كان راين، أحد أتباع بلاكوود، جالسًا في زنزانةٍ تحت الأرض، جسده مسترخٍ تمامًا. لا، بل مُقيّدًا. ذراعاه وساقاه مربوطتان بالكرسيّ منذ زمنٍ طويل، وعيناه معصوبتان.
لم يعد يعرف إن كان الوقتُ نهارًا أم ليلًا، فلم يبقَ لديه سوى التّعب.
في البداية، صاح بجرأةٍ في الفراغ: “هل تعرفون من أنا؟ لن أترككم!”
لكنّ الطّرف الآخر لم يفعل شيئًا سوى تركه مُقيّدًا.
لا أسئلة، لا تعذيب. لذا بدأ الخوف يتسلّل إليه.
كان يفضّل لو طُلب منه شيءٌ ما، فالفراغ أرعب. عدم وجود أيّ طلبٍ جعله يخشى أن يُترك ليذبل حتّى الموت، فشلّ تفكيره.
صرير-
عند صوت الباب القديم يُفتح، انتفض جسد راين.
دخل أحدهم، بل اثنان على الأقلّ بحسب خطوات الأقدام.
ربّما فرصة.
“مـ-من أنتم بحقّ الجحيم؟”
لم يجبوه بصوتٍ خشنٍ رديء. بل قالوا ما يريدون فقط.
“أجب على أسئلتي بصدقٍ، وسأطلق سراحك بهدوء.”
قال إيدموند وهو يتفحّص راين ببطء.
“من هي المرأة التي طلبت منكم قتل أوليفيا؟”
حينها خمّن راين الشّخص أمامه.
“إن أخبرتك، ستخرجونني من هنا؟”
“نعم. بأطرافٍ سليمة.”
ابتسم راين ابتسامةً عريضة.
“حـ-حسنًا. سأقول كلّ شيء!”
كان إيدموند يظنّ منذ البداية أنّ الإمبراطورة هي الدّاعمة.
لكن عند سماع اقتراب إيكلا من لوسيد عمدًا، خطرت له فكرة.
أوليفيا المُصابة بالرّصاص، وإيكلا التي ظهرت فجأةً ودخلت مكتبه.
“تكلّم. الآن”
“تلك المرأة. إنّها هي—”
ابتلع راين ريقه رغم عدم رؤيته، من هالة القتل المنبعثة.
“إيكـ-إيكلا، فوغليشيّة. تعمل تحت إمرة صاحب السموّ إيدموند، بالتّأكيد هي.”
قبض إيدموند قبضته بشدّة. مستحيل، لم يكن لوسيد فقط، بل اقتربت منه هو أيضًا عمدًا منذ البداية.
“ما دليلك لأصدّقك؟”
“اذهب واسألها بنفسك.”
حتّى لو سأل، لن تعترف بصدق. أي لا دليل.
“قلتُ الحقيقة، أطلق سراحي الآن! يمكنني الذّهاب معك كشاهد!”
رفع إيدموند شعره بعنف.
“فاكيل.”
“نعم؟”
لم يستطع فاكيل استيعاب اتّهام إيكلا فجأة. ما هذا الهراء؟ لكنّ صاحب السموّ كان هادئًا أكثر ممّا توقّع، كأنّه استعدّ.
“أين إيكلا الآن؟”
“دخلت القصر اليوم لتحضير الزّواج. في هذا الوقت، ربّما تُدرّسها أوليفيا شجرة عائلات النّبلاء.”
“هيّا، لنذهب إلى هناك.”
“انتظر صاحب السموّ! اشرح لي ما يحدث!”
صاح فاكيل وهو يتبع إيدموند.
صاح راين المُقيّد أن يأخذوه معهم، لكنّ باب السّجن الثّقيل أُغلق، ولم يبقَ سوى صوت سلاسل الحديد.
***
دخلت إيكلا القصر. لتعلّمها كوليّة عهد.
“الجدول ضيّق جدًّا يا إيكلا. هناك الكثير للحفظ.”
فكّرتُ فعلاً في الاستقالة. فكوني مساعدة إيدموند يعني تحضير زفافه.
موعد زفافه سيكون في نفس يوم ميلادي …
لكنّ الاستقالة تعني عدم رؤيته مجدّدًا حتّى أختفي من هذا العالم. ليس من السّهل مقابلة أميرٍ في الشّارع.
بدلاً من ذلك، أردتُ رؤيته ولو مزّق قلبي الألم.
أردتُ قضاء ما تبقّى من حياتي بجانبه، ولو قليلاً.
أنانيّةٌ تجاه أمّي، لكنّني ظننتُ أنّها ستُغفر.
آه، عندما تذكّرتُ أمّي، شعرتُ بحرقةٍ في أنفي فشهقتُ.
“يا إلهي يا أوليفيا، ما بكِ؟”
أمسكت إيكلا يدي بحذرٍ عند رؤيتي هكذا.
“آه، فهمتُ. يقولون إنّه عندما صديقة مقربةٍ تتزوّج فتبكين، أليس كذلك يا أوليفيا؟”
“ههه، ربّما.”
اختفت الدّموع عند كلام إيكلا. متى كنّا صديقتين لتقول هذا؟ على أيّ حال، جيّد أنّها جفّت. لا يمكنني التّجوّل في القصر باكيةً بائسة، فمعظم النّاس يعرفون التّيّار بيني وبين إيدموند.
