حتّى بعد العودة إلى الغرفة، ظلّ حواري مع يوهان يدور في رأسي.
‘مستحيل، هذا لا يعقل.’
ماذا لو كان لوهاس مختبئًا فعلاً في منطقة أومفا؟
بعد ليلةٍ من الأرق، قرّرتُ أن أخبر إيدموند مهما كلّف الأمر، فالأسوأ لن يضرّ.
لذا، ما إن وصلتُ إلى القصر الإمبراطوري حتّى بحثتُ عن إيدموند.
“أمـم … صاحب السموّ.”
كنتُ أخاطب إيدموند الجالس على المكتب.
“صاحب السموّ!”
اندفع فاكيل داخلًا وهو يتصبّب عرقًا.
“لقد أمسكنا بلوهاس! أمسكنا بلوهاس!”
وخلفه يُسحب لوهاس الذي طالما أردنا القبض عليه.
“سيد فاكيل، كيف حدث ذلك؟ أين وجدتموه؟”
“المدهش أنّ هذا الرّجل كان مختبئًا في منطقة أومفا.”
“ماذا؟”
انخفض قلبي فجأة. هل كان مختبئًا حقًّا في أومفا؟
“لكن كيف؟ مهما اختبأ جيّدًا! من المستحيل أن يبقى في أومفا طوال فترة الحرب الأهليّة!”
خطر التّعرّض للاكتشاف كبير جدًّا.
“صبغ شعره وغطّى وجهه بصبغةٍ خاصّة.”
“كان يتظاهر بأنّه أجنبيّ.”
كان يحتقر الأجانب إلى هذا الحدّ، ثمّ يتنكّر كواحدٍ منهم ليحيا، فما أغرب ذلك.
نهض إيدموند ببطء من مقعده، بحركةٍ هادئةٍ كأنّه كان يعلم أنّ لوهاس هناك، شبيهًا بنمرٍ أسود.
“الآن، تكلّم بصدق.”
قال إيدموند للوهاس الذي يتردّد في فتح فمه.
“من أمرك؟”
“لا أحد أمرني!”
صرخ لوهاس مرتجفًا.
“لا تكذب!”
سحب فاكيل سيفه، فشعر لوهاس ببرودة النّصل على عنقه، فشحب وجهه وكتم أنفاسه.
“لا أعلم ما وعدك به صاحب السموّ لوسيد، لكن هل يفوق حياتك أهميّة؟”
في الواقع، لم يكن لدينا دليلٌ على تواطؤ لوهاس ولوسيد، مجرّد شكوك. فقد كان لوهاس مرشد لوسيد يوم زيارته أومفا.
“ما الذي حصلتُ عليه؟ لا شيء!”
ربّما من الرّعب بسبب السّيف على عنقه، أو ربّما استسلامًا، صرخ لوهاس بمظهر الظّلم.
“ذلك اللّعين وعد بمنحي السّلطة إن قتلتُ أيّ شخصٍ لأثير غضب الأجانب! لكنّه أراد قتلي فور إنهائي المهمّة!”
تحدّث لوهاس وكأنّه مظلومٌ جدًّا، بشكلٍ سخيف.
“هربتُ بالكاد بعد طعنةٍ، ثمّ اختبأتُ تحت الجثث لأعيش. هناك فقدتُ الوعي مرّة … وكدتُ أُحرق. هذه الحروق من هناك! وكلّ يومٍ أعيش في رعبٍ من الموت.”
ما الذي يحزنه ويغضبه إلى هذا الحدّ؟ بكى بعيونٍ محمرّة، ولم أفهم.
قتل طفلًا بريئًا لطمعه، ثمّ لم يحصل على المكافأة فيعتبر نفسه بريئًا؟ كان يبكي ظلمًا ويلقي اللوم كلّه على لوسيد، فنظرنا إليه بازدراء.
***
في البداية، أنكر لوسيد والإمبراطورة إمباتس التهم بشدّة.
لكنّ خيانة بيلوفان وكونت لامبرانت السريعة كشفت كلّ شيء.
كان صحيحًا أنّهم دبّروا لبورياس إطلاق النّار على بانديون، وبما أنّ مهارته رديئة، أصبح جاك حارس لوسيد قنّاصًا فأصاب بانديون وأسـيس.
واعترف بيلوفان بأمر قتل الطّفلة للوهاس، فثار النّبلاء.
“الإمبراطورة والأمير! يدفعان الإمبراطوريّة إلى الهاوية من أجل السّلطة، لا يُصدّق!”
انضمّ كونت سوفلمان إلينا تمامًا. وبعودة كونت سوفلمان النّبيل التّقليديّ إلينا، تردّدت فصائل النّبلاء الأخرى.
فانضمّ نصف عائلات النّبلاء إلى جانب إيدموند، ما عزّز موقفه كوليّ عهدٍ مستقبليّ.
“يجب إعدامهما!”
“الأمر انتهى. هل يلزم الإعدام؟”
“ها! كنتَ تثير ضجّةً لمقتل ابنة أختك!”
