”
أخذ النبلاء يصرخون وهم يركضون أو يختبئون تحت المقاعد الطّويلة وهم يرسمون علامة الصليب.
بعضهم اختبأ خلف البابا نفسه، لكنّ البابا كان يرتجف بدوره وقد جثا خلف المنصّة مرتعبًا.
“يا إلهي، ما هذا الضجيج؟ كأنّهم يرون شيطانًا لأوّل مرّة!”
“أليس من الطبيعي ألّا يروه من قبل؟”
“… يوهان؟”
كان هذه المرّة يوهان. يوهان ذو الشَّعر المنكوش والبسيط وقف أمام ميفيستو وحدّق به طويلًا.
“لقد فزتُ هذه المرّة أيضًا.”
كان يوهان هو من بدأ الحديث. ابتسم باسترخاء، فيما تجعّد فم ميفيستو وهو يشبك ذراعيه.
“حسنًا، خسرتُ، خسرتُ. هاااه. ظننتُ أنّني سأفوز حقًّا هذه المرّة.”
ما الذي يقولانه؟ نظرتُ إليهما بالتّناوب.
كنتُ بحاجة إلى من يشرح لي أيّ شيء الآن فورًا. وعندما لاحظ يوهان نظراتي، بدأ الكلام.
“لِنغيّر المكان أوّلًا. فالفضوليون كُثُر.”
“صحيح. ويجب إيقاظ ذاك أيضًا” ، قال ميفيستو وهو ينظر خلفي.
“يا صاحب السمو؟”
عندما رأيتُه مستلقيًا كمن نام وهو يحمل المسدّس، هوت روحي.
“إيد، إيد!!!”
هل يعقل أنّه مات؟
“لا تقلقي. إنّه بخير. هو فقط غارقٌ في نومٍ مؤقّت.”
“بالضّبط، هو بخير. فلنغيّر المكان أوّلًا.”
بمجرّد أن نقَر ميفيستو بأصابعه، تشوّهتْ المساحة من حولنا.
أغمضتُ عينيّ من الدوار، وعندما فتحتهما وجدتُ نفسي في ذلك المكان الذي زُرته مرّة من قبل: غابة ميفيستو.
“لماذا تجلبنا إلى مكانٍ شديد الامتلاء بالماجيا كهذا؟ لا يوجد لديك أيّ احترام للعجائز.”
نقر يوهان بلسانه ثم جلس على العشب بصوتٍ خافت.
وعلى الرّغم من ذلك، ظللتُ أمسح خدّ إيدموند الذي لم يفتح عينيه بعد.
“إيدموند سيستيقظ مع مرور الوقت.”
“هل هو بخير حقًّا؟”
“قلتُ لكِ نعم. لم يكن المسدّس يحتوي على رصاصة، بل على مادّة مُنوِّمة.”
مادّة مُنوِّمة؟ هل كان بداخل المسدّس غاز منوّم مثلًا؟
على أيّ حال، إن كان الأمر مجرّد نوم، فهو أمرٌ يُبعث على الارتياح.
دفعتُ شعره الطويل الذي انساب على وجهه جانبًا برفق.
“حسنًا، حان دور شرح الأمر لأوليفيا، أليس كذلك؟”
“أجل! فسّر لي ما الذي يحدث هنا بالضّبط!”
أفهم أنّ يوهان ليس إنسانًا، لكن ما هذا الحديث عن رهان؟ الأمور لا معنى لها.
هزّ ميفيستو كتفيه بلا مُبالاة.
“الأمر بسيط. لقد كان رهانًا بيني وبين ذاك العجوز.”
“والحقيقة أنه الرّهان الثاني. وقد فزتُ في كليهما.”
“هل تفخر بأنك تهزم شيطانًا صغيرًا يا عجوز؟”
“عجوز؟ ما هذا التّعالي؟”
شررٌ جديد تطاير بينهما.
“لحظة، لا أفهم بعد. إذًا … يوهان شيطانٌ آخر؟”
عند سؤالي، وقف يوهان بغضب كما لو أنّه ابتلع شيئًا مرًّا.
“كيف تجرؤين! تضعينني في مصافّ الشياطين؟!”، قال يوهان غاضبًا.
“لدي أسماء كثيرة، لكن في الإمبراطورية يعرفونني بهذا الاسم. باسم لايرا.”
“… لايرا؟ أنت هو الحاكم؟!”
الحاكم الذي كنتُ ألعنه دائمًا لأنّه لا يملك أيّ قوّة؟
تابع يوهان شرحه بهدوء.
وبحسب ما قال، فقد خلق عوالم عدّة عبر أبعاد مختلفة، ونشر معارفه وقصصه بين شتى البشر. ولذلك لُقّب في الإمبراطورية بالحاكم لايرا، وفي فوغليش بالحاكم فوري، وغيرهما من الأسماء.
روى يوهان لغوتر قصّة الرّهان الذي خاضه مع ميفيستو، ومن باب الامتنان، أعطاه غوتر جزءًا من اسمه، وقد أعجب يوهان بذلك فأصبح يُعرّف نفسه للبشر باسم يوهان.