“سيّدة إيكلا، سنقيس مقاس الفستان أوّلاً.”
“نعم!”
ابتسمت إيكلا بسطوعٍ، و وجهها سعيد.
راقبتُها تقيس وتجرب عشرات تصاميم فساتين الزّفاف.
شعرتُ بالصّدمة: لماذا أختار فستانًا لامرأةٍ ستتزوّج الرّجل الذي أحبّه؟
“أوليفيا، كيف يبدو؟”
كانت في فستانها العاشر أو نحو ذلك.
“آه …”
عرفتُ فور رؤيته.
إيكلا على غلاف تلك الرّواية الإلكترونيّة التي رأيتُها أوّل مرّة، تبتسم أمامي. فستان زفافٍ أبيضَ عاجيٍّ مرصّعٌ بجواهر لا تُحصى، يناسبها تمامًا.
“يناسبكِ جدًّا. حقًّا.”
مع تاجٍ على ذلك الفستان، كانت تمسك ذراع إيدموند.
آه، الرّواية تسير كما في الأصل إذن.
مستقبل إيدموند سعيدٌ إذن. نعم، هذا يكفي.
همستُ لنفسي كلماتٍ للتّعزية وتابعتُ جدول إيكلا.
قلعة هيليودور المخصّصة لوليّات العهد عبر الأجيال مليئةٌ بالأجواء القديمة. لم أكذب حين قلتُ إنّ الجدول ضيّق.
ترتيب الحفل والآداب كتابٌ كامل، وكأميرةٍ وليّة عهد ستدير الشّؤون الدّاخليّة أيضًا، فالكثير للتّعلّم.
جلست إيكلا على المكتب تمضغ طرف القلم بملل.
“إيكلا، هل تسمعينني؟”
“لا. مملّ جدًّا.”
“حتّى لو مملّ، احفظي سريعًا. الـ12 عائلة نبيلة كبرى ستحضر الحفل بالتّأكيد، وستواجهينها بعد أن تصبحي وليّة العهد.”
هل تسمع حقًّا؟ كتمت إيكلا تثاؤبًا وأجابت “نعـم نعـم” بطول.
كنتُ أفكّر كيف أوبّخ هذا التّصرف حين انفتح الباب فجأة.
“إيكلا!”
كان إيدموند. اقترب بخطواتٍ سريعةٍ غير معتادة وجذب كتفيها.
“…صاحب السموّ، اشتقتَ إليّ إلى هذا الحدّ؟”
“هل صحيح؟”
“ماذا؟”
“تعاونتِ مع لوسيد، وكلّفتِ بلاكوود بقتل أوليفيا.”
المفاجأة كانت لي. إيكلا تتعاون مع لوسيد؟ وتكلّف بقتلي؟
بالطّبع علاقتنا ليست جيّدة، لكن اختطافي من بلاكوود كان في بداية ظهور إيكلا. لا سبب لها لتكليف قتلي.
لم تتحرّك إيكلا. غطّت فمها بـ”أوه” ثمّ ابتسمت بإشراق.
“وهل يتغيّر شيءٌ إن قلتُ؟”
مالت رأسها فتمايل شعرها المجعّد بحنان.
“نعم، أنا فعلتُ. أفضل عدم وجود امرأةٍ أخرى بجانبك، لأكسب قلب صاحب السموّ بسهولة.”
انطوت عيناها الحمراوان بابتسامة.
“ليس ذلك فقط. تسليم المخطّط لحارسٍ في حفل أومفا، نشر شائعةٍ عن فوغليشيّ في المسرحيّة.”
همست إيكلا وهي تنفض الغبار عن كتف إيدموند.
“تحريض الإمبراطورة لإشعال حربٍ أهليّةٍ لطرد فوغليش من الإمبراطوريّة، أنا. أخبرتُها عن عداوة بانديون وبورياس. آه، لكن الحكم بالبراءة كان بأمر الإمبراطورة.”
“لماذا إلى هذا الحدّ؟”
“لأنّني راهنتُ بالكثير في هذه اللّعبة.”
ابتسمت إيكلا وهي تنظر إلينا بالتّناوب بكلامٍ غامض.
“صاحب السموّ، لا أريد سوى الزّواج بي. تزوّجني واجعل أوليفيا محظيّةً، لا بأس. لا داعي لليلة الزّفاف أو حتّى الاقتران.”
قالت لي إنّها تحبّ إيدموند، لكنّ تعبيرها الآن لا يدلّ على حبّه أو طمعٍ في السّلطة.
“فكّر في شيءٍ واحد فقط. ما ستكسبه من زواجي. سلام الإمبراطوريّة، استقرار منصب وليّ العهد.”
أمسكت إيكلا يد إيدموند ببطء ومسحت ظهرها.
“على أيّ حال، لا تستطيع فعل شيءٍ الآن.”
لم أفهم نوايا إيكلا أبدًا.
“أوليفيا، يبدو أنّ الدّرس اليوم فاشل؟ من الغد سوف نجتهد سويًا، حسنًا؟”
لماذا تغيّرت بطلة الرّواية هكذا؟ نظرنا أنا وإيدموند إلى الباب الذي خرجت منه إيكلا مذهولين.
التعليقات لهذا الفصل " 120"