بينما ارتفعت أصوات النّبلاء، سُجن الإمبراطورة ولوسيد في زنزانةٍ تحت الأرض.
***
في اليوم التّالي، زرنا لوسيد—
“ها، جئتما للسّخرية من مصيري الجيّد؟”
ما إن دخلنا السّجن مع إيدموند حتّى سخر لوسيد وبدأ الاستفزاز، دون أيّ ندم.
نعم، هذا لوسيد.
“بسببكما مات الكثيرون. لذا لا توجد رحمة.”
عندها فتحت الإمبراطورة إمباتس عينيها المنهكتين—
“إذن الإعدام.”
تمتم لوسيد بهدوء.
“سعيدٌ أنّك تعلم. لماذا فعلتَ ذلك الغباء؟ كان التحالف مع النّبلاء لإزاحتي أسرع.”
ضحكت الإمبراطورة عاليًا عند كلام إيدموند.
“كنتُ سأجعل زوجةً تناسبك كرّاقصة رّخيصة فوغليشية، ثمّ أدّعي قلقي عليك، وأرفع لوسيد إلى منصب وليّ العهد، فتنتهي خطّتي كاملة.”
توقّفت الإمبراطورة فجأة عن الضّحك، ونظرت إلى إيدموند بشراسة.
“كان يجب أن أقتلك مع تلك الرّاقصة الفوغليشيّة الرّخيصة.”
“ماذا تعنين؟”
ردّ إيدموند بحدّة.
“تقصدين أمّي؟!”
أمسك إيدموند بياقة الإمبراطورة، فحاول الحرّاس إيقافه.
“ظننتَ أنّ أمّك قُتلت فقط من قبل محافظين أجانب؟ غبيّ!”
بينما ترتجف من قبضة إيدموند، بصقت الإمبراطورة في وجهه.
“أولئك أجانب رشوتهم أنا. قبضا المال مقابل قتلها، لكنّهما فشلا.”
ازدادت قبضة إيدموند قوّة. لا، إن أصابها إيدموند هنا ستكون مشكلة.
بالطّبع ستُعدم، لكن لا داعي لإدانة إيدموند.
“بذلتُ جهدًا لقتلك لكنّك نجوتَ. كالأعشاب، مهما دُستَ تنهض.”
ابتسمت الإمبراطورة بسخرية، فأرخى إيدموند يده، ربّما استعاد عقله.
“لو متّ، لتولّى لوسيد العرش. أن يصبح شخصٌ مثلك إمبراطورًا، فمستقبل الإمبراطوريّة مظلم.”
“لا تقلقي عبثًا. لن تكوني في ذلك المستقبل.”
“نعم، محظوظةٌ أن أموت قبل رؤية تلك القذارة.”
“صاحب السموّ! الإمبراطورة!”
صرخ فاكيل. لقد سال الدّم من فم الإمبراطورة.
“يا للهول!”
هل أعدّت سمًّا قبل السّجن؟ هكذا صارت الإمبراطورة جثّةً باردةً في السّجن.
وسط الصّدمة ، كانت عينا لوسيد الخضراوان تتّجهان نحوي.
“أنا فقط … كان حبًّا فقط.”
تمتم لوسيد.
“حبًّا؟”
لم أكن الوحيدة المذهولة من هذا القول، إذ نظر الجميع إلى لوسيد بغرابة.
“لم أرد أن تُؤخذ أوليفيا من قبل أجانب. كيف تكون بجانب غالرهيد؟ مستحيل. أردتُ امتلاكها. أردتُها.”
بدت تمتمات لوسيد كمجنون.
نهض ببطء فأوقفه الحرّاس فورًا.
“أنا أيضًا أردتُ ذلك! أردتُ حبًّا أعمى يضحّي بحياته من أجلي. أردتُ أن أكون في تلك العينين الزّرقاوين!”
رغم قبضة الرّجال القويين على ذراعيه، اندفع لوسيد نحوي ممدًّا يده.
“لو أزلتُ كلّ الأجانب فس العالم! لو محوتُ كلّ من فيه دم فوغليشي! عندها ستنظرين إليّ. وإن لم تنظري، سأقتل آخر، ثمّ آخر، حتّى تتّجه عيناك الزّرقاوان نحوي يومًا.”
لكن يده لم تصلني، فقد حماني إيدموند خلفه.
“لن يحدث. لن تكون في عيني أوليفيا أبدًا.”
“لماذا، أخي؟ أنت أيضًا لن تكون.”
ضحك لوسيد.
“لأنّك ستتزوّج إيكلا. كلام أمّي صحيح. القمامة في سلّة القمامة. فوغليشي يليق بفوغليشية.”
“الفوغليش ليسوا قمامة.”
“بل هم. قمامة جاءت لتجنّب الحرب، ثمّ طُردت حتّى من ذلك البلد.”
لم يتنازل لوسيد عن رأيه حتّى النّهاية.
التعليقات لهذا الفصل " 118"