“تقصد كاتب 『فاوست』 ذاك؟”
“نعم. لم يكن لديّ اسم ثابت، فأعطاني جزءًا من اسمه. أعجبني الاسم، لذا أستخدمه منذ ذلك الحين.”
هل يعني هذا أنّ『فاوست』 التي أعرفها كانت قصّة يوهان وميفيستو؟ شعرتُ بصداعي يشتدّ.
“لقد راهنتُ وميفيستو حول فاوست. كان ميفيستو يؤمن بأنّ الإنسان الصالح يمكن إفساده بسهولة، بينما كنتُ أؤمن بأنّ الإنسان الصالح سيهتدي إلى الطريق الصّحيح مهما كانت الإغراءات.”
“أعرف هذا الرّهان من الرواية. لكن ما الرّهان الثاني؟ لقد فزتَ بالرّهان الأول بالفعل.”
“كنتُ فضوليًّا فحسب. أردتُ أن أعرف: ما الذي يمكن أن يفعله الإنسان من أجل من يحبّه؟”
“ولكن لماذا أنا؟”
بل وبالذات بعد أن وجدتُ نفسي داخل جسد دميةٍ من عالمٍ آخر.
“ميفيستو، لا تقل لي أنّك قتلتني عمدًا؟”
“أبدًا! لو فعلت ذلك لما قبل العجوز هذا الرّهان!”
تذمّر ميفيستو.
“اخترتُكِ لسبب بسيط. كنتِ روحًا تحتضر، وكنتِ أكثر من تمنّى أن يعيش.”
“هذا طبيعي. كلّ من يموت يتمنى أن يعيش.”
“لا، أنتِ كنتِ تريدين العيش لأجل والدتكِ. ولذلك توقّعتُ أنّك ستوافقين على العقد إن علّقتُ عليه شرطًا يتعلق بوالدتكِ. كنتُ واثقًا أنّك ستفعلين أيّ شيء من أجلها. وفي هذا العالم، كان هناك طفل أيضًا فقد والدته. كانت روحكما متشابهتَين، فظننتُ أنّ الفوز مضمون.”
ارخى ميفيستو كتفيه ونظر إلى يدي.
وفي إصبعي الذي خفّ ضوءه، ظهر خاتم القدّيسة الذي كنتُ قد نسيته.
“هذا… الخاتم الذي جعلتَه يختفي…”
“حتى ميفيستو لا يمكنه لمس هذا. إنّه خاتمٌ مقدس أهديتُه لغريتن، ضحيّة الرهان الأول. لقد أخفيتُه عنكِ فقط.”
كان مجرد خداع؟ يا لوقاحة هذا الشيطان.
“لحظة، إذًا أمّي التي كان ميفيستو يُظهرها لي؟ كانت خداعًا؟”
“ليس خداعًا تمامًا. بل كان ما يُسمّى مرآة الماضي.”
ازداد شعوري بالسّواد.
“إذًا أمّي ماتت بالفعل؟ منذ زمن بعيد؟”
عندما انهمرت دموعي، مسحها يوهان بلطف.
“لا، أمّكِ حية. لقد أنهت جراحة السرطان والعلاج الكيميائي، وهي الآن مُتعافية تمامًا.”
قال يوهان إنّ حديث ميفيستو عن اختلاف الزمن كذب.
الزمن هنا وهناك يسير بالتّساوي، وقد مرّ 15 عامًا في عالمي الأصلي.
كانت أمّي في البداية منهارة تمامًا بعد موتي. رفضت العلاج والطعام وحتى النوم، ووصلت حالتها إلى الضعف الشديد.
وفي كلّ ذلك الوقت، كان أبي —ذلك الرجل— هو من بقي إلى جانبها.
“لماذا هو بالذات؟”
“مع ذلك، كانا يتبادلان حبًّا حقيقيًّا.”
قال يوهان كلامًا لا يكاد يُصدَّق، ثم تابع.
“اختارت أمّكِ ذلك الطّريق، لكن والدكِ أدرك الأمر وأنقذها. ظلّ يرجوها، ويتوسّل إليها، ويُطالبها بأن تعيش … بأن تحيا لأجله.”
“مستحيل. ذلك الرجل؟ لا يمكن.”
“لا داعي للشكّ. إنّ روحه مثقلةٌ بالذنب تجاهها. إن لم تصدّقي، أُريكِ ذلك الآن.”
تحدث يوهان بخفّة.
“لن تُريني مقطعًا آخر خدعًا مثل ميفيستو، أليس كذلك؟”
“طبعًا لا. لا تقارني ذلك الشيطان الصغير بي.”
ما إن أنهى كلامه حتى أضاء المكان. كان الضوء يشبه لمعان البحر أو نور شمس الصباح الأولى.
اجتمعت الأضواء في حلقات، ثم ظهرت على الجهة الأخرى صورة أمّي. أمّي تبتسم بسعادة إلى جانب ذاك الرجل.
“يا إلهي … هه.”
مرّت خمسة عشر سنة، وتغيّرت ملامح أمّي كثيرًا. لكنّها كانت سعيدة.
كانت تبتسم، ليس كأمّ فقط، بل كامرأة … وكانت أجمل من أيّ شخص رأيته.
التعليقات لهذا الفصل " 126"