كنتُ أتمنّى ألّا يكون طعمُ القبلة الّتي أتشاركُها مع مَن أُحبّ، القبلةُ الأولى مع أوليفيا، مغمورة بهكذا دموع.
كنتُ أرجو أن أقدّم لها شيئًا رائعًا في مكانٍ جميل، وأن أقول لها كلماتٍ حلوة تُسعدها. على مهل، وبقدرٍ أكبر من الرّاحة.
أردتُ أن أُظهر لها جانبًا ناضجًا.
لكن شفتيّ ولساني المتجمّدان من البرد لم يتحرّكا كما أردت.
‘المضحك حقًّا أنّ الأمر كان جميلًا رغم ذلك.’
“يدُها الّتي أمسكت بثيابي كأنّها لا تريد أن تُفلتني، كلّ ذلك بدا لي محبوبًا.”
‘لو أستطيع ترك كلّ شيء وأمسك بيدها… وأهجر الإمبراطوريّة معها فقط….’
“هاه…”
أطلق النفس الّذي كان يحبسُه.
انتشرت أنفاسه البيضاء أمام وجهها.
وسط بخار النَّفَس الأبيض، التقت عيناه بعينيها الشبيهة بلون السّماء. عينا أمّه الّتي ظلّت تشتاق إلى سماء موطنها.
والآن كانت تلك العينان ممتلئتين بالدموع.
“أوليفيا.”
رفع يدَه ليمسح دموعها، فرأى الجرح على ظهر يده اليسرى.
ذلك الجرح كان بشعًا بالنسبة إليه. ذكرى اليوم الّذي فقد فيه أمّه، والدليل على ضياع دميتها العزيزة.
كان يبذل جهدَه ألّا ينسى كلّما نظر إليه. لأجل وصيّة أمّه، كان يؤمن أنّ عليه أن يصبح إمبراطورًا.
لقد أقسم ألّا يكون مثل والده الّذي ظلّ عاجزًا عن تنفيذ إرادته تحت ثقل نفوذ النبلاء.
لكنّ النتيجة؟ ها هو يصبح وليًّا للعهد لأسبابٍ أسوأ ممّا عاشه والده. أن يصبح وليًّا للعهد بتزويجٍ مفروض بفعل ضغط الدول المجاورة … يا لها من سخرية.
“لا تبكي. الخطأ خطئي.”
لكنّه لم يكن يملك خيارًا آخر. والده، بعد أن فقد زوجته، شعَر بأنّ كلّ شيء صار بلا معنى … ومع ذلك تولّى العرش في نهاية المطاف.
“سأتوقّف عن العناد. سأفعل كما قلتِ.”
فقط لأنّ المرأة الّتي يُحبّ طلبت ذلك.
مسح إيدموند خدّ أوليفيا بحرص. أراد أن يمسح دموعها، لكنّ الدموع الّتي تجمّعت بعينيه جعلته عاجزًا عن رؤية ملامحها بوضوح.
أراد أن يحفظ منها قدرًا أكبر في عينيه، لكنّ دموعه انهمرت كأنّها كلّ دموع عمره، فلم يعد قادرًا على رؤيتها.
وأوليفيا أيضًا كانت تبكي. أراد أن يمسح وجهها المتجمّد من هواء الشتاء، لكنّ الرؤية المشوّشة جعلت ذلك مستحيلًا.
ارتجفت يداه الحمقاء.
“سأتزوّج تلك المرأة. وسأصنع إمبراطوريّةً يعيش فيها الجميع، أصحاب الدّم المختلط، والأيتام، والعامّة … جميعهم بسلام.”
“…نعم. أرجوك.”
أومأت أوليفيا.
أدار إيدموند جسده بصعوبة، كأنّ قدميه لا تريدان الابتعاد.
مع كلّ خطوة كان يشتاق إليها. لقد رآها للتوّ، وكانت بين ذراعَيه منذ لحظات، لكنّ الشوق بدأ ينهش صدره.
ظلّ يلتفت إلى الخلف كلّ بضع خطوات. ما إن يظنّ أنّه ابتعد كثيرًا، حتّى يدرك أنّه لم يقطع عشرة خطوات كاملة.
“سيكون الجوّ باردًا … ادخلي إلى الداخل بسرعة.”
أوليفيا لم تتحرّك من مكانها، كأنّ قدميها ثقيلتان مثل قدميه.
ندم على تجاهل صراخ فاكيل الّذي قال له أن يرتدي معطفه قبل الخروج. لو كان معه معطف الآن، لكان على الأقلّ قادرًا على حجب الريح الباردة الّتي كانت تضرب جسد أوليفيا.
“آه … القفّازات.”
نظر إلى القفّازات المدسوسة في جيب بنطاله، ثمّ هزّ رأسه.
إن عاد الآن، فلن يستطيع تركها فعلًا.
يجب أن يغيب عن مجال رؤيتها بسرعة … كان يظنّ أنّ ذلك هو أفضل طريقة.
ضغط إيدموند خطواته الثقيلة على الثلج الأبيض، تاركًا وراءه ما تبقّى من تردّد.
الثلج الّذي نزل مبكّرًا في أوّل الشتاء لم يكن يتراكم، بل كان يذوب مباشرة، مُلطّخًا الأرض.
***
“يا صاحب السمو، هل أنت بخير؟”
فاكيل الّذي كان ينتظر إيدموند بقلقٍ شديد، ركض نحوه ما إن رآه يقترب من بعيد.
من كتفَيه المنهارَين بدا واضحًا أنّ الأمور مع السيّدة أوليفيا لم تسر على ما يُرام.
كان يريد، من كلّ قلبه، أن يقول لسيّده إنّ بإمكانه التخلّي عن كلّ شيء.
“أنا بخير.”
لكن صوت إيدموند كان متشقّقًا، وعيناه المتورّمتان من البكاء قالتا العكس تمامًا.
لم يستطع فاكيل سوى أن يضع المعطف على كتفَي إيدموند بصمت، عاجزًا عن تقديم أيّ عزاء آخر.
لو كان يعرف إيدموند منذ زمن مثل فيليكس، هل كان ليقول له ببساطة أن يكون أنانيًّا ولو مرّة؟ أو لعلّه كان قادرًا على إلقاء كلمات مواساة خفيفة دون تردّد؟
“فاكيل.”
“نعم؟”
ابتلع فاكيل ريقه بلا وعي. تحت خيوط الثلج الممزوج بالمطر، بدت عينا إيدموند الحمراوان تتلألآن كجوهرة.
كان يشبه ذئبًا التقط فريسته.
“هناك أمر عليك أن تقوم به.”
قالها إيدموند بصوت هادئ، كمن يُلقي حكمًا.
“أرجوك.”
ما إن انتهى أمر إيدموند، حتّى أومأ فاكيل بوجهٍ حاسم.
“سأمتثل للأمر.”
ثمّ اختفى مسرعًا داخل الظلام. أمّا إيدموند، وقد ظلّ ينظر إلى ظهره، فقد مدّ يده نحو السماء.
ما تساقط منها لم يكن ثلجًا ولا مطرًا؛ ما إن يلامس راحته حتّى يذوب ويختفي بلا أثر.
“لا يمكن … لا يمكن أن أتخلّى هكذا.”
طلبت منه أوليفيا أن يتخلّى عنها … لكن ذلك مستحيل.
لم يستطع تخيّل نفسه يتنفّس تحت سماء لا تكون أوليفيا فيها قربه.
التعليقات لهذا الفصل " 